(1 - 3) : عبد الحليم كركلا يكشف أسرار «الدولة الرحبانية» العميقة

شرّع ذاكرته وأرشيف نصف قرن لـ «الشرق الأوسط»: عاصي العبقري ومنصور الكلاسيكي وفيروز المرحة

عبد الحليم كركلا وفرقته مع عاصي الرحباني في بعلبك (الشرق الأوسط)
عبد الحليم كركلا وفرقته مع عاصي الرحباني في بعلبك (الشرق الأوسط)
TT

(1 - 3) : عبد الحليم كركلا يكشف أسرار «الدولة الرحبانية» العميقة

عبد الحليم كركلا وفرقته مع عاصي الرحباني في بعلبك (الشرق الأوسط)
عبد الحليم كركلا وفرقته مع عاصي الرحباني في بعلبك (الشرق الأوسط)

يتحدث عبد الحليم كركلا لـ«الشرق الأوسط» عن نجوم العصر الذهبي اللبناني الذي كان شاهداً عليه، عن كواليسه وأسراره، عن فرقة «كركلا» حتى بلوغها العالمية. في هذه الحلقة، يتحدث كركلا عن فيروز وما يسميه «الدولة الرحبانية»، سعيد عقل ومخطوطته المخبأة، وغداً مارسيل خليفة قبل أن يصبح نجماً، وأنسي الحاج وما تركه من نصوص غير منشورة، وسبب عداء زكي ناصيف للرحابنة. وفي الحلقة الثالثة والأخيرة، يفتح لنا مستودعاته وكنوزها الخفية. هناك يحفظ أرشيف 50 سنة من أزياء مسرحياته وديكوراته، عشرات الساعات من الأشرطة المصورة مع كبار الأدباء. هكذا، يكشف عن الوجه المجهول لفرقته. كركلا يتحدث وعباقرة ذاك الزمان يحضرون.
نسج عبد الحليم كركلا حوله، طوال أكثر من خمسة عقود من العمل في مجال المسرح الغنائي الراقص، عالماً يصفه بـ«الأسطوري»، يقول إنه «لن يتكرر مرة أخرى». عالم يضج بنجوم الشعر والموسيقى والغناء والمسرح، رفدوا جميعهم بإبداعاتهم، أو من خلال خبراته معهم، فرقته التي أسسها عام 1968 لتصبح رائدة في العالم العربي، وتجوب مسارح الدنيا.
تدفقت من ذاكرته، خلال جلسات دامت ما يقارب عشر ساعات، حكايات مثيرة عن عبقري العود منير بشير الذي لا يحلو له العزف إلا على ضوء الشموع، وفريد الأطرش حين قابله في لندن فإذا به يصبح جزءاً من أفلامه، ومارسيل خليفة التلميذ الصغير في الكونسرفتوار الذي يبحث عن فرصة فيفتح كركلا له باباً عريضاً يأخذ الاثنين معاً إلى أفق العالمية.
يقول كركلا: «ثلاثة لا يتوقفون عن العمل: أنا وعاصي الرحباني وسعيد عقل»، ويردد بأسف: «اللبنانيون لا يعرفونني، ولا يعرفون ما اشتغلته طوال هذه السنين».
أسس فرقته في لبنان، ولم يكن من راقصين: «درّبتهم، واحداً واحداً». كان عليه عبء تصميم الملابس «يوم لم يكن عندنا إيف سان لوران ولا كريستيان ديور»، والبحث عن اللحن وتطويعه بالتعاون مع موسيقيين، وكان زكي ناصيف أولهم. بحث عن شعراء يكتبون له قصائد خاصة لمسرحه، فإذا بسعيد عقل يتبناه، وصديقه طلال حيدر يلازمه. وكما استفاد الرحابنة من كل موهبة صادفوها، عرف كركلا كيف يستقطب الكبار، وينبش في التراث ويعصرنه ليصنع لوحاته المسرحية، ويدير أوركسترا اللحن والقصيدة والأزياء وحركة الأجساد. ومن هنا، استحق لقبه: «المايسترو».
يتذكر أول عمل قدمه في «مهرجانات بعلبك». كان ضمن مسرحية «أيام فخر الدين» سنة 1966، حين تعاون مع الأخوين رحباني وهو لا يزال تلميذاً في بريطانيا، يقضي الصيف مع لجنة مهرجانات بعلبك، يساعد في تدريب فرقة الرحباني، وأحياناً روميو لحود. وكانت له مع الرحابنة مسرحيتان أخريان، هما «ناطورة المفاتيح» و«قصيدة حب».
يقول: «لم أكن أعرفهم. جاء صبري الشريف، مخرج مسرحياتهم، وطلب مني الذهاب معهم إلى أميركا، فقلت له مباشرة: بالاشتراك مع الفرقة». بعد أميركا، كان التعاون في بعلبك. ويرى كركلا أنه «منذ البداية، حصل الاصطدام. تطل فيروز على المسرح وتغني، يصفق الناس، وحين ترقص فرقتي المجوز تقوم القيامة. برز نجم آخر على المسرح هو الرقص. لم يعد الرقص ملحقاً بالغناء، بل أصبح عملاً مستقلاً موازياً للمسرح الرحباني». قررت لجنة المهرجانات أن تعطي فرصة تقديم أول عمل لكركلا، بعد أن رأت تفاعل الجمهور مع الفرقة.
بعد العمل الثاني مع الرحابنة، قال لهم: «لا أحد يحق له أن يتكلم معي سوى عاصي. وبعدها كل أخذ مساحته».
يصر كركلا على أن تعامله مع الرحابنة كان «من الند للند». لم ترقص فرقته أبداً خلف فيروز، لكل مساحته الخاصة على المسرح... «فيروز تقف في مكان عالٍ، ونحن نرقص على المسرح؛ الفرقة لم تكن كومبارس».
عاصي يسمعه القطعة الموسيقية، وينسق معه طولها وسرعتها وإيقاعها، وهل تناسب لعمل لوحة راقصة ناجحة؟ وفي غفلة من مخرجه صبري الشريف، يسأل كركلا رأيه بما يراه خلال البروفات، لأنه «لم يكن يريد إزعاج صبري، وأنا لا أعطي رأيي إلا حين يطلب مني. عاصي كان يصغي للملاحظات، يستمع بعناية إلى ما أبديه ويترجمه على المسرح. صحيح أن الرحبانة كانوا يخشون أن يؤثر أحد على فيروز، فهي النجمة. لكن الكوريغرافيا التي كنت أقدمها هي أمر آخر».
في الاستراحات وبعد البروفات، كانت تشتعل حرب زجلية بين عاصي وفيلمون وهبي الذي غالباً ما يعلن انتصاره و{يهرب}. كان وهبي مخرج نفسه في المسرح الرحباني، يلبس ما يريد ويتحرك كما يشاء «ولا يجرؤ أحد على التدخل بما يفعله، من يستطيع أصلاً؟ كان فسحة لإثارة البهجة في قلوب الناس».

طلال حيدر يشكو إجحاف الرحابنة
شاهد آخر على تلك الفترة، صديق كركلا الأقرب الشاعر طلال حيدر، غنت له فيروز قصائد لا تنسى. وقد شارك في جانب من الحوار، وله رأي في الفرق بين «مسرح الرحابنة» وما صارت عليه «فرقة كركلا». يقول: «المسرح الأول مبني على النجم، يدور حول صوت فيروز. أما كركلا فمسرح متكامل، معمّر على معاني التراث التي تضيء على القيم الإنسانية الدائمة، لا المحلية البائدة. ذاك فرق ظهر منذ البداية». هو يرى أن «عاصي حين كان يكتب مسرحيته الغنائية القائمة كلها على صوت فيروز الذي لا يتكرر في المكان، كركلا كان يكتب بأجساد راقصيه جملته الجديدة في العالم كله».
يصف طلال حيدر تلك العلاقة بين الرحابنة وكركلا بأنها «لم تكن سهلة. اثنان يعرفان أنهما كبار، ويقبل بعضهما بعضاً، ولو أن كلاً منهما يتمنى لو أنه وحده، لكن الأمنية لم تتحقق، وبقيا معاً»، ويضيف: «لا أريد أن أتهم أحداً بالغيرة، لكن دائماً النجمة يصعب عليها أن يصعد أحد أيضاً، إنما لا أصبع يستطيع أن يغطي وجه الشمس».
حين يكون الحديث عن فيروز التي غنت لطلال حيدر «وحدن»، و«يا رايح» وأغنيات أخرى، ثمة شجن يختلط بنبرة صوت الشاعر: «من قديم، كل ما كتبته لكركلا لم يخنه، وما كتبته لغير كركلا هناك ما نزل باسمي، وهناك ما لم ينزل باسمي، حتى مع الرحباني. لو فيلمون وهبي حياً، لكان قد أخبر بما لحن وما كتبت معه».
لا يوافق كركلا صديقه حيدر على بعض آرائه: «عاصي ذكي، بالنسبة لي هو عبقري زمانه. لا لم تكن تهمه فيروز وحدها، كان ينظر إلى الأفق». صداقة خاصة ربطت كركلا بعاصي. يأتي البدو في الصيف من حوران ومناطق كثيرة يخيمون في نبع عدوس، على مقربة من قلعة بعلبك، وينزل الأهالي يسهرون معهم. «إلى هناك كنت آخذ عاصي كما موريس بيجار. كان عاصي عاشقاً للتراث، يفرح بتلك اللقاءات، يريد أن يعرف ما يحدث في الشرق والغرب، عند البدو، في التاريخ، في القصة، يريد أن يلتقط القيم، الجمال، الكلمة، اللحن، أي همسة موجودة في الإنسان. أنا لم أر في هذا الرجل إلا كل ما هو جميل».

الشخص الرحباني
عاصي ومنصور وحدة متكاملة، شخص فني اسمه «الشخص الرحباني» «ولا مرة تجرأ أحد ليقول هذا ما يفعله عاصي وذاك ما يفعله منصور إلا بعد وفاتهما، هذا عيب لا أحبه»، يقول كركلا. لكن ثمة فرقاً جوهرياً بينهما «عاصي عنده اللحن والأغنية الشعبيان، يحب التراث ويبحث عنه. له رؤية وخيال، وقدرة على تحويل هذا التراث إلى مغناة رحبانية لها جذورها. أما منصور فشاعر بكل معنى الكلمة، لكنه أكثر كلاسيكية من عاصي، وكان ملحناً بالطبع. عاصي له حس شعبي كبير، فيما منصور يضع المضمون، وصاحب كلمة شعرية. وكل من يدعي أنه يعرف ما وضعه عاصي، وما كتبه منصور، يقول ما لا يعلم. حسب كل أغنية، مضمونها وجوّها ولحنها، يكون العمل».
يتذكر كركلا كيف فرحت فيروز بأول رقصة {مودرن} (حديثة) قدمها: «كنا نتمرن على أغنية (طلعنا على الضو طلعنا على الريح)، وقد تركتها مفاجأة إلى أن بدأت التمارين. وصل الخبر لفيروز وهي في أوتيل (بالميرا) في بعلبك، فجاءت مسرعة تقول: أخبروني أنك عملت شيئاً عظيماً، أريد أن أتفرج. فأعدنا أمامها مرتين وثلاثاً، والناس تصفق. فيروز امرأة فرحة مرحة، ليس كما يقال عنها أبداً».
«فيروز بلحظة تحفظ الميلودي، وبلحظة تمتلك الأغنية وتنفذها، ما هذه الموهبة؟! كانت تلفتني وهي تتدرب في استوديو بعلبك. هي تحفظ الأغنية وتأخذها إلى ما أعطاها الله، إلى مكان آخر، ويصير العالم كلهم فيروزيين. لها الحكمة والإتقان، وأعني بهما الصنعة، حيث لا كلمة واحدة تلفظها لا نفهمها».

سعيد عقل... عمقه الثقافي عربي
حين تسأل كركلا عن سعيد عقل، يجيبك على الفور: «هذا حبيب قلبي الذي رافقني في حياتي، وكتب لي دون توقف. هو الذي يقول إن سعر كلمته دولار، لم يأخذ مني قرشاً. رباني وزوجني، وكل يوم كان يمر ليراني».
يروي كركلا أنه بعد أن ارتبط بزوجته، وهي مسيحية من زحلة، دون رضى أهلها، غضبوا. وتدخل سعيد عقل بكل قوته، كونه من المدينة نفسها ساعياً بالصلح، وقال لعائلتها: «اسكتوا، يا ليت عندي بنت ويخطفها كركلا».
يصف سعيد عقل بأنه «قامة عملاقة». لا يتكلم عنه إلا وهو يقلد صوته الفخم وحركة يديه، ويبتسم وكأنه يراه. عرفه منذ بداياته، يوم منحه «جائزة سعيد عقل». يقول: «كتب لي أول عمل مسرحي، وأول دلعونة، وبقي معي حتى النهاية».
كركلا يحدد موضوع المسرحية، ويعرضها على سعيد عقل «إلا اليسار ملكة قرطاج، هذه كتبها بمبادرة منه، وأجبرني على تنفيذها. حكى لي القصة من أولها إلى آخرها. كان مهتماً بها لأنها فينيقية من صور وذهبت وبنت قرطاج».
رفض سعيد عقل أن يكتب لكركلا مسرحية «الأندلس.. المجد الضائع» رغم صداقتهما. قال له يومها: «يا كركلا، دعك من العرب، أكتب لك ما تريد لكن أبحث عن غيرهم». يكمل كركلا الحكاية «قلت في نفسي: يا الله، يا أرض انشقي وابتلعيني، كيف لي أن أقنعه؟ في اليوم الثاني، راودتني فكرة. حين جاء لزيارتي قلت له: أين تحب أن تتغدى يا معلمي؟ قال لي: حيث تريد. اخترت مطعم نصر في رأس بيروت، وأنا أعرف أنه يحب المكان والموج يصل إلى حيث نحن. قلت له وقد جلسنا: إذا كان شعب همجياً، وجاء شعب متحضر واستعمره، ما رأيك؟ فأجابني بيكونوا عملوا معهم أحسن شي! ينفعونهم ويعلمونهم. قلت له: هكذا، فعل العرب بالإسبان. العرب القدماء، وليس عرب اليوم». رد عليه سعيد عقل حينها: «يخرب بيتك يا كركلا غلبتني، خلص، سأكتب لك عن عرب ذاك الزمان».
كتب يومها:
رقّص الأيام عظمى لم تُذلّ من سواك اهتمّ بالهمّات من؟
رقّص الأبطال قيسوا بالردى خلّفوا في البال ندّاً وندى
فإذا هم زرعوا الأمس غدا زارك التاريخ كالبدر هلّ
يصيح كركلا وهو يلقي هذه الأبيات «يا إلهي، ما أجمله حين يقول عن العرب (فإذا هم زرعوا الأمس غدا)، هذه افتتاحية مسرحية (الأندلس.. المجد الضائع)».
يحفظ كركلا كل بيت كتبه له سعيد عقل. كان يناديه حين يبدأ التحضير لمسرحية: «تعال يا كركلا، لنرى ما تريد. ضعني في الجو»؟ فيجيبه: أريد أغنية على يا هويدلك أو على وزن ألماني. «كان طريفاً في شعره. كتب مرة: ماني يا يما ألماني، قاتلني وعاود راضاني. بيقولوا رجع لبنان، ليش مين قلكن إنو فل».
بقي كركلا «العربي المتأصل بطبعه» يتحاشى الحديث مع سعيد عقل في موضوع العروبة، رغم لقاءاتهما اليومية، خشية صدام معه. أفكاره حول فلسطين والعرب، ورغبته في استبدال الحرف العربي، والانتصار للعامية، يراها كركلا «ردة فعل على الأصوات التي أرادت أن تمر الطريق إلى فلسطين عبر لبنان. أحياناً يأخذ واحدنا موقفاً ضد أخيه بسبب حدث أو مفصل كبير يطرأ».
تلك الآراء تحولت إلى «هوس عند سعيد عقل، لكنه في عمقه الثقافي كان عربياً، أما سياسياً فغير ذلك». لقد آلمه أن يرى لبنان الجبنة التي تريد أن تأكلها كل الأطراف.
كركلا الذي رافق سعيد عقل في يومياته، يقول إنه «كان يكتب وعينه على المتنبي، وإن لم يكن يعترف أبداً، لكن كل شيء يشي بأنه مفتون به. فحين نقرأ للمتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم، ثم نقرأ سعيد عقل يقول: المجد ما المجد لا أحتاج إليه أبدا | جبيني العالي إليه المجد ينتسب، لا بد أنه يريد أن يقول: أنا المتنبي وأكثر».
يعتبر كركلا أنه «ابن سعيد عقل بالتبني الفني والثقافي. لم يكن أحد في الوسط الثقافي أقرب إليه مني. كان يبث في روح الرفعة وعدم الرضوخ. حين أنوي تقديم عمل لا يعجبه، يقول لي: إياك أن تمجد شخصاً مهما علا شأنه. تمجد وطناً، تمجد شعباً، وليس رئيساً أبداً».
سعيد عقل أحب فيروز وبيت الرحباني، وأعطاهم وأغناهم. «كلام سعيد عقل مع صوت فيروز هما الأفق، ولن يكون أعظم». هنا سرّ «المملكة الرحبانية» أو «الدولة الرحبانية»، كما يسميها كركلا، التي «نشأت على عظمة الكلمة، وعظمة كل الكبار الذين اجتذبوهم. الرحابنة لم يتركوا موهبة حولهم إلا ووظفوها في مسرحهم، وهنا مكمن عبقريتهم».

مع عودة «مهرجانات بعلبك»
بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، تردد أن كركلا يعتبر نفسه أولى بافتتاحها من فيروز، كونه ابن المدينة. وهو يجيب اليوم بأن من أشاع هذه الأخبار لا يعرف شيئاً، لأنه شخصياً كان مقتنعاً أن افتتاحاً بعد 16 سنة حرب يحتاج رمزية كبيرة، تجمع كركلا بفيروز. طلب من زوجته حنينة، وهي صديقة لفيروز، أن تتصل بها وتحدد موعداً. يقول: «ذهبت بنفسي إلى منزلها، وحدثتها عن الاقتراح. سألتني فيروز عن كل شيء. من سيكتب؟ قلت لها: سعيد عقل. قالت: سعيد عقل لن يكتب، لكن إذا كتب سعيد أنا موافقة. اتفقنا خلال لقاءات ثلاث على التفاصيل، الإخراج لإيفان كركلا، والموسيقى لزياد وموسيقي آخر، والرقص تصممه اليسار. وبقي شرط واحد معلقاً أن يكتب سعيد عقل الأغنيات».
فاتح كركلا سعيد عقل بالأمر، فكان جوابه: «هذا ما بيصير»، لكنه في النهاية اقتنع، وذهبا معاً عند فيروز. قال لها سعيد عقل: «يا نهاد أنت نجمة النجوم، لست بحاجة لأحد، فوق الكون قاعدة. وكركلا حامل لبنان وينقله إلى العالم، وليس بحاجة إلى أحد. لكن لبنان بحاجة لك وله، ويجب أن تقدما عملاً مشتركاً في بعلبك». كان هذا اللقاء بعد تباعد بين سعيد عقل وفيروز بسبب الأزمات العائلية التي مروا بها.
لجنة بعلبك، بحسب كركلا، كانت منقسمة. فريق مع سعاد نجار يريد عودة المهرجان بعمل استعادي للريبرتوار الرحباني بصوت فيروز، وفريق آخر مع رئيسة المهرجان مي عريضة، يميل لعمل يقدمه كركلا، ويفضل أن يكون مشتركاً مع فيروز.
بعد الاتفاق مع فيروز، سافر كركلا لعمل في ماليزيا، فإذا بها تتصل به، وتقول: «عبد الحليم أتمنى لك التوفيق. والله يكون معك. أرجو أن نلتقي في وقت آخر. أنا مضطرة لتقديم ريبرتوار رحباني لبعلبك مع منصور»، وهو بدوره تمنى لها التوفيق، وقال لها: «نلتقي لاحقاً». ومن يومها، لم يتم اللقاء. وحين عاد إلى لبنان، وجد أن اللجنة تريد كركلا، فقدم «الأندلس.. المجد الضائع»، وقدمت فيروز في السنة التي تلتها حفلها مع منصور.
«سعيد عقل كتب قصائد هذه المسرحية لتجمعنا: فيروز وأنا، وهي موجودة تنتظر وضعها على المسرح»، وتحمل اسم «أوبرا الضيعة» الذي استخدمه كركلا في إحدى مسرحياته، لكنه لم يستعمل النصوص التي «كتبت لتليق بمقام فيروز».
الحماس لا يزال يسكن كركلا لتنفيذ هذا العمل «أنا مستعد للذهاب عند فيروز من جديد، لأطلب مشاركتها في المسرحية، وهو ما يحتاج إنتاجاً كبيراً يسعد سعيد عقل. وعدٌ مني أن نعود معاً إلى بعلبك لنفرح قلب كل لبناني».

نصان غير منشورين للشاعر سعيد عقل... من أرشيف كركلا

- قصيدة كتبها سعيد عقل لمسرحية «الأندلس.. المجد الضائع» التي قدمها كركلا عام 1997، ولم تستخدم وبقيت في الأدراج:
«للزمان أرقص... ورقِص من أحبّْ
غنِ للمجد كأنْ أنتَ هوَ
طوِق الخصر الذي أنتَ لهُ
وحدَه شعرُك مَن ميَله
وحده رقصك من زلزلهُ
أو ما كنتَ الذي في الكأس صَبّ
لا هدوءاً إنما كلّ الهوى
- أغنية كتبها سعيد عقل، ضمن القصائد التي وضعها لمسرحية كان يفترض أن تجمع كركلا وفيروز، على أدراج بعلبك في الدورة الأولى للمهرجان عام 1997، بعد توقف الحرب الأهلية، ولكن العمل لم يبصر النور، والقصائد تنتظر، وهنا المطلع:
يا هويدلك يا هويدلي
ما غير إلى خصرك عِلِي
شلحتك عا زندي لما رتدع
قلك عا شي نجمة نزلي
يا هويدلك يا هويدلي
طل القمر جايب خبر
قال فوق عّم بخبرو
إنك إلن صرتي القمر
يا هويدلك يا هويدلي

غداً
كواليس كركلا مع أنسي الحاج، ومارسيل خليفة، وزكي ناصيف، وإيلي شويري



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».