نجيب عياد أعاد مجد مهرجان قرطاج وبيتر فوندا خرج عن التقليد في أميركا

المنتجان رحلا بفارق ساعات

نجيب عياد  -  صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
نجيب عياد - صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
TT

نجيب عياد أعاد مجد مهرجان قرطاج وبيتر فوندا خرج عن التقليد في أميركا

نجيب عياد  -  صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
نجيب عياد - صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)

لم تمض سوى بضع ساعات على وفاة المنتج مدير مهرجان قرطاج السينمائي نجيب عياد حتى رحل الممثل - والمنتج والمخرج أحياناً - بيتر فوندا. السينما هي جامعهما من على بعد شديد. كل منهما ساهم في وضع رؤية أخرى مختلفة في المجال الذي عمل فيه. نجيب عياد طرح نفسه منتجاً لأفلام منفذة بعناية، و- لاحقاً - مدير أيام قرطاج السينمائي بالعناية ذاتها. في كلا الحقلين، مارس رغبته في توفير منصات فنية تونسية يخدم بها طموحه وبلاده معاً.
بيتر فوندا، بدوره، بلور في الستينات ومطلع السبعينات شخصية البديل السينمائي للثقافة السائدة؛ سعى لتمثيل أدوار تعكس لا مرحلة شبابه فقط، بل تلك المرحلة بالتزامن مع بحث أميركا في تلك الفترة عن بديل لأميركا المؤسسات المحافظة.
- مهّد لسنة الحسم
جاء نبأ وفاة نجيب عياد مفاجئاً. كان يمضي ساعات عمله حثيثاً في سبيل تقديم دورة جديدة من المهرجان التونسي العريق، بعدما كان قد أدار دورتين سابقتين، وودع أصدقاءه وجمهور المهرجان في دورته السابقة في العام الماضي، مؤكداً أنه يريد العودة إلى حياته الفنية السابقة، مكتفياً بالإنتاج وحده. هذا لم يتيسر له لأن وزارة الثقافة أقنعته بأن النجاح الذي حققه في الدورتين السابقتين (2017 و2019) ليس من السهل تركهما من قبل تعزيزهما بدورة ثالثة، يستطيع بعدها ترك إدارة المهرجان وقد أرسى قواعده الجديدة. وافق نجيب على ذلك، وحضر مهرجان «كان» الفرنسي الماضي، حيث بدا بكامل نشاطه، متحدثاً للصحافة العالمية عن الخطوات التي قطعها المهرجان حتى الآن، والاستعدادات الجارية للدورة الثالثة.
ولد نجيب في الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) 1953. وبعد سنوات الدراسة، توجه صوب العمل الفني، ناقداً في البداية (لخمس سنوات بين 1975 و1980)، ثم منتجاً لحساب وزارة الثقافة، قبل قيامه بالإنتاج لشركة أسسها باسم «ضفاف».
قام نجيب بإنتاج أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية عدّة. في السينما يحضرنا «مملكة النمل» الذي أخرجه شوقي الماجري، وتم تصويره في الأردن، من بطولة عابد فهد وصبا مبارك. فيه سردٌ خيالي لعالم تحت الأرض، يعيشه الفلسطينيون بعدما استطاعوا بناء أنفاق توصلهم بعضهم ببعض، تجاوزاً للجدار القائم وللمستوطنات التي تفصل بين البلدات والمدن.
من أفلامه أيضاً «الحي يروّح» لمحمد أمين بوخريص (2013)، وهو فيلم غير روائي يتعامل وثورات الربيع العربي التي بدأت شرارتها في تونس، ثم امتدت لما امتدت إليه من دول عربية أخرى. وقبل هذا الفيلم بعشر سنوات، أنتج «أوديسة» للمخرج التونسي المعروف إبراهيم باباي. ذلك الفيلم، على الأرجح، كان آخر ما حققه باباي الذي صاحب مهرجان قرطاج منذ إنشائه في الستينات.
وقبل تسلم نجيب عياد إدارة مهرجان قرطاج، كان قد أنشأ مهرجانه المستقل باسم «مهرجان الأطفال والشباب»، وأنجز منه عدة دورات ناجحة. ونظير كل ذلك، لم يكن غريباً أن تتوجه إليه وزارة الثقافة التونسية بطلب إدارته لمهرجان قرطاج الذي هو العنوان الأكبر للنشاطات التونسية في السينما. ما كان سيبدو غريباً هو عدم إسناد هذه المهمة إليه، نظراً لخبرته. وما هو غريب بالفعل عدم إسناد المهمّة إليه من قبل، عندما تواكبت الإدارات السابقة عليه، التي كانت قد أصبحت وظيفيه خالية من الجهد الذاتي والرؤية المستقبلية، ومليئة بثقوب الشللية والمحسوبيات.
خلال حديث قصير بيننا، إثر مؤتمر نجيب عياد الصحافي في مدينة «كان»، قال: «عدت عن قرار الاستقالة من مهرجان أيام قرطاج السينمائي لأني أدركت أنني لم أنجز بعد كل ما أردت إنجازه، وأدركت أنني إذا ما تركته من دون تكملة، فإن من سيخلفني قد يجد من الصعوبة بمكان مواصلة ما بدأته».
ووعد أن تأتي دورة أكتوبر (تشرين الأول) المقبلة وقد تخلصت من كل عثرات الدورتين السابقتين: «المهمة كانت صعبة في البداية، وكان عليّ تذليل هذه المصاعب، لأن مهرجان قرطاج مثّل دائماً الفرصة الكبيرة لكي يتبوأ المهرجان مكانته المنفردة على ساحة السينما العربية والأفريقية. الدورة الجديدة ستؤكد على هذا الشأن، وستكون أفضل تنظيماً، بعدما عملت منذ عامين على تأسيس فريق عمل دائم يتابع العمل في مختلف نشاطاته وأقسامه».
يأتي غياب نجيب عياد بعد أسابيع قليلة من رحيل السينمائي الآخر يوسف شريف رزق الله الذي ترك بصمته الكبيرة على مهرجان القاهرة، وكان عماده الفعلي.
- الخارج عن المألوف
بيتر فوندا، على جناح الطرف الآخر من العالم، هو ابن الممثل الراحل هنري فوندا (1905 - 1982)، وشقيق الممثلة جين فوندا (ولدت سنة 1937، وتبلغ حالياً 81 سنة). الشقيق الأصغر بيتر اتجه للسينما باكراً مثل جين، وكلاهما اختلف عن والده. لقد غرفا حب المهنة منه، لكنهما اختلفا عنه بانتمائهما لمرحلة سياسية واجتماعية جديدة. وفي حين اتجهت جين فوندا لنشاط سياسي مناوئ للحرب الفيتنامية، حصر بيتر فوندا نشاطه في أفلام تعبر عن أميركا الشابة في تلك الفترة.
كلاهما يلتقي في أنهما من جيل مختلف لم يتفق مع الكلاسيكيين في شيء يذكر، خصوصاً أن والدهما، كما نشرت جين فوندا في مذكراتها، كان من النوع الذي لا يمكنه إظهار حبه لأولاده. هذا من قبل أن يختفي برود العلاقة بين جين وأبيها، عندما قاما بتمثيل فيلم مشترك (الأول والأخير بينهما)، وعنوانه «على بحيرة ذهبية» (1981).
كان بيتر ما زال شاباً يافعاً عندما صفّق له الجمهور والنقاد، حين شاهدوه على خشبة مسارح برودواي سنة 1961 يؤدي الدور الرئيسي في مسرحية بعنوان «دم وعرق وستانلي بول»، وضعها الأخوين جيمس وويليام غولدمان عن تجربتهما في الجيش.وشجع هذا النجاح الممثل الشاب على الظهور في مسلسلات تلفزيونية في أدوار مختلفة، منها المسلسل البوليسي «Naked City» ومسلسل الوسترن «Wagon Train»، وأحياناً في مسلسل أكشن مشابه بعنوان «المدافعون» (The Defenders).
وبعد عامين على ظهوره على خشبة المسرح، اختير لبطولة فيلم «تامي والطبيب»، أمام ساندرا دي: كوميديا عابرة انتقل بعدها إلى فيلم «المنتصرون» لكارل فورمان (1963 أيضاً)، الذي تجلّى عن نيله جائزة غولدن غلوب كـ«أفضل ممثل جديد». لكن معظم سنوات تلك الفترة المنتصفة من الستينات أمضاها بيتر في المسلسلات التلفزيونية المختلفة (من بينها أيضاً حلقات من «ساعة ألفرد هيتشكوك»، وكل حلقات المسلسل الدرامي «شانينغ»). فوندا شارك كذلك في عام 1964 الممثل وورن بايتي بطولة فيلم «ليليث».
في تلك الفترة، تعالى صدى الأحداث والمتغيرات الطارئة على المجتمع الأميركي الذي انقسم لواحد تقليدي محافظ، في مقابل آخر شبابي معارض. شارك فوندا سنة 1966 في مظاهرة في لوس أنجليس أراد منظموها التعبير عن رغبتهم في التغيير، والاعتراف بمطالب الجيل الجديد. لكن المظاهرة انقلبت، في الواقع، إلى أعمال شغب، ووجد بيتر فوندا الذي شارك في شكلها السلمي الأول نفسه مقيد اليدين، بعدما ألقى البوليس القبض عليه، وتم اتهامه بإثارة الشغب.
الحادثة ساهمت في تحويل اهتمام فوندا، على نحو أو آخر، صوب ما كان الشباب الأميركي آنذاك يريد التعبير عنه من مناهضة النظام السياسي السائد. هذا ما دلف به إلى أفلام دراجات شبابية، بعضها كان من إنتاج روجر كورمان الذي كان قد ألّف من حوله عدداً من الكتاب والممثلين الشبان، بينهم جاك نيكولسون وبروس ديرن ودايان لاد (ابنة الممثل الراحل ألان لاد).
كانت الدراجة النارية بمثابة رمز لسعي الشباب الخارج عن القانون إلى الانتماء بعضهم لبعض، وليس إلى الوطن كما عهدوه. إلى هذا الخضم انضم بيتر فوندا، ومثل بطولة «الملائكة المتوحشون» (The Wild Angels)، ثم فيلم آخر عن ثقافة العصر، عنوانه «الرحلة» (The Trip)، الذي كتبه جاك نيكولسون، وشارك في تمثيله شاب آخر اسمه دنيس هوبر.
الثلاثة (فوندا ونيكولسون وهوبر) أمّوا في عام 1969 فيلماً آخر عن شباب الدراجات النارية، هو «إيزي رايدر» الذي لم يتبوأ فقط المركز الرابع في أعلى إيرادات ذلك العام، بل تبوأ كذلك الصدارة بين كل الأفلام الشبابية التي تحدثت عن فتيان أميركيين ينشدون الحرية، بعيداً عن التزامات المجتمع التقليدية.
ولم يكن النجاح محلياً فقط، بل عالمياً، إذ تحلى الفيلم بجديد طارئ، وتمتع بتوزيع شركة كولمبيا ذات النفوذ. ووفر الفيلم لجاك نيكولسون ترشحه لأوسكار أفضل ممثل عنه، ولدنيس هوبر مهنة، ولو قصيرة، في مجال الإخراج.
بعد ذلك بعامين، بلور بيتر فوندا فيلم وسترن أكثر هدوءاً والتزاماً، بعنوان «The Hired Hand»، الذي قام ببطولته وإخراجه. في هذه الفترة، وبينما كان بيتر قد بدأ يشق طريقه، مبتعداً أكثر فأكثر عن صورة الهيبي الجانح صوب التغيير، كانت شقيقته تتخذ مواقف يسارية أشد، وتقف ضد حرب فيتنام في الواقع، كما في الأفلام.
استمر هنري بعد ذلك في العمل السينمائي بلا توقف (رصيده من الأفلام التي مثلها يبلغ 75 فيلماً)، وهو الوحيد الذي لم يفز بأوسكار في عائلته، لكن هذا لم يشغله عن المتابعة، متحوّلاً بالتدريج إلى الممثل المختلف عن أي مرجعيات سياسية، وقابلاً بأدوار في أفلام مختلفة. وباستثناء «3:10 ليوما» لجيمس مانغولد (2007)، قلما وجدناه في فيلم رئيسي خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة التي حفلت بأدوار مساندة، آخرها فيلم لم يعرض بعد، بعنوان «المعيار الكامل الأخير» (The Last Full easure)، يشارك فيه إلى جانب سامويل ل. جونسون وإد هاريس وكريستوفر بلامر وويليام هيرت.
وإلى جانب «اليد المأجورة» سنة 1971، أخرج فيلمين آخرين، هما: «Idaho Transfer» سنة 1973 و«واندا نيفادا» (1979)، لكن أي من أفلامه مخرجاً لم ينجز أكثر من حضور في ذاكرة الراغبين في الاستعادة.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)