«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

شعراء وكتاب عرب يتحدثون لـ «الشرق الأوسط» عن معايشتهم للتجربة والكتابة عنها

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية
TT

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

«أدب السجون»... قصائد مهرّبة وسرد مثقل بالشوق للحرية

أعاد فوز الكاتب الفلسطيني باسم الخندقي الذي يقضي سجناً بالمؤبد مدى الحياة في السجون الإسرائيلية بجائزة البوكر العربية عن روايته «قناع بلون السماء» ما يعرف بـ«أدب السجون» إلى الواجهة، وهو الأدب الذي رافق نشأة السجن نفسه وارتبط به على مر العصور. فكيف إذن يتحرر الخيال ليسطر إبداعاً ملهماً من وراء القضبان وليل الزنزانة الطويل، وإلى أي مدى يعكس هذا اللون الأدبي الضارب في عمق التاريخ شكلاً من أشكال المقاومة لفكرة الحرمان والشوق العارم للحرية والعدالة، علماً بأنه لا يقتصر على من عانى ويلات السجن مباشرة، فقد يستعين المبدع بالوثائق والشهادات الحية ليصبح «التخييل» بديلاً عن «التوثيق الذاتي»، كما في رواية «تلك العتمة الباهرة» للكاتب المغربي طاهر بن جلون، وغيرها.

في هذا التحقيق يتحدث شعراء وكتاب عرب لـ«الشرق الأوسط» عن معايشتهم لتجربة السجن، وكيف حولوها إلى إبداع راقٍ معجون بشوق عارم للحرية.

تعد حقبة الستينات في التاريخ العربي من أقوى الحقب التي برزت فيها ظاهرة «أدب السجون»، بخاصة في الشعر والكتابة السردية، فقد شهد الشعر الفلسطيني بعضاً من تجلياتها هذه الظاهرة في قصائد شعراء ألقى بهم الاحتلال وراء القبضان. منهم الشاعر حنا أبو حنا، الذي كتب من معتقله في «سجن الرملة» عام 1958، مجموعة من القصائد يقول في واحدة منها:

«خسئوا، فما حبسوا نشيدي بل ألهبوا نار القصيدِ - نار تأجج، لا تكبّل بالسلاسل والقيودِ - نار، جحيم للطغاة وزمرة العسف المريدِ - شرف لشعري أن يقض مضاجع الخصم اللدودِ - فأعجب لشعر يستثير الرعب في مهج الحديدِ - أقوى من السجن المزنر بالعساكر والسدودِ».

وفي مصر زج الكثير من الأدباء والمثقفين في السجون بتهمة الانتماء إلى التنظيمات الشيوعية. ويروي الكاتب والمؤرخ الراحل صلاح عيسى واقعة ذات دلالة في هذا السياق قائلاً: «يوم 4 أكتوبر (تشرين الأول) 1966 جرى اعتقال الجميع، وكان أغلبهم من المثقفين والمبدعين، أخذونا إلى سجن القلعة، حيث تعرضنا لعمليات من التعذيب والتنكيل لانتزاع الاعترافات منا، وقضينا نحو 35 يوماً في زنازين انفرادية لا يعرف أي منا ما يجرى لبقية المعتقلين». ومن وحي تلك الفترة البسيطة، استلهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي قصيدته الشهيرة «أحزان عادية» التي يقول فيها: «وتذكرت سنة ما اتبنت القلعة - وكنت أنا أول مسجون - وكان الضابط ده أول سجان - يوم ما ركلني نفس الركلة - يوم ما صفعني نفس الصفعة - نفس طريقة الركل - وآخر الليل جانى بدم صحابي في الأكل».

ويلهم نفس السجن الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة مهمة يقول مطلعها: «أنا رحت القلعة وشفت ياسين - نحوه العسكر والزنازين - والشوم والبوم وكلاب الروم - يا خسارة يا أزهار البساتين - عيطي يا بهية على القوانين».

ويعد صنع الله إبراهيم واحداً من أصحاب التجارب الأدبية البارزة التي استندت في أحد مصادرها إلى تجربة السجن، وهو ما تجلى في العديد من أعماله مثل المجموعة القصصية «تلك الرائحة» ورواية «شرف» ونصوص «يوميات الواحات»، التي استند فيها إلى ذكريات اعتقاله منذ أواخر الخمسينات بتهمة الانتماء إلى حزب شيوعي ضمن حملة موسعة شملت أسماء بارزة في الثقافة مثل يوسف إدريس ومحمود أمين العالم ولويس عوض وشهدي عطية وعبد الحكيم قاسم وسامي خشبة. يقول صنع الله في «يوميات الواحات»: «أمرونا نحن الأربعة أن نجلس القرفصاء في جانب ونضع رؤوسنا في الأرض، ففعلنا، ثم أمرونا أن نرفع رؤوسنا بحيث نرى ما يجري لزملائنا، وتتابعوا أمامنا يُجرّدون من ملابسهم وهم يُضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويُغمى عليهم فيُغمسون في مياه ترعة صغيرة ويُداسون بالأقدام».

الشاعر زين العابدين فؤاد تعرض لتجربة الاعتقال السياسي أكثر من مرة في حقبة السبعينات، ومن وحي ما عاشه وراء القضبان أخرج واحدة من أشهر القصائد السياسية بالعامية المصرية، وهي قصيدة «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر» والتي غناها الملحن والمطرب إمام عيسى (1918 – 1995) الذي اشتهر بغنائه السياسي، لا سيما في حقبتي الستينات والسبعينات، وعُرفت على نطاق واسع باسم «واتجمعوا العشاق». يقول مطلع القصيدة: يتجمعوا العشاق في سجن القلعة - يتجمعوا العشاق في باب الخلق - والشمس غنوة م الزنازن طالعة - ومصر غنوة مفرعة م الحلق. وتطرح القصيدة صوراً مدهشة للوطن كما في قول الشاعر: «مصر النهار يطلقنا في الميادين - مصر البكا مصر الغنا والطين - مصر الشموس الهالة م الزنازين - هالة وطارحة من دمنا بساتين».

يوضح زين العابدين فؤاد في حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن القصيدة كتبت أثناء اعتقاله في «سجن القلعة»، لكنه لم يستطع تهريبها إلى الخارج إلا حين انتقل إلى «سجن الاستئناف»، حيث تحولت القصيدة إلى نواة ديوان صدر في بيروت بعنوان «حلم السجن»، ثم أعيد طبع الديوان في القاهرة لاحقاً ليصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر». ويشير إلى أن تلك القصيدة الشهيرة لم تكن الأولى التي غناها له «الشيخ إمام»، فهناك قصيدة أخرى بعنوان «يا شمس» كُتبت داخل الزنزانة عام 1972 وغناها أيضاً مطربون عديدون في فترات لاحقة مثل أحمد إسماعيل وغيره. ويوضح أن تجربته في السجن كأديب ومثقف لم تكن تخلو من المفارقات، فعلى سبيل المثال، تم إلقاء القبض عليه بتهمة «التحريض» على المظاهرات التي عرفت باسم «انتفاضة الخبز» في 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977. ورغم أن المظاهرات شهدت مشاركة الملايين بحسب التقديرات الرسمية، فإن التحريض عليها بحسب الاتهام الرسمي تم من أربعة أشخاص هم الشاعر أحمد فؤاد نجم والصحافيين صلاح عيسى وحسين عبد الرازق إلى جانب زين العابدين الذي واجه طوال الوقت تهمة فضفاضة تقول نصاً «دأب على كتابة قصائد مناهضة لنظام الحكم».

واعتقل الشاعر والروائي المغربي صلاح الوديع في الحقبة الزمنية نفسها، وتحديداً في عام 1974 بتهمة الانتماء إلى إحدى فصائل «اليسار الجديد»، حيث صدر ضده حكم بالسجن 20 عاماً لكن أفرج عنه بعد مرور 10 سنوات فقط. وكان «الوديع» يهرب قصائده إلى الخارج ليتم نشرها وتلقى رواجاً ثم يجمعها لاحقاً في ديوان بعنوان «جراح الصدر العاري» عام 1985. ومن ضمن قصائد الديوان قصيدة بعنوان «باهظ انتماؤك للمدى» يقول الشاعر فيها: «أعود بالآمالِ من حلم يُجْنَد - له الوتدْ - كبَّدتني قلبي - أبنوك أم أنتَ الذي - كبدتني أملي - فديتُكَ يا بلدْ - كبدتني أملي وأحلامي - وألياف الجلدْ - ماذا أقول وما تبقى ما بقاءك - يا جسدْ».

يقول صلاح الوديع لـ«الشرق الأوسط» إن «شغفاً بكتابات السجون تجلى في المغرب منذ نهاية الثمانينات وطوال التسعينات وظهر في عدد من المؤلفات مثل (منازل وقضبان)، الذي صدر عام 1988 ويضم الرسائل المتبادلة بيني وبين شقيقي وتحمست المرحومة والدتي لجمعها في كتاب وكذلك كتاب (كان وأخواتها) للكاتب والناقد عبد القادر الشاوي، وكتاب (الغرفة السوداء)، وهو سيرة ذاتية للكاتب جواد مديدش، كما اهتمت الصحافة آنذاك بمحاورة أصحاب هذه التجارب ولم يعد الأمر يحمل محاذير كما في السابق».

يضيف الوديع أنه مع انتشار موجة أدب السجون على هذا النحو بالمغرب، لاحظ أنها كتابات تستعيد لحظات الألم بقوة وعلى نحو يكاد يكون مباشراً فأراد أن يصنع شيئاً مختلفاً، واهتدى إلى إعادة كتابة تجربته في السجن بشكل ساخر كما ظهر في روايته «العريس»، التي تتطرق لوقائع التعذيب والإهانة والاختفاء القسري وانتهاك حقوق الإنسان ولكن من خلال سرد المأساة بحس فكاهي.

في سبتمبر (أيلول) 1981. جرت بمصر حملة اعتقالات شهيرة على خلفية معارضة معظم المثقفين للصلح مع إسرائيل، وطالت الحملة العديد من الأسماء البارزة، منهم أصوات نسائية معروفة في الأدب والإبداع والتخصصات الأكاديمية مثل نوال السعداوي وصافيناز كاظم ولطيفة الزيات وأمينة رشيد وعواطف عبد الرحمن. وصدر لنوال السعداوي في هذا السياق كتابها الشهير «مذكراتي في سجن النساء» والذي تقول فيه: «لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار، الانتظار يُحوِّل الزمن إلى اللا زمن، والشيء إلى اللا شيء، والمعنى إلى اللا معنى».

ومؤخراً صدر للأكاديمية البارزة د. عواطف عبد الرحمن كتاب «أوراق من سجن النساء» عن دار «العربي» بالقاهرة والذي ترصد فيه مذكراتها حول التجربة نفسها. وتشير د. عواطف إلى مفارقة بارزة تتمثل في أنها سمعت بورود اسمها ضمن قائمة المطلوب حبسهم ضمن «اعتقالات سبتمبر» وهي في المجر تزور الكاتبة رضوى عاشور والشاعر مريد البرغوثي قادمة من ألمانيا التي جاءتها للمشاركة في مؤتمر «برلين الشرقية» للأمم المتحدة حول «نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا».

وتروى عواطف عبد الرحمن ملابسات عودتها إلى مصر كيف كانت صدمة اللحظات الأولى في السجن. تقول: «عندما وصلت إلى سجن النساء في القناطر وجدت بوابة كبيرة وبها باب صغير، دخلت من الباب الصغير ورأيت السجانات اللاتي نشاهدهن في السينما يعلقن المفاتيح في الحزام الجلد، شكلهن مخيف جداً وغير مريح. وفجأة صفقت السجانات وقلن: (إندهوا الست زينب سجانة السياسيات... تعالي تسلمي فيه إيراد جديد)، فاستغربت جداً كيف يتحول الإنسان في لحظة إلى شيء، خصوصاً أني قادمة من مؤتمر دولي أطالب فيه بحقوق الشعوب. كيف أتحول في نظرهم إلى (إيراد)... إيراد يعني إيه؟ يعني تخفيض قيمتي إلى أن أصبح مجرد شيء».

وينتمي كتاب «رسائل سجين سياسي إلى حبيبته» الصادر مؤخراً عن الناشر نفسه بالقاهرة للكاتب مصطفى طيبة إلى «أدب الرسائل»، حيث اختار المؤلف قالب الخطابات، بما فيه من حميمية وبساطة وبعد عن الآيديولوجيات الكبرى، التي يبعث بها لمحبوبته ويحكي فيها مشاهد مختلفة من تجربته العريضة وراء القضبان عبر عقود عدة شملت الأربعينات والخمسينات والستينات بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي.

يكشف المؤلف في واحدة من تلك الرسائل عن تجربة «الإضراب عن الطعام» بهدف الضغط على إدارة السجن لتحسين المعيشة وجلب المزيد من الحقوق للسجناء. يقول: «أصعب الأوقات التي يواجهها المضرب عن الطعام هي الأيام الثلاثة الأولى، بعدها تكون المعدة قد تعودت على عدم استقبال الطعام ثم يبدأ التعب في هد الجسم وعادة ما يتعجل المضربون عن الطعام حضور النيابة للتحقيق في مطالبهم. ومن المفروض أن تأتي في موعد لا يزيد على 48 ساعة منذ بداية الإضراب، ومع أن مأمور السجن أرسل التحقيق الإداري إلى المسؤولين في مصلحة السجون التي عليها أن ترسل في طلب النيابة، فقد مضى اليوم العاشر ولم تأتِ، والعدول عن الإضراب قبل أن تأتي النيابة هزيمة لنا. في اليوم الثالث عشر ساءت صحة زميلين إلى حالة خطيرة، ومع ذلك لم ينقلا إلى المستشفى إلا في اليوم السابع عشر بعد أن أعلن الطبيب عدم مسؤوليته عما يحدث لهما إذا لم يعدلا عن الإضراب وتناول العلاج الضروري. وكان الطبيب أكد على أهمية نقلهما إلى المستشفى بعد اليوم الثالث عشر، إلا أن إدارة السجن امتنعت عن تنفيذ توصية الطبيب هرباً من أي دليل يثبت أننا أضربنا عن الطعام، وبالتالي امتنع هو الآخر عن الحضور إليهما في الزنزانة».

ويشير الناقد والأكاديمي اليمني د. فارس البيل إلى أن ظاهرة «أدب السجون» تراجعت في العقود الأخيرة بسبب اتساع وسائل التعبير وتعدد أشكال التدوين والتوثيق، فضلاً عن خفوت اعتقال الأدباء والمبدعين لأسباب آيديولوجية بحتة بنفس الغزارة التي شهدتها حقب زمنية ماضية من التاريخ العربي، لا سيما في حقبتي الستينات والسبعينات. ورغم أن أسباب وأشكال مضايقات الأدباء لم تنته وما زالت تتردد هنا أو هناك بشكل أو بآخر، فإن العصر الذهبي لكتابات ما وراء الجدران يبدو أنه قد ولى، ولم يعد أمامنا سوى التصدي بالدرس النقدي واستخلاص العبر والسمات والملامح لهذا التراث الضخم في تجلياته المختلفة عربياً وعالمياً.

ويرى البيل أن هذا اللون من الأدب نشأ نتيجة احتياجات تعبيرية ضاغطة وملحة تتعلق بالتجارب شديدة القسوة والمرارة التي تعرض لها الأدباء بكثافة في حقب زمنية سابقة، مشيراً إلى غلبة الطابع السوداوي وهيمنة الأجواء الكابوسية على معظم الإنتاج السردي العربي تحت هذه اللافتة.

ولا يميل الناقد اليمني إلى تصنيف رواية «قناع بلون السماء» للروائي الفلسطيني باسم خندقي ضمن أدب السجون، مشيراً إلى أنها تناقش الحالة الفلسطينية في فضائها المفتوح، ولا تركز على عالم السجن، برغم أن المؤلف محكوم عليه بالسجن مدى الحياة.



وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس
TT

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

أر.إس . توماس
أر.إس . توماس

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة خبرها الأديب واستجمع خلاصتها. ليس خطاباً أبوياً، ويرتفع كذلك عن الأسلوب الوعظي بما يتضمنه من إشارات وإيحاءات تجاوز بها الأديب عثرات أو محذورات نتيجة لاندفاعه. منها جزء من وصف تجربته، والأبعد شوطاً، هو ما يأمل فعله لو عاد به الزمن.

قد تأتي هذه التجارب موجهةً بشكل مباشر، كوصايا عبد الحميد الكاتب للكتاب، أو تلك الوصايا المنبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم. الشعراء لهم طريقتهم الخاصة التي يعبرون بها عن رؤاهم وفهمهم للشعر. من ذلك تسمع شقشقة اللغة وجدال العقل ورفيف الروح؛ مزيج معبر، وتهويمات شبيهة بأحلام اليقظة؛ ذلك إن كانوا يعبرون شعراً عما تعنيه لهم القصيدة. أما عندما يتوجهون بخطابهم إلى مريديهم من الشعراء الشباب، فيصبح حديثهم مباشراً واضحاً؛ بأسلوب قريب من المدرسي التعليمي، وإن كان لا يخرج عن نطاقه الشعري الإيحائي. فنثراً، على سبيل المثال، كتب الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه أوائل القرن الماضي رسالةً إلى شاعر مبتدئ ينبهه إلى اكتشاف ما في نفسه من كنوز، يقول فيها: «كل ما حولك؛ كل ما تراه في حلمك من صور؛ كل ما في زوايا ذاكرتك هو ملك لعينيك. أما إذا ما بدا لك أن حياتك اليومية فقيرة جدباء فلا تلمها، بل لم نفسك أنك لست الشاعر الذي يستطيع أن يكتشف ما فيها من غنى».

«إلى الشاعر الشاب»

أما النصيحة بالقول الشعري، فتذهب إلى الاختزال والومض بالفكرة المراد إيضاحها مع شيء من المباشرة، كما في نص الشاعر الآيرلندي رونالد ستيوارت توماس «إلى الشاعر الشاب»، التي ينطلق في وصاياه من المرحلة الذهبية للروح في تعبيرها الشاطح، والمتوهج:

«في الأعوام العشرين الأولى

ستكون في طور النمو الجسمي،

بالطبع لم تولد لتكون شاعراً منذ البداية

ولكن في السنوات العشر القادمة

ستحصد من تجربتك المبكرة

وستظهر بابتسامة متكلفة

لتغازل عروس الشعر بوقاحة».

بمحدد العمر، يمضي الشاعر في وصاياه، وكأن هناك تلازماً بين نمو الخبرة الشعرية والتقدم في السن؛ لذا تحظى مرحلة «منتصف العمر» باهتمام الشاعر كونها تستدعي التأني في الاندفاع والمراجعة، مع قليل من التردد. بالإضافة إلى ما تقدمه القصيدة من معالجة عاطفية ووجدانية لمتاعب الروح في تلك المرحلة:

«ومن الأربعين وصاعداً

تتعلم من الحذف والنتوءات في القصائد

التي تكونت بين يديك القاسيتين

كيف تنظم بمهارة

الأجزاء في القصيدة الغنائية

أو السونيتة بشكل اعتباطي

في حين يعزز الزمان حافزاً جديداً

ليخفي جرحك من قصائدك

ومن جسارة الناس

أصحاب الفضول».

لمرحلة الكهولة اعتبارها لدى الشاعر، فنصوصها ستقع دائماً في دائرة رثاء الذات وهجاء الحياة بتخلفها عما وعدت به، كما كانت تلوح به بشائر الصبا من قبل، فأضحت يباباً مكفهرة:

«والآن كبرت

كما يبدو من سنين عمرك

إلا أنك ما زلت في عالم الشعر البطيء

وقد انتقلت إلى الرجولة الحزينة منذ قليل

وأنت تعلم أن الابتسامة على وجه هذا العالم المتكبر

ليست لك».

قصيدة في جناح الفراشة

أما الشاعر السعودي عبد الله السفر، فهو في وصاياه يذهب إلى الجانب التقني الإجرائي لكتابة القصيدة، ويمارس تمارينه على كتابتها ويشرح رؤيته عنها. لا يمنح نصائحه للغير، إنما هو حديث يرتد صداه إلى أناه المبدعة؛ بين تلك الذات الناقدة الفاحصة، وذاته الأخرى الشاعرة التي يستشرف أفقها ويهيئها للانفعال مع قضايا الوجود بقلق الكينونة وأحلام اليقظة؛ حينما:

«الغريب يودع قصيدته في جناح الفراشة،

ويمضي وديعاً ذائباً في زرقة الليل.

القصيدة نائمة في ليل الأصابع

مَجْمَعُ مسوداتٍ وقبضُ ريح

وكانت يده تطيش في الصفحة

وكان قلبه على الحبر

حقل المرارة ناصعٌ، والحبر ماء

اشحذ كلماتك. كل هذا الجمال لن ينتظر».

ما سبق من خطاب كان بمثابة التهيئة لإعلان المنهج وتحديد مستوى الطموح، أما بنود الشاعر الإجرائية لكتابة القصيدة، فَتُكّون بنية النص الشعري المنشود وتقوده من خلال ثلاث خطوات رئيسية يأمل من خلالها عبد الله السفر أن تراعيها القصيدة وتلتزم بها.

الأول، ألا يحصر الشعر جهود الفكر في نقل مظاهر الواقع وترجمتها، بل أيضاً يطلق خياله متحرراً من كل قيود الفكر؛ حيث الأثر الفني يتطلب معرفة عميقة في كيفية تشكل مظاهر الواقع وقيمته، ويتطلب أيضاً معرفة في كيفية إدراك ما ينبغي تأويله، كما يقول ألبير سوور، وهذا ما يتفق الشاعر معه:

«كلماتك اشحذها يا صديقي.

لا تشد النص إلى سرير المألوفية، سوف تزعجه بالكوابيس.

مع كل دورة زمنية، يقص النص ريشهُ ليقوى على الطيران في أفقٍ جديد.

ترفق، ترفق، وأنت تثني غصنَ القصيدة.

لا تتهور، وتزعم أنك قبضت على القصيدة.

ستكون من أولئك العميان الذين ادعوا - واحداً واحداً - امتلاك حقيقة الفيل.

السطح. إنه جلدٌ ميت! من يريده؟.. احفر عميقاً.

يخون الواقع من ينسخه بأمانة».

ليس نقل الواقع كما هو عليه فقط ما يجب أن ينأى عنه كاتب القصيدة الحديثة، بل أيضاً أن تتخفف ذاكرته وتتخلى عن مجمل اطلاعه على الأفكار والمعارف التي تسربت إلى وعيه بفعل القراءة؛ ليبقى أثرها وانطباعها كما وعاه في لحظة الاستقبال:

«ذهب إلى النسيان ما قرأته في الرواية. بقي لي كدرها المشع.

العربة توقفت في منتصف الفكرة. نزلَ اللعابُ متبوعاً بخيط كلامٍ أبيض».

عند هذا الحد من الاستعداد للدخول إلى فسحة القصيدة، يتجرد الشاعر من قبليات معرفته، ومن ذاته الواعية؛ ليلتحم مع النص ويتوحد معه:

«يا مرشدي سأحرق لوح وصاياك، وأدخل، وحدي في متاهة القصيدة.

يبتكر عزلته. يضع في قلبها الدودة ويحلم...».

البند الثاني، هو نتيجة لما سبقه؛ فعند توحده بالنص، تتقلص المساحة الافتراضية بين الوعي واللاوعي، بين الفكر والحلم. حينها يصل المبدع إلى الحالة التي يصورها موتسارت باستغراب: «تتهاجم عليّ الأفكار جماعة وبسهولة زائدة ولا أعلم كيف أتت ومن أين أتت»، والشاعر بتهيئته السابقة وعند قبضه على الومضة التي تمثل جذوة الإبداع، تتعدد خياراته للتعبير عن لحظته:

«من أجل استدامة جمرةِ نصه، لا يذهب إليه من طريق واحدة.

يا ابن الغرابة، في تربة هذا النص يختفي مجهولك. فأوغل بغريزتك وغُص بحدسك».

قد تأتي هذه الوصايا بشكلٍ مباشرٍ مثل وصايا عبد الحميد الكاتب أو منبثة في «كشاكيل» الأدباء وكتبهم

أما البند الثالث لإنتاج القصيدة المثلى في نظر الشاعر عبد الله السفر، فهو بتفعيل القوى الشاعرية المتفردة للمبدع، حيث وحدها من يستطيع إخراج المعنى وصياغته في صورته اللغوية المغايرة للغة التقريرية، بالتالي يكتسب هوية منشئه وبصمته. التوجه إلى نقل الإحساس والشعور وليس الحكاية؛ فتتخلى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى إلى نقل الإحساس المصاحب له مركزاً للتعبير؛ فيرى المتلقي الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعاني. وهذا ما عناه الشاعر السفر بـ«الرقيب» أو وعاء الترشيح الذي يقوم بمهمة التجريد:

«الرقيب يضع الكتابة على خازوق نياته، يصفي دمها من لغة الحياة.

الرقيب تنكل به الاستعارة، يفدح به المجاز.

هويةُ المبدع، دائماً، بدون. يشهِرُ لحمه خارج الأسوار ويغني.

يحتشد البحرُ في لحظة إصغاء.

تنبت للنص أجنحةٌ لا حصر لها عندما يتغلغل هواءُ الوجدان عميقاً في جسد الفكرة».

هذا البند الأخير لعبد الله السفر يأتي متوافقاً مع المرتبة الثالثة في مكونات الإبداع الشعري لرؤية الشاعر جون درايدن التي سمَّاها «بإلباس الفكرة» وتزيينها بإطار مناسب ومعقول من الفن القولي، في حين المرتبة الأولى هي «الاختراع» أو إيجاد الفكرة، والثانية «الاستخراج» أو التبديل للفكرة بحيث تتلاءم مع الموضوع.

وهكذا هو البيان الشعري لعبد الله السفر عن عناصر ومراحل تكون القصيدة الحديثة من منظوره، وهو مزيج من رؤية الشاعر وافتراضات الناقد اللذين يجتمعان فيه. فعقل الناقد الذي يعمل من خلال الشعر عادة ما يكون متقدماً على العقل الذي ينتج الشعر، سواء كان الشعر شعر الناقد نفسه أو شعر غيره، كما يقول الشاعر ت. س. إليوت.

ونختم بما ختم به الشاعر عبد الله السفر نصه: «الشعراء يجددون أعمارنا؛ أعمارَ الذين: يعيشون أقل من حياة وأطول من يأس».

* كاتب سعودي