إشراك جمهور الشارع في العرض بتقنيات بسيطة

مهرجان «مسرح الساحة» الإيطالي في دورته السنوية الـ49

من العروض المسرحية
من العروض المسرحية
TT

إشراك جمهور الشارع في العرض بتقنيات بسيطة

من العروض المسرحية
من العروض المسرحية

يمكن القول إن علاقة الشارع الإيطالي بالفن علاقة وطيدة مستمرة، فكثير من الفنانين الشبان يتخذون من الأرصفة والشوارع معارض مفتوحة لأعمالهم الفنية، سواء تلك التي اتخذت وسيلة من قبل بعضهم لـ«لقمة العيش»، أو تلك التي يكمن وراءها الدافع الفني المحض. وبطبيعة الحال، فإن علاقة الإيطاليين بالفنون علاقة قديمة متجددة، ولا يقتصر الأمر على الفنون التشكيلية التي تشهد حالة ازدهار، بل يتعداها إلى سائر مفردات التعبير الفني، ولعل أبرز ما في هذه الفنون طابع الاحتفال الذي يرافقها.
لقد ارتقى المشاهد الإيطالي إلى مواقع جديدة، أصبح يمتلك فيها حضوره كعنصر فاعل، وكهدف رئيسي لكل النشاطات الفنية، مما جعل محافظة كل مدينة من المدن الإيطالية مطالبة بتقديم العروض الفنية بشكل متواصل، لدرجة اشتد فيها التنافس لتقديم كل ما هو جديد.
ضمن هذا التوجه، ينظم الآن في مدينة سانت أركانجيلو الشمالية التي تطل على البحر الأدرياتيكي مهرجان يدعى «مسرح الساحة»، وهو (حسب المشرفين) يعود إلى مئات السنين. إلا أن هذه الفعالية السنوية، التي تحتفل بدورتها الـ49 الجديدة، تعرضت إلى متغيرات كثيرة، أصبحت بعدها على صورة مهرجان سنوي يمتد عشرة أيام، وتشرف على تنظيمه محافظة المدينة وبلديتها، وعدد من المنظمات والمؤسسات الرسمية والشعبية.
ويمكن اعتبار المهرجان بمثابة حج سنوي لعشرات الفرق المسرحية الشابة التي تحضر من جميع أنحاء العالم، والتي استطاعت أن تحقق إنجازات مهمة وكبيرة في مجال المسرح الأوروبي الجديد، لما حققته من درجات عالية من النضج والحيوية. من الجنوب الإيطالي ومن الشمال، ومن أوروبا وبعض الدول الآسيوية والأفريقية، ينصبون خيامهم في ساحات المدينة التاريخية التي تعود إلى بدايات العصر الروماني، وعلى مدى الأيام المحددة للمهرجان يقيمون حفلاتهم الموسيقية الراقصة، ويعرضون بضاعتهم اليدوية، ليغطوا بمبيعاتهم نفقات سفرهم وإقامتهم، يتحاورون ويقيمون الندوات، ويتحدث كثير منهم عن تجربته المسرحية وتجربة بلاده، والموضوعات المسرحية المستقاة من الحياة اليومية للناس، وحجم تأثيرها على الجمهور بسبب الاحتكاك المباشر معهم.
تقول الناقدة المسرحية إيفا نيكليافا، من جمهورية روسيا البيضاء، المشرف العام على المهرجان، لـ«الشرق الأوسط» إن «مجمل التجارب الحالية والشابة في المسرح الأوروبي المعروفة بـ(الحساسيات الجــــــديدة) هي نوع من الإقرار بكونها في غالبيتها تعكس اقتداراً في رســم معالم أفق مشــترك يجعلها ترقى إلى مستوى الموجات المسرحية الجديدة، أو التيارات التي تغزو خشبات المسرح العالمي، وهو الأمر الذي يجعل النقاد يحصرون هذه المجهودات الفردية المشتتة هنا وهناك، كونها حساسيات جديدة، تمتلك آفاقاً واضحة للاشتغال بمشروع جمالي واضح، وتنطلق من وعي نقدي وتنظيري». وتضيف المشرفة العامة: «يبدو واضحاً من معطيات المختبر التجريبي لكل تجربة منها أن سمات الإبداع المسرحي اليوم، أياً كانت البقعة التي تنتمي لها في العالم، لا يمكن أن تكون بمعزل عن معطيات ما بعد الحداثة التي غدت تحكم العالم والعلاقات الفردية والجماعية».
القوالب المسرحية الجديدة تحمل المفاجأة، وهي حصيلة جهود بشرية في أزمان وأماكن مختلفة، واستخدامها خارج البناءات التقليدية للمسارح لا يضير المسرح الكلاسيكي المتعارف عليه، الذي تحتضنه قاعات المسرح وخشبته العتيدة. فالمسرح الذي نشاهده في ساحات وشوارع المدن هو الشكل الآخر الحديث تماماً، الذي يمكننا وصفه بالمسرح الأكثر حيوية، وليس بالمثالي. فإذا كان الجمهور ينتظر مسرحاً جديداً، خارج المباني والكراسي والسينوغرافيا، فإنه في مسرح الساحة سيكون بالضرورة داخل إطار الأفكار.
المسرحيون هنا يجمعون على أنهم يقفون بمواجهة ما يطلقون عليه المسرح المحافظ الذي أصبح حبيساً لمفاهيم مسرحية غدت قديمة وكلاسيكية ومستهلكة في سيرورة التطور العالمي للمسرح الذي شهد غداة ظهور الإنترنت مسرح ما بعد الدرامي وما بعد الحداثي. من جهة أخرى، تم تضييع كثير من الوقت في محاولة تأسيس مسرح جديد الشكل، من خلال الاعتماد على أشكال ما قبل مسرحية، هي ظواهر وطقوس غير مسرحية، أو على نصوص وأجناس أدبية لها القابلية لأن تكون من خلال مواضيعها وشخوصها وعوالمها مادة خاماً لمسرح ينهل من التراث، لكن لا يكفي حشد هذه العناصر من التراث داخل عمل مسرحي ليكون ذا قيمة فنية.
إن القالب المسرحي المتداول الذي يطلق على نفسه «الحديث» يدور حول الأسئلة الصغيرة والكبيرة في حياة الناس؛ الجميع هنا في إيطاليا يبحث عن الجوانب الإنسانية في حياتنا، وهو حصيلة جهود البشرية في أزمان وأماكن مختلفة، واستخدامه يعكس طموح أصحاب الفرق المشاركة إلى خلق مسرح نابض بالحياة، وتحقيق مبدأ ديمقراطية المسرح الحقيقي التي تعتمد على المحادثة والمناقشة، وهنا يعيش المشاهد المتلقي الأحداث دماً ولحماً، من دون كاميرا وفلتر وطبع وتحميض ومونتاج، ولا يضير استخدام كل الوسائل التقنية الحديثة أو تلك الوسائل التقليدية، إذا أحسنت الفرق المسرحية الشابة استخدامها، وعرفت كيف تسيطر على هذه الأساليب والقوالب المسرحية، ليجعلوها وسيلة لعرض هموم الإنسان وتطلعاته. ويظل الهدف، كما تقول الفنانة المسرحية الإيطالية ليزا جيرالدينو، مساعدة المشرفة على المهرجان: «إيجاد طريقة المسرح التفاعلي، أي إشراك الجمهور في العرض. ولعل التجارب الشبابية في الأعوام السابقة نجحت إلى حد كبير في استقراء تراثها، والنهل منه في تشكيل مادة مسرحية. وهي تجارب استطاعت عن حق تطويع القالب المسرحي، وتمكنت من استخدام تقنيات مسرحية جديدة، من دون تضييع الوقت في التنظير لهوية هذه المسرحية أو تلك».
العروض الرسمية المشاركة تحصل على دعم بلدية المدينة والمؤسسات الرسمية والأهلية التي تقوم بتهيئة القواعد الخشبية (خشبة المسرح) في ساحات المدينة الرئيسية، إضافة إلى مستلزمات الإضاءة والصوت. وهذه الفرق تعّد بنفسها ما ترتئيه من ديكورات، كما تلزم الفرق المشاركة بتقديم طلبات المشاركة قبل 3 أشهر من بداية المهرجان السنوي، لتثبيت اسمها في برنامج العروض، وتهيئة المستلزمات الضرورية الأخرى، كتحديد اسم الساحة ومكانها في خريطة المدينة، وأيضاً أوقات العرض، إضافة إلى اللقاءات الصحافية والتلفزيونية، وإعداد المطبوعات وتنظيم المواعيد، إضافة إلى منح أعضاء الفرق المساهمة بطاقات دعم وتسهيل حجز مخيمات المنام، وتسهيل المواصلات وتسهيل ودعم طبع الإعلانات والنشرات، والحصول على دعم خاص لوجبات الطعام في المطاعم الشعبية التي تظل مفتوحة إلى ساعات متأخرة من الليل. ويلاحظ أن عدد الفرق المشاركة يزداد كل عام، ويزداد عدد الفرق الصغيرة غير المدعوة للمشاركة التي تنتشر في زوايا وشوارع المدينة، لتقوم بعرض أعمالها المسرحية جنباً إلى جنب مع الفرق الموسيقية والغنائية الفلكلورية ورسامي الساحات وبائعي اللوحات والحلي والحقائب الجلدية والملابس الفلكلورية الآتية من بلدان أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا.


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.