عودة «داعش» الثانية

{خليفة البغدادي} يسعى إلى إعادة بناء التنظيم

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
TT

عودة «داعش» الثانية

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)

مخطئ من يظن أن الأفكار تموت كالكائن البشري، إنها تنتقل عبر الأجيال بخيرها وشرها، وفي الجيل الواحد هناك مَن يقوم بعملية تسليم الآراء والمعتقدات، متطرفةً كانت أم معتدلةً، ومن سوء الطالع أن شرقنا الأوسط ومنذ أن وضعت جماعة «الإخوان المسلمين» في أواخر ثلاثينات القرن العشرين لبنات أفكارها المتطرفة، والمنطقة تشهد توالد جماعات عديدة من رحمها، تختلف في المظهر، لكن يظل المخبر واحداً، ويظن القائمون على الأمر في الحكومات أنهم قضوا على وجودها في فترات زمنية بعينها، غير أنها تعود من جديد بعد فترات كمون أو بيات شتوي، لتضرب من جديد وبأسوأ مشهد مما كان عليه الأمر من قبل.

تختفي «الإخوان» في الستينات، لتظهر جماعة «التكفير والهجرة» في السبعينات، يقبض الأمن على الخلية، فتظهر «الجماعة الإسلامية»، تواجه هذه الدولة المصرية، فتسقط، غير أن عناصرها يفرون إلى أفغانستان فتولد جماعات التطرف، ومن رحمها تقوم «القاعدة»، التي تضحى إحدى شعبها تنظيم «داعش» لاحقاً. ولهذا فإن القول بأن «داعش» قد قضى نحبه مرة وإلى الأبد، قول مغلوط، وليس أدل على صحة ما نقول به من مجموعة التصريحات والتقارير الدولية الأخيرة، التي تذهب في طريق التحذير من الاستكانة للهزائم العسكرية التي تعرضت لها في العامين السابقين في العراق وسوريا.
نهار السبت الماضي، كان العراق يشهد انطلاق المرحلة الرابعة من عملية «إرادة النصر»، بهدف تفتيش وتطهير كامل الصحراء، وبعض المناطق في محافظة الأنبار، من بقايا فلول تنظيم «داعش» الإرهابي، حسب تصريحات نائب قائد العمليات المشتركة الفريق عبد الأمير رشيد.
الفلول تعلِّمنا أن الاستراتيجيات نوعان؛ نوع ظاهر معروف بالأسماء والصفات من الأجهزة الأمنية والاستخبارية كافة، وهؤلاء التصدي لهم أمره ممكن عبر فرق المشاة، ولواءات المغاوير، وغيرهما من القوات المسلحة. أما الطامة الكبرى فموصولة بجماعات الفلول المؤدلجين، أولئك الذين لا يطفون على سطح الأحداث، لكنهم أخطر وقعاً، إذ يروجون للفكر المتطرف بهدوء ومن دون جلبة، معتمدين في ذلك على آليات التطرف المعاصرة المتمثلة في وسائط التواصل الاجتماعي، وعادةً ما يتم اختيار قيادات «القاعدة» و«داعش» من أسماء غير معروفة، لكنها تمثل الشر في ذاته.
الكثير من المعلومات تتواتر مؤخراً عن إصابة أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، بنوع من الشلل يُقعده عن القيام بواجباته في متابعة أمر التنظيم الدموي، ولهذا فإنه أوكل لعبد الله قرداش إدارة شؤون الجماعة وإعادة ترتيب أوراقها. وفيما يبدو فإن الأجهزة الأمنية العراقية لديها الكثير من المعلومات عن الرجل الذي تدرج في صفوف التنظيم حتى أضحى حالياً الخليفة المنتظر.
لم يظهر قرداش الملقب بـ«الأستاذ» مرة واحدة على سطح الأحداث، بل تدرج عبر السنوات الخمس الماضية، ليصبح أحد أهم مساعدي البغدادي العسكريين، ويشير بعض التقارير الاستخباراتية إلى أن مهمته الرئيسة هي منع تفكك التنظيم، وإعادة ترتيب صفوفه، مستفيداً مما لديه من خبرة واسعة إبان عمله في الاستخبارات العراقية، ومعرفة بطبيعة وتضاريس العراق، ومعلوماته عن المجتمع وأفكاره، لا سيما ما يستجلب عناصر جديدة تزخم البناء الهيكلي للجماعة، وتعوض النقص الذي جرى في صفوفه بعد الاندحار العسكري والهزائم الثقيلة التي تعرض لها وقادته إلى ما يشبه الدياسبورا في المنطقة المجاورة، وعبر الإقليم بشكل أوسع.
تقول «التايمز» البريطانية في تقرير نُشر مؤخراً لها أن مهمة «الأستاذ» الثانية ستكون وأد الخلافات الواسعة بين أقطابه خصوصاً القيادات من الجنسيات العربية والأجنبية، هل لهذا الأمر علاقة بالتقرير الأميركي الأخير الذي توقع عودة الدواعش مرة جديدة وبشكل ربما أشرس مما عرفه العالم من قبل؟
في أوائل يوليو (تموز) الماضي كان معهد دراسات الحرب، وهو مؤسسة أبحاث غير حكومية مقرها واشنطن، يحذّر من أن «(داعش) لم يُهزم نهائياً»، ويستعد للعودة مجدداً، وعلى نحوٍ «أشد خطورة»، رغم خسارته الأراضي التي أقام عليها ما سُميت «دولة الخلافة»، في سوريا والعراق المجاور.
قراءة المعهد الأميركي المشار إليه جاءت في نحو ثمانين صفحة وتحت عنوان «عودة (داعش) الثانية... تقييم تمرد (داعش) المقبل»، وتركز على فكرة أن التنظيم اليوم لا يزال أقوى من سلفه «القاعدة» في العراق عام 2011 حين بدا ضعيفاً.
ما ورد في التقرير الأميركي مثير بل مخيف، إذ يشير إلى أن تنظيم «القاعدة» في العراق كان لديه ما بين سبعمائة وألف مسلح آنذاك، بينما كان «داعش» لديه ما يصل إلى 30 ألف مسلح في العراق وسوريا في أغسطس (آب) 2018، وفقاً لتقديرات الاستخبارات العسكرية.
وفي تحليلات التقدير نرى أن «داعش» بنى من مجموعات صغيرة من الفلول عام 2011 جيشاً كبيراً للسيطرة على الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق، واستطاع السيطرة على معظم شرق سوريا في ثلاث سنوات فقط.
هل سيقدّر لـ«داعش» أن يستعيد قوته بشكل أسرع بكثير وإلى مستوى أكثر خطورة من القوة الأكبر بكثير التي لا تزال لديه حتى اليوم؟
حسب التقرير الأميركي، المعتمد بالأصل على معلومات وبيانات استخباراتية من العراق وسوريا، فإن «داعش» بقيادة البغدادي، كان لديه خطة للعودة، مهيأة وجاهزة قبل أن يتعرض لسلسة الضربات العسكرية الأخيرة، بل إنه كان يقوم بتنفيذها في أثناء الحملة العسكرية التي شنتها قوى الأمن العراقية، عطفاً على قوات سوريا الديمقراطية، والكل بالطبع بجانب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
أحد الأسئلة المدّعاة للتحري عن مستقبل «داعش»: هل التنظيم لديه قوة مالية تكفي لاستمرار عملياته، وإعادة بناء هيكله التنظيمي ومن ثمّ مباشرة إرهابه إقليمياً وعالمياً؟
في تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مجلس الأمن الدولي، أشار إلى أن «داعش» يمتلك مبالغ تصل إلى 300 مليون دولار، ظلت معه بعد الزوال لتنظيم الخلافة المزعوم في العراق وسوريا.
وذكر غوتيريش أن تهديدات «داعش» لا تزال مخيفة، على الرغم من انخفاض وتيرة الهجمات التي يشنها، وبخاصة أنه انخفاض مؤقت.
يقطع غوتيريش بقدرة التنظيم على توجيه هذه الأموال لدعم أعمال إرهابية داخل العراق وسوريا وخارجهما عبر شركات غير رسمية لتحويل الأموال، وتمتعه بالاكتفاء الذاتي المالي عبر شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له في أماكن أخرى بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
والثابت أن مسألة التمويل لم يكن ليهملها التقرير الأميركي الذي أكد أن «داعش» يحتفظ بشبكة تمويل موّلت إعادته الثانية إلى التمرد، وتمكن من إعادة بناء قدراته الإعلامية الرئيسية، وكذلك الحفاظ على الأسلحة وغيرها من الإمدادات في شبكات الأنفاق ومناطق الدعم الأخرى من أجل تجهيز قوات المتمردين المجددة.
يتلفت النظر في خليفة البغدادي القادم على الطريق لاستكمال مسيرة «داعش» في نشر الفوضى والإرهاب إقليمياً وعالمياً، أنه يكاد يستلهم بعض تجارب وخبرات تنظيم «البعث» العراقي بنوع خاص.
في شهر يونيو (حزيران) الماضي، كانت الأمم المتحدة تنشر تقريراً بشأن «داعش» أشارت فيه إلى أن الجماعة الإرهابية تتغير وتتكيف وتوفر الشروط اللازمة للمقاومة داخل سوريا والعراق.
ولعل المثير أن الهيئة الأممية تشير أيضاً في أوراقها إلى أن المكان الأساسي لتجنيد عناصر جديدة هي السجون التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا. فالظروف الصعبة في تلك المعتقلات مناسبة للحفاظ على آيديولوجية التنظيم حيّةً بين المعتقلين من مناصريه وتجنيد آخرين.
ويحاول التنظيم استغلال كل فرصة ليقول إنه حاضر ولم يُهزم، كما لا يؤكد الأنباء التي تفيد بمقتل أو اعتقال قادته من الصف الأول. وفي هذا يختلف عن تنظيم «القاعدة»، حسبما ينقل موقع «المونيتور» الإخباري الذي يهتم بشؤون الشرق الأوسط، عن أبو علي البصري قوله: «لقد تعلم تنظيم (داعش) من نظام البعث، والكثير من عناصر التنظيم كانوا جزءاً من نظام البعث، ويكذبون ويخدعون كما كان يفعل نظام صدام حسين».
كارثة «داعش» الثانية اهتم بها ولها الإعلام الأوروبي، حيث نقرأ أحاديث مخيفة عن قيام عناصر مؤدلجة تابعة لـ«داعش» بالانتشار عمداً داخل السجون الأوروبية واللعب على أوتار الكراهية والقومية من جهة، والترويج للمفاهيم الدينية والإيمانية المغلوطة من جهة أخرى، بهدف اكتساب المزيد من العناصر الإجرامية إلى التنظيم في دورته التالية، لا سيما أن هناك احتمالات لعودة نحو 2000 عنصر من المقاتلين السابقين في التنظيم من العراق وسوريا إلى أوروبا.
«داعش» لن يعود هذه المرة من الشرق الأوسط فحسب، بل هناك احتمالات واسعة ومفتوحة لامتداد شره إلى أفغانستان، حيث حالة الانفلات الأمني تجعل نشوءه وارتقاءه من جديد أمراً وارداً وبقوة، فحسب تقرير أصدره مركز الدراسات الدولية في واشنطن «سي إس آي إس»، عقب تبني التنظيم مؤخراً الهجوم الانتحاري على عرس في كابل ومقتل العشرات، فإن عدد مقاتليه في أفغانستان يصل اليوم إلى نحو أربعة آلاف مقاتل، يرتكزون في إقليم ننغارهار. ويشير التقرير إلى أن فرع التنظيم في أفغانستان لديه طموحات للسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض كما فعل في سوريا والعراق عام 2014. هل باتت عودة «داعش» الثانية معقودة بناصية الأستاذ ضابط استخبارات صدام؟
مهما يكن من شأن الجواب، فالمؤكد أن الخطر «الداعشي» سوف يتزايد وبنوع خاص ما دام بقي الشرق الأوسط فاقداً للاستقرار، وبقدر ما تظل دول بعينها في مقدمتها تركيا وإيران وقطر من الداعمين الظاهرين تارةً والخفيين تارة أخرى.
في كل الأحوال يمكن القطع بأن المعارك العسكرية بمفردها لن تقضي على «داعش»... حرب الأفكار هي الأصل والأهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».