بعد أعوام من انطلاق آبائهم في رحلة مجهولة من بلجيكا وفرنسا للانضمام إلى صفوف التنظيم الإرهابي، انتقل 18 طفلاً من مخيمات اللاجئين السورية البائسة ذات الأوضاع المعيشية اليائسة إلى حياة جديدة واعدة في بلجيكا وفرنسا، الأمر الذي أثار الانتباه والاهتمام على نطاق واسع هناك، إثر حالة التعنُّت الأوروبية المشهودة في قبول أطفال المتطرفين على أراضيها.
تشير التقديرات إلى أن قبولهم ليس القاعدة وإنما مجرد استثناء، ولا يزال هناك نحو 1300 طفل أو أكثر من أبناء المتطرفين المقاتلين ذوي الأصول الأوروبية ينتشرون في مختلف الأماكن في سوريا والعراق. وفي حين أن بعض الحكومات الأوروبية قد خففت من مواقفها المتعنتة، بصورة نسبية، بشأن إعادة الأطفال إلى أوطانهم، فلا يزال من غير الواضح متى، أو ما إذا كان يمكن للأطفال المغادرة إلى بلادهم.
وتشير رحلات النقل الجوي الأخيرة التي تمت بعد شهور من إجراءات التحقق من هويات الأطفال إلى مدى مقاومة وتعنت البلدان الغربية للأمر برمته. ولم تستقبل بلجيكا أو فرنسا من الأطفال إلا الذين لقي آباؤهم مصرعهم فعلاً في سوريا أو العراق، وأغلبهم من الأيتام، ودخل بعضهم إلى أراضي «داعش» رفقة آبائهم الذين قُتِلوا هناك، في حين بقيت أمهاتهم في أوروبا.
وقبل ذلك بأيام، كان فريق عمل بلجيكي قد أنشأ عيادة فحص مؤقتة في مخيم الهول شمال شرقي سوريا، ذلك المخيم الذي يضم بين جنباته الآلاف من أتباع «داعش» الحاليين والسابقين وأفراد عائلاتهم وذويهم، بهدف توفير الرعاية الطبية والتقييمات النفسية لأطفال الرعايا البلجيكيين.
تقول هايدي دي - باو، إحدى عضوات الفريق البلجيكي: «إنهم يرغبون بالعودة إلى بلجيكا، وكانوا يقولون لنا: نريد الرجوع إلى بلادنا».
بيد أن السيدة دي - باو، وهي المديرة التنفيذية لمركز «تشايلد فوكاس» للأطفال المفقودين والمستغَلّين جنسياً، لا تملك كثيراً من الأمل كي تمنحه للأطفال هناك، ويرجع ذلك بسبب جزئي إلى أن أغلبهم لديه أحد الوالدين يعيش معه في مخيم اللاجئين.
وكانت البلدان الأوروبية قد أعلنت عن رفضها التام لرجوع المتطرفين البالغين إلى بلدانهم، مع استثناءات قليلة للغاية. كما أعربت السلطات الكردية، المعنية بالإشراف على مخيمات اللاجئين الكبرى في سوريا، عن موقفها بكل وضوح بأنها لا ترغب في تقطيع أوصال العائلات وفصل الأطفال عن ذويهم، كما أنها لا ترغب كذلك في ترك الأطفال بلا جنسية محددة.
تحمل هذه القضية كثيراً من الشحن والزخم السياسي في جميع أنحاء أوروبا؛ إذ يُنظر إلى الناجين من أتباع «داعش»، حتى الأطفال منهم، من زاوية التهديدات المستقبلية المحتملة على أمن البلاد والعباد هناك، بصرف النظر تماماً عن برامج الإصلاح أو التأهيل التي مروا بها أو خضعوا إليها. وأعلن ثيو فرانكين، مساعد وزير الخارجية البلجيكي الأسبق لشؤون اللجوء والهجرة، وهو من سياسيي الحزب الفلمندي المحافظ، عن تنديده بإجراءات الإرجاع إلى الوطن المتخَذة أخيراً في بلاده، محذراً من أنها قد تكون بادرة لإعادة جميع أطفال «داعش» إلى بلجيكا، وكتب مغرداً: «كلا، كلا، كلا، لا يمكنهم العودة، لم يعد آباؤهم من مواطني البلاد».
وعندما خضعت أجزاء من أراضي سوريا والعراق إلى سيطرة «داعش»، غادر ما لا يقل عن 41 ألفاً من المتطرفين من مختلف أصقاع العالم بغية الانضمام إلى صفوف التنظيم الإرهابي وخلافته الموهومة، وكان ثلثهم قادماً من بلدان أوروبية، بما في ذلك إقليم القوقاز. واصطحب بعضهم أطفالهم رفقتهم، وبعضهم أنجب أطفاله حال وجوده في منطقة الشرق الأوسط. وتعرض الآلاف منهم للقتل، وتمكن آلاف آخرون من الفرار من القتال المستعر، وحاول كثيرون منهم تلمس سبيل الرجوع إلى بلادهم رغم مخاطر الملاحقات القضائية باتهامات التطرف والإرهاب التي تنتظرهم هناك.
ومع فقدان «داعش» لآخر معاقله ومواقعه في وقت مبكر من العام الحالي، احتشد الآلاف من الناجين من أتباع التنظيم المنهزم داخل مخيمات اللاجئين التي أُنشئَت لتستوعب أعداداً أقل بكثير مما تؤويه الآن. ولقي ما لا يقل عن 29 طفلاً حتفهم في رحلة الموت الرهيبة إلى مخيم الهول السوري أو وافتهم منيتهم بعد فترة وجيزة من وصولهم إلى المخيم.
ومن العلل الشائعة هناك نجد أعمال العنف، والأمراض المتفشية، وحالة اليأس القاتم الجاثمة على نفوس الجميع، فضلاً عن ندرة واضحة في إمدادات الغذاء والدواء اللذين لا يكادان يكفيان سكان المخيم وعائلاتهم. وقال غيريت لوتس، الطبيب النفسي الذي يقود الفريق الطبي البلجيكي في مخيم الهول، إن النساء ما زلن مؤمنات بأفكار وآيديولوجيات «داعش» الراديكالية ويرجمن بالحجارة كلّ من تخلى عن هذه الأفكار وتراجع عن الاعتقاد في صحتها.
ويضم مخيم الهول السوري نحو 3 آلاف امرأة، رفقة 7 آلاف طفل من بلدان أخرى غير سوريا والعراق، كلهم قيد الاحتجاز بين أسوار المخيم، وفقاً للسلطات الكردية وممثلي منظمة «هيومان رايتس ووتش». ويرغب كثيرون منهم في العودة إلى أوطانهم، ويُعتقد أن السواد الأعظم منهم يرجع إلى أصول روسية وفرنسية، وهناك جانب لا بأس من أصول ألمانية، وهولندية، وبلجيكية، من بين جنسيات أوروبية أخرى.
وبعض النساء ممن انضممن طواعية إلى «داعش» تخلين مختارات عن أفكار التنظيم بعد شهود انهياره وهزيمته، في حين آمنت نساء أخريات بدعاوى التنظيم الواهية حتى إنهنّ شاركن بأنفسهن في بعض أعمال العنف والفظائع المرتكبة هناك.
وتعرض الأطفال لحملات مكثفة من تلقين أفكار التطرف والإرهاب مع إجبارهم على المشاركة في بعض أعمال التنظيم الإجرامية. ومن الصعوبة تحديد المذنب والمدان بارتكاب تلك الجرائم، ومن لا يزال متمسكاً بالأفكار المتطرفة، ومن قد تتغير مواقفهم بعد المشورة والنصح والإرشاد.
وهناك بلدان قليلة للغاية، مثل كازاخستان وكوسوفو، قد سمحت باستعادة كثير من مواطنيها من أراضي «داعش»، بمن في ذلك البالغون منهم. واستقبلت تركيا وروسيا، وبلدان أخرى، أعداداً كبيرة من الأطفال في الآونة الأخيرة، أغلبهم من الأيتام، برغم بقاء المزيد منهم قيد الاحتجاز في مخيمات اللاجئين.
لكن أغلب البلدان الأوروبية قد اعتمدت موقفاً متصلباً إزاء ذلك. وذهبت المملكة المتحدة إلى حد إلغاء جنسية المواطنين الذين يرغبون في العودة إلى بلادهم. وكثير من البلدان الأوروبية الأخرى، في أعقاب قرارات الرفض المبدئية، قد أعلنت أنها ربما تستقبل بعض الأطفال من رعاياها، غير أن الإجراءات تستغرق أوقاتاً طويلة.
- خدمة «نيويورك تايمز»