شخصية يوسف في مرايا الأدب والفن

قصته الحافلة بالرموز صارت من أغزر مناجم الإلهام عبر التاريخ

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
TT

شخصية يوسف في مرايا الأدب والفن

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)

ليس من الغرابة في شيء أن تحظى قصة يوسف، بشقيها القرآني والتوراتي بقدر غير مسبوق من اهتمام الشعراء والمبدعين. ففي هذه الشخصية الدراماتيكية ما ينتزع إعجاب البشر جميعاً ويضعهم في حالة من التماهي مع يوسف، وهو يدافع عن جماله في غياهب الآبار والسجون، وهو ما يوفر للكتاب والفنانين الاستعارات اللازمة لصناعة الإبداع. كما أن الثنائي المكون من يوسف وزليخة بات واحداً من أكثر الثنائيات العاشقة شهرة في التاريخ، ولم يقتصر الاهتمام به على النخب المثقفة وحدها، بل اتسع تأثيره ليشمل الطبقات والشرائح الاجتماعية التي عملت على إخراجه من خانته الدينية والتاريخية إلى خانة الأسطورة والسحر والتخييل الجمعي.

توزع الاهتمام بقصة يوسف بين الشعر والرواية والسينما والمسرح وفنون التشكيل، وتعددت قراءاتها التأويلية بتعدد مستلهِميها الكثر من الأدباء والفنانين. ولعل ما سهّل مهمتهم هو الطبيعة المركبة غير النمطية لشخصية يوسف وسيرته الحافلة بالأحداث. فالرموز المتصلة بها كالأحلام والقمصان والجمال المكْلف وتآمر الإخوة والذئب والدم والبئر والسجن وعمى يعقوب وإبصاره والبقرات والسنابل، كانت كافية بمفردها لشحذ المخيلات بكل ما يلزمها من قوة الإلهام.

ما كُتب عن يوسف لا يمكن أن تحيط به مقالة واحدة، بل يحتاج توثيقه إلى العديد من المؤلفات، إلا أن ذلك لا يمنع من التوقف عند بعض الأعمال الإبداعية التي استلهمت تلك الشخصية الفريدة، التي تحولت ساحة رمزية لصراع النفس البشرية مع ذاتها ومع الآخرين. اكتفى الشعراء التقليديون بنظم القصة كما وردت في المصادر. بينما آخرون أخذوا منها ما يلائم حالاتهم الخاصة وحولوها قناعاً يتوارون خلفه، في حين جهد الشعراء المداحون في إسقاط الجمال اليوسفي على ممدوحيهم من الخلفاء والولاة.

وإذا كان بعض الشعراء والباحثين ركزوا على قميص واحد من قمصان يوسف، فثمة من انتبه بالمقابل إلى القمصان الثلاثة التي عكست على المستوى الدلالي ما اختبره النبي الوسيم من مشقات، وما حصده من مكافآت. ومن بين هؤلاء سراج الدين بن عمر الأنصاري، الذي يتحدث عن القمصان الثلاثة مطلقاً على الأول الذي صُبغ بدم كاذب اسم «قميص العلامة»، وعلى الثاني الذي مزقته زليخة من الخلف «قميص الشهادة» وعلى الثالث الذي أعاد ليعقوب ضوء عينيه اسم «قميص البشارة».

وحيث انعكس القميص الأول الذي حمله إخوة يوسف لأبيهم في الكثير من النصوص الشعرية والنثرية، فقد توقف البعض عند حزن يعقوب، والبعض الآخر عند براءة الذئب التي سارتْ مسرى الأمثال، وبعضهم الثالث عند الدم الكاذب، والرابع عند غدر الإخوة، والخامس عند غيابة البئر وقسوة الانتظار وبطء الزمن الخلاصي. وقد يكون الشاعر العباسي أبو الشيص أحد أطرف الذين استلهموا القميص الأول ليعبّر عن ارتياب زوجته حين جاءها باكياً بما يخفيه خلف دموعه من ذنوب، فكتب على لسانها:

أتكذبُ في البكاء وأنتَ خلْوٌ قديماً ما جسرتَ على الذنوبِ

جفونكَ والدموعُ تجول فيها وقلبكَ ليس بالقلب الكئيبِ

نظير قميص يوسفَ يوم جاءوا على لبّاتهِ بدمٍ كذوبِ

أما محمود درويش، فقد جعل من جمال يوسف وتآمر إخوته عليه متهمين الذئب بافتراسه وإلقائه في قاع البئر، القناع الذي اختفى وراءه لإلباس الحدث التاريخي لبوس بلاده فلسطين المعلقة على صليب الاحتلال، وكذلك الإشارة إلى معاناته الشخصية مع الشعراء الغيورين الأقل موهبة:

«إخوتي لا يحبونني

لا يريدونني بينهم يا أبي

يريدونني أن أموت لكي يمدحوني

الفراشاتُ حطت على كتفيّ

ومالت عليّ السنابلُ

والطير حطت على راحتيّ

فماذا فعلتُ أنا يا أبي؟ ولماذا أنا؟

أنت سميتَني يوسفاً

وهمُ أوقعونيَ في الجبّ واتهموا الذئبَ

والذئبُ أرحم من إخوتي»

كما كانت للقميص الثاني حصة وافرة من نصوص الشعراء والكتاب الذين واجهوا محناً مماثلة وتعرّضوا لما تعرّض له يوسف من قسوة الظلم والتجني. وفي ذلك يقول العباس بن الأحنف متحدثاً عن مكيدة نصبتها له إحدى المفتونات بوسامته:

وقد زعمتْ يمْنٌ بأني أردتُها على نفسها تباًّ لذلك من فِعْلِ

سلوا عن قميصي مثل شاهدِ يوسفٍ فإنّ قميصي لم يكن قُدَّ من قُبْلِ

وقد لقيت عبارة «هيت لك» التي توجهت بها زليخة إلى يوسف، وتعني أنها هيأت له نفسها صدى واسعاً لدى العامة والخاصة. ولم يقْتصر استخدامها على المواقف العاطفية، بل تم توظيفها في مجالات ومواقف سياسية مغايرة، كما فعل الشاعر الأندلسي ابن اللبانة، الذي عمد إلى مخاطبة ممدوحه بالقول:

تُراودكَ الدنيا إلى ذات نفسها فلا دولةٌ إلا تناديكَ: هيتَ لكْ

ولم يكفِ القميص نفسه عن رفد الشعراء بالكثير من الصور والإيحاءات والتشابيه الاستعارية، فقد حرص أحمد شوقي في قصيدته «مُضناك جفاه مرقده» التي حوّلها محمد عبد الوهاب أغنية ذائعة الصيت على أن يستحضر من خلال يوسف الجمال الخلاب للمعشوق، مقروناً بتأثيره الدامي على الواقعين في شرك فتنته، قائلاً:

الحسْنُ حلفتُ بيوسفهِ و«السورةِ» أنك مفردُهُ

إذ ودَّتْ كلُّ مقطِّعةٍ يدَها لو تُبْعثُ تشهدهُ

وتفاعلت مع قصة يوسف وزليخة ثقافات أخرى. لعل ذروتها ذلك الذي شهده الأدب والفن الفارسيان في العصور الوسطى، حيث قارب الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي قصة يوسف وزليخة من منظور صوفي، يتخفف فيه العشق من جسمانيته المحدودة، ليصبح ضرباً من العشق الإلهي، وتوقاً غير محدود للانصهار بالجمال المطلق:

«في تلك الخلوة التي لم يكن بها على الوجود أمارة

حيث الوجود المنزه عن صورة الثنائية،

المتعالي عن قولة أنا وأنت

جمال مطلق من قيد المظاهر

لا تتجلى ذاته إلا لذاته»

وتفاعل الشاعر الألماني غوته على نحو خاص مع قصة «يوسف وزليخة» مستلهماً مناخاتها العشقية الصوفية. وفي كتابه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» لا يكتفي غوته بإطلاق اسم زليخة على معشوقته مريانه فيلمر، بل يتخذ لنفسه اسم حاتم تيمناً بحاتم الطائي، مفرداً لها قصيدة مطولة يقول فيها:

«لمّا كنتِ الآن تسمين زليخة

فأنا كذلك ينبغي أن أحمل اسماً

فحين تناجين حبيبك ليكن حاتم هو اسمه

كي يعرفني الناس به

أيمكن يا حبيبتي أن ألاطفك

وأصغي إلى صوتك الإلهي؟

فالوردة تبدو دائماً مستحيلة»

وفي عمل مميز تحتفظ به جامعة أكسفورد، عمد أحد الفنانين الإيرانيين إلى الجمع في لوحة واحدة بين التوشية الزخرفية والشعر، كما بين الرؤية القرآنية للقصة وبين الأساطير المشرقية المتعلقة بالحب والخصب. وقد كتب على حواشي لوحته «كانت زليخة تُظهر شوقها إليه، لكن يوسف الذي كان ينظر إلى نفسه، رأى وجهه معها على فراش من الديباج والحرير، وقد عانق كلٌّ منهما الآخر، فصرف نفسه عن ذاك المشهد وولى وجهه نحو موضع آخر. وإذ بدأت تتأوه وتبكي، ونزل الدمع من عينيها وبات قلبها أمطاراً من الدم، خاطبته قائلة: يا أيها العنيد، حقِّق لي أملي بوصالك. أنا متعطشة إليك يا ماء الحياة. أنا قتيلتك وأنت الروح الخالدة».

أما القميص الثالث الذي دعي بقميص البشارة، فقد كان بدوره مصدراً لإلهام العديد من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم أبو الطيب المتنبي الذي رأى في إحدى مدائحه لكافور بأن الأخير يحتفي بسؤال قاصده وطالب هباته، احتفاء يعقوب بقميص ابنه يوسف، ويقول في ذلك:

يدبّرُ الملْكَ من مصرٍ إلى عدنٍ إلى العراق فأرض الروم فالنّوُب

كأن كلَّ سؤالٍ في مسامعهِ قميصُ يوسفَ في عينيّ يعقوبِ

ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة ما أورده جلال الدين الرومي حول جمال يوسف الخارج من مكابداته بكامل بهائه النوراني. ففي قصته الرمزية «يوسف الصدّيق وضيفه الصديق» يروي صاحب «المثنوي» أن أحد المفتونين بجمال يوسف قدِم من بلاد بعيدة لرؤيته من كثب. «وإذ خاطبه الأخير قائلاً: كأني بك قادم وأنت فارغ اليد بعد رحلتك الشاقة تلك، أجابه الضيف: وكيف أحمل الذهب إلى المنجم والتمر إلى هَجَر واللؤلؤ إلى بحر عُمان؟ إنني وقد أعياني العثور على الهدية الجديرة بمقامك، أحضرت إليك مرآةً لترى فيها وجهك الجميل، لتذكرني كلما رأيتَ وجهك، أنا الذي أهديتُ إليك أنوارك وقدّمت لك محاسنك».


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.