الانشقاقات تفكك «إخوان مصر»

بعد 6 سنوات على «اعتصام رابعة»

جانب من اعتصام «الإخوان» في «رابعة» عام 2013 (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في «رابعة» عام 2013 (الشرق الأوسط)
TT

الانشقاقات تفكك «إخوان مصر»

جانب من اعتصام «الإخوان» في «رابعة» عام 2013 (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في «رابعة» عام 2013 (الشرق الأوسط)

«انشقاقات، وتفكك، وصراعات بين الشباب والقيادات»، هذا هو المشهد السائد الآن بعد 6 سنوات على اعتصام «إخوان مصر» في ميدان «رابعة» شرق القاهرة. وحسب خبراء في الحركات الأصولية والشؤون الأمنية فإن «(رابعة) كان هو الحدث المحوري لبداية الانشقاقات بين الشباب والقيادات بعدما فقد شباب التنظيم الثقة بهم لتخليهم عنهم».

يقول خبراء الشأن الأصولي لـ«الشرق الأوسط» إن «95% من قطاعات الشباب كانت مؤيدة لفكرة العنف في التنظيم عقب أحداث (رابعة) عام 2013، وهذا ما ظهر جلياً في الاعتصامات التي حدثت في عامي 2014 و2015»، مؤكدين أن «شباب (الإخوان) ما زالوا يرون أن القيادات في الخارج لم تثأر لما حدث في (رابعة)؛ بل هم يعيشون في تركيا وقطر، وتخلوا عن الشباب؛ بل وأصبح لديهم فساد إداري يتعلق بالأموال التي تصل إلى التنظيم». وأشار الخبراء إلى أن «قيادات الخارج تعاملت مع الشباب حسب (هو تابع لمن، أو محسوب على من) منهم، فأوضاع الشباب في الخارج الآن مأساوية، وهناك تخلٍّ عنهم بشكل كبير وواضح». يأتي هذا المشهد العام للتنظيم في الخارج، وسط خفوت تام للدعوات الإخوانية للتظاهر في الميادين المصرية في ذكرى الاعتصام، والتحريض على العنف.

صراع عزت وكمال

في صبيحة يوم 14 أغسطس (آب) عام 2013 فضّت السلطات المصرية اعتصام مؤيدي الرئيس الأسبق محمد مرسي بميداني «رابعة» بالقاهرة، و«النهضة» بالجيزة. وأصدر مجلس الوزراء المصري بياناً حينها أكد فيه أن «الإجراءات كانت حتمية لمواجهة التخريب»... وشدد على «الالتزام بضمان حق التعبير السلمي ما دام كان ذلك في إطار الحفاظ على سلامة وأمن المجتمع».
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «شباب (الإخوان) ما زالوا غاضبين من قيادات التنظيم، لأنهم كانوا يريدون رد فعل مناسباً على فض (رابعة والنهضة)؛ لكنهم وجدوا تراخياً من القيادات، التي كانت ممثلة للتنظيم في ذلك الوقت، وفي مقدمتهم محمود عزت، القائم بأعمال مرشد (الإخوان)، والذي كان يوافق على العمل النوعي؛ لكن من دون إراقة دماء، بمعنى إجهاد النظام الحاكم بمصر في عمليات تخريب دون الوصول إلى مواجهات مسلحة، تلا ذلك انسحاب محمود عزت من المشهد، واستمرار محمد كمال (مؤسس الجناح المسلح لـ«الإخوان» ولجانها النوعية) في المواجهة المسلحة»، مضيفاً أن «95% من قطاعات الشباب كانت مؤيدة لفكرة العنف في التنظيم عقب أحداث (رابعة) عام 2013، وهذا ما ظهر جلياً في الاعتصامات التي حدثت في عامي 2014 و2015».
المشهد الذي لا يزال يتذكره المصريون عندما تحل ذكرى «رابعة»، هو ما قام به أنصار مرسي، عقب فض «اعتصام رابعة»، من إحراق الكنائس، واقتحام وإحراق أقسام الشرطة، وتهريب المتهمين المحتجزين على ذمة قضايا، وقتل للأبرياء في الشوارع.
وأكد زغلول، أن «شباب (الإخوان) ما زالوا يرون أن القيادات في الخارج لم تثأر لما حدث في (رابعة)؛ بل هم يعيشون في تركيا وقطر وتخلوا عن الشباب؛ بل أصبح لديهم فساد إداري يتعلق بالأموال التي تصل إلى التنظيم»، لافتاً إلى أن «الشباب يرون أنه لا حل للأزمة مع قيادات الخارج، دون الإجابة عن التساؤل الذي لم تجب عنه القيادات منذ عام 2013 وهو (ماذا فعلت القيادات لمن كانوا في رابعة؟)، وعندما لم يجدوا الإجابة، لجأ الشباب عقب رحيل مرسي عن السلطة في 3 يوليو (تموز) عام 2013 إلى الانضمام للتنظيمات التكفيرية، لأن قطاعات عديدة من الشباب كانت تُعلق آمالها على العمل النوعي للتنظيم؛ لكن خفوت التنظيم، جعل الشباب (يكفر) –على حد قوله– بمشروع (الإخوان)، وقدرة التنظيم على التغيير، وانضم بعضهم إلى تنظيم (القاعدة)، أو (ولاية سيناء الموالي لداعش)، وبعضهم سافر إلى سوريا وانضم لـ(داعش)».

التنظيمات السرية

وقال مراقبون إن «تنظيم (الإخوان) اعتمد منذ نشأته على التنظيمات السرية للتخلص من خصومه»، مؤكدين أن «حركات مثل (حسم) و(لواء الثورة) أحد إفرازات (الإخوان)، وأنه عقب رحيل (الإخوان) عن السلطة في مصر، كانت هناك أجنحة لم تقبل بهذا الرحيل، وبدأ ظهور مجموعة (العمليات النوعية) بقيادة محمد كمال (الذي قُتل في مواجهات مع الأمن المصري)».
وعن تزايد الانشقاقات بين الشباب وقيادات الخارج الآن، قال زغلول: «في البداية كانت قيادات الخارج حريصة على الشباب الذين يصلون إلى تركيا مثلاً، ثم بدأ هذا الاهتمام يقل شيئاً فشيئاً، ونتج عنه أزمات، خصوصاً مع ترحيل بعض الشباب، ووجود أزمات في جوازات السفر، لا سيما لمن ينتهي جوازه، فقيادات الخارج تعاملت مع الشباب حسب (هو تابع لمن، أو محسوب على من) منهم، فأوضاع الشباب في الخارج الآن مأساوية، وهناك تخلٍّ عنهم بشكل كبير وواضح».
وأكد المراقبون: «سبق أن أعلنت ماليزيا تسليم 5 من شباب (الإخوان) لمصر، بعدما تبين للحكومة الماليزية أنهم صادر بحقهم أحكام بالمؤبد غيابياً في قضايا إرهابية، وأسماؤهم مُدرجة على قوائم الإنتربول... كما رحّلت تركيا الشاب الإخواني محمد عبد الحفيظ الصادر بحقه حكم غيابي بالإعدام في قضية استهداف النائب العام المصري السابق المستشار هشام بركات، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها سلطات تركيا بترحيل أحد عناصر التنظيم الهاربين... وهو ما دفع الشباب إلى اللجوء لمواقع التواصل الاجتماعي، للتحريض ضد القيادات والدول التي تحاول طردهم».

أحكام «رابعة»

يأتي هذا في وقت، ما زالت القضية المعروفة إعلامياً بـ«فض اعتصام رابعة» متداولة في المحاكم المصرية، إذ يترقب أن تحدد محكمة النقض (أعلى هيئة قضائية في البلاد) خلال الفترة المقبلة موعداً، لنظر طعون المتهمين على الأحكام الصادرة ضدهم من محكمة الجنايات.
وفى سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، قضت محكمة جنايات القاهرة وبإجماع الآراء بإعدام 75 من قيادات «الإخوان» لإدانتهم في قضية اعتصام «رابعة» المسلح، وذلك عقب استطلاع رأي مفتي الديار المصرية.
وشمل الحكم 44 متهماً حضورياً محبوسين، ومنهم قيادات التنظيم: عصام العريان، ومحمد البلتاجي، وصفوت حجازي، وعبد الرحمن البر (المُلقب بمفتي الإخوان)، وغيابياً 31 متهماً هاربين، ومنهم طارق الزمر (المدرج 3 مرات على قوائم الإرهاب، آخرها في يناير «كانون الثاني» الماضي، وقبلها أُدرج مع 164 متهماً، ومدرج أيضاً ضمن قائمة ضمت 59 إرهابياً أعلنت عنها 4 دول هي «المملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين» على خلفية قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر لتمويل الجماعات الإرهابية)، فضلاً عن وجدي غنيم (المدرج على قوائم الإرهاب، والمحكوم عليه بالسجن 3 سنوات في «إهانة القضاء»، والسجن المؤبد في قضية «خلية وجدي غنيم» بمصر).
كانت تحقيقات النيابة العامة في القضية قد انتهت إلى اتهام 739 من عناصر «الإخوان» بأنهم خلال الفترة من 21 يونيو (حزيران) حتى 14 أغسطس 2013، ارتكبوا جرائم تدبير تجمهر مسلح، والاشتراك فيه بميدان «رابعة» وقطع الطرق، وتقييد حرية الناس في التنقل، والقتل العمد مع سبق الإصرار للمواطنين وقوات الشرطة المكلفة بفض تجمهرهم، والشروع في القتل العمد، وتعمد تعطيل سير وسائل النقل، فضلاً عن تقييد حركة المواطنين وحرمانهم من حرية التنقل، والتأثير على السلطات العامة في أعمالها بهدف مناهضة ثورة «30 يونيو» التي أطاحت بحكم «الإخوان»، وتغيير خريطة الطريق التي أجمع الشعب المصري عليها.

تخلي قيادات الخارج

من جهته، أكد اللواء كمال المغربي، الخبير الأمني والاستراتيجي، أن «نغمة الاستقواء بالخارج التي يرددها (الإخوان) أصبحت بلا قيمة الآن»، مضيفاً أن «ما دفع شباب (الإخوان) الهاربين للتحريض ضد قيادات التنظيم عبر صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، هي حالة الذعر التي يعيشون فيها بعد تخلي القيادات عنهم».
وعن شباب الإخوان في مصر الآن، قال أحمد زغلول: إن «شباب (الإخوان) يواجهون أعباء نفسية واجتماعية، سواء مَن خرجوا من السجون، أو مَن هم بداخلها، لعدم قدرتهم على الانخراط في المجتمع المصري، والتخلي عن أفكار التنظيم، خصوصاً التي تدعو للعنف والتحريض... لذا ترى شريحة من شباب التنظيم أن العنف هو السبيل الآن عبر القيام بعمليات عشوائية، والتي تُعد هي الأخطر الآن من وجهة نظري».
ودلل زغلول على ذلك بأنه «عقب وفاة مرسي (الطبيعية) كان هناك عدد من شباب (الإخوان) يُفكر في القيام بأعمال عنف وشغب، خصوصاً بعدما تزايد التحريض من بعض الدول ضد مصر في واقعة وفاة محمد مرسي؛ لكنهم تراجعوا عن القيام بتلك الخطوة، لعدم وجود ظهير لهم في الشارع، وللفظ المصريين للتنظيم، الذي تعده السلطات المصرية إرهابياً».
واتهمت وزارة الداخلية في مصر، حركة «حسم» أخيراً بضلوعها في «انفجار معهد الأورام». وقالت وقتها، إنه «ناجم عن سيارة تم تجهيزها بالمتفجرات استعداداً لتنفيذ (عمل إرهابي)؛ لكنها انفجرت عندما كانت تسير في الاتجاه المعاكس على كورنيش النيل أمام المعهد». كما اعترف المتهم حسام عادل، واسمه الحركي «معاذ»، الذي أعلنت «الداخلية» توقيفه، أنه «عمل في مجال الدعم اللوجيستي والرصد، وكان يتلقى التكليفات من مسؤولي تنظيم (الإخوان) في تركيا والسودان».
وخلت ذكرى «رابعة» السادسة من أي دعوات للتظاهر في مصر. واكتفت الصفحة الرسمية لحزب الحرية والعدالة «المنحل»، ذراع «الإخوان» السياسية، على «فيسبوك»، بنشر صور لـ«اعتصام رابعة»، من دون أي دعوات للتظاهر.


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟