عصابات تهريب البشر تنشط بين السودان ومصر رغم «تضييق الخناق»

«الشرق الأوسط» ترصد حركة المهاجرين ودوافعهم لتحدي المخاطر الأمنية... وتكشف دروب التهريب بين بورسودان وأسوان

دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
TT

عصابات تهريب البشر تنشط بين السودان ومصر رغم «تضييق الخناق»

دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان

مع بزوغ القمر في سماء الصحراء المظلمة، كانت السيدة السورية غادة محمد، ومن معها من المهاجرين غير النظاميين، يتحسسون ما تبقى معهم من طعام وشراب بعد نهار أحرقت فيه أشعة الشمس وجوههم وأنهكت أجسادهم التي حُشرت داخل صندوق سيارة حديدية كانت تشق الصحراء والدروب الوعرة، لساعات طويلة خلال رحلة تهريبهم من السودان إلى مصر. حاولت غادة استغلال اختفاء الشمس للتعافي من آثارها، لكن شح المياه ونفاد الطعام وصراخ الأطفال الرضع، وتهديدات المهربين لم تسمح لها بذلك، قبل أن تستكمل رحلتها في الصباح عبر سيارة كانت تسير ضمن قافلة من 3 سيارات، لكنها تعطلت بعد ساعتين فقط. وأمر المهربون المهاجرين بالنزول وتوزيع أنفسهم على السيارتين الأخريين، ما تسبب في تشابك عظام المهاجرين أثناء ارتطام عجلات السيارتين المسرعتين بالصخور والحفر. رغم محاولات السلطات الأمنية المصرية ضبط الحدود الجنوبية الشاسعة والوعرة، فإن ثمة عصابات تهريب تتخذ دروباً جبلية وصحراوية لتهريب المهاجرين غير النظاميين بين السودان ومصر، فمنهم من يعبر بعد معاناة طويلة وشاقة، ومنهم من ينتظر، ومنهم من يموت في وسط صحراء شمسها حارقة، بعد تخلي المهربين عنهم قبل الوصول إلى الحدود المصرية.
«الشرق الأوسط» رصدت إصرار المهاجرين على الهروب إلى مصر، وبحثت دوافعهم لتحدي المخاطر الأمنية، واللوجيستية على الحدود الجنوبية المصرية، كما كشفت دروب التهريب التي تستخدم بشكل مستمر.
تعد دولة السودان التي تقع جنوب مصر الوجهة المفضلة للاجئين للسوريين وأبناء الدول الأفريقية الفقيرة، إذ يمكن الدخول إليها من دون تأشيرة، عكس معظم الدول الأخرى التي فرضت إجراءات احترازية ضد دخول السوريين إلى أراضيها ومن بينها مصر، كما يمكن الوصول إليها بسهولة من دول وسط أفريقيا، لكنها تبقى محطة عابرة طويلة إلى حد ما قبل الانتقال إلى وجهات أخرى شمالاً.
وبينما يحظى العابرون في السودان بعدم مواجهة مضايقات أمنية، ويستطيعون العيش بالمدن الكبرى بشكل مناسب نظراً لتدهور قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية حالياً (الدولار الأميركي يعادل نحو 60 جنيهاً سودانياً في السوق السوداء)، فإن قطاعاً كبيراً من المهاجرين لا يفضلون العيش بالسودان بسبب التقلبات السياسية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في شهر أبريل (نيسان) الماضي، لذلك يفضلون الهروب إلى مصر عبر التهريب والهجرة غير النظامية؛ نظراً لرفض مصر منح معظم المهاجرين تأشيرات دخول رسمية إلى أراضيها.
محمد عبد الرحمن محمد، 40 سنة، سوري الجنسية، سبق له العيش في مصر لمدة تزيد على 7 سنوات، وغادرها مختارا لظروف عائلية بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وتوجه إلى صنعاء باليمن، للعيش مع والده ووالدته، لكن بعد وفاة أبيه في اليمن، غادر إلى تركيا بصحبة والدته وظل بإسطنبول لنحو عامين، حتى غادرت والدته إلى الولايات المتحدة الأميركية لترافق أبناءها الذين سبقوها إلى هناك قبل سنوات طويلة، لكن محمد حاول العودة إلى مصر أكثر من مرة، عبر التقدم للحصول على تأشيرة دخول مرة أخرى لكن جميع محاولاته باءت بالفشل. ثم سافر إلى ماليزيا وقضى عامين هناك، وكرر محاولته للحصول على التأشيرة المصرية دون جدوى، وانتهى به المقام مؤخراً بالعيش في السودان منتظراً الحصول على الجنسية السودانية ليتمكن من دخول مصر والبقاء بها بشكل نهائي، بعد رفض طلب لجوئه إلى أميركا للم شمله بعائلته هناك.
ويُسمح للسودانيين بالدخول إلى مصر من دون تأشيرة مسبقة والعكس بموجب اتفاق بين البلدين، ويزور مصر سنوياً مليونا سوداني وخاصة في شهور الصيف، للعلاج وقضاء فترات الإجازة وزيارة الأقارب والتعليم، وفق تقارير سودانية.
وقال عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط»: «عُرض علي الدخول إلى مصر عبر طرق الهجرة غير الشرعية، شهر يونيو (حزيران) 2019 عبر الصحراء مثلما فعل كثير من السوريين والأفارقة، لكني رفضت هذا العرض رفضاً تاماً حتى لا أتعرض للموت بقلب الصحراء أو السجن من قبل السلطات المصرية، فضلاً عن أن أنني أريد البقاء في مصر بشكل دائم».
وأوضح أن «المهربين في السودان يأخذون ما بين 300 و500 دولار على الفرد الواحد، ومعظم المهربين يتميزون بالنصب والاحتيال، كما يطلبون من المهاجرين السير على أقدامهم عشرات الكيلومترات وسط مناطق جبلية وعرة، ودرجات حرارة حارقة»، ولفت إلى أن «السيارات تسير بسرعة كبيرة جداً، ببعض الدروب وإذا سقط أحد من المهاجرين لا تتوقف السيارة من أجله وتتركه في الصحراء، وإذا استطاع المهاجر العبور إلى الجانب المصري وألقي القبض عليه، فمن المؤكد أنه سيواجه عقوبات قانونية، مع أن الحكومة المصرية تتغاضى أحياناً عن المهاجرين غير الشرعيين لأسباب إنسانية».
وبحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن عدد الأشخاص الذين تعنى بهم المفوضية في عام 2019 بمصر يقدر بنحو 280 ألف شخص، وهم عبارة عن لاجئين وطالبي لجوء من العراق وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان، والسودان واليمن. ويعيش اللاجئون وطالبو اللجوء في مناطق حضرية إلى جانب المجتمعات المحلية، وفق التقرير. وأفاد التقرير بأن المهاجرين الذين قدموا إلى مصر خلال تلك الفترة جاءوا من جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا وتشاد والصومال والسودان، فضلاً عن فلسطين وسوريا، لتصبح مصر واحدة من المحاور الرئيسية لعبور المهاجرين إلى أوروبا.
وتقول المنظمة إن «بيئة حماية اللاجئين بمصر مواتية، حيث يجري مكتب المفوضية حواراً مع الحكومة المصرية حول إدارة اللجوء. توفر الحكومة الرعاية الصحية الأولية والثانوية للاجئين وطالبي اللجوء من جميع الجنسيات على قدم المساواة مع المواطنين المصريين». بينما قالت «المنظمة الدولية للهجرة ((IOM»، في آخر تقاريرها في عام 2018 إن أعداد المهاجرين الوافدين إلى مصر زادت من 295 ألفاً إلى 491 ألفاً، بين عامي 2010 و2015، في الوقت الذي تقول فيه مصر على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي إنها تستضيف 5 ملايين لاجئ يعيشون بين مواطنيها بشكل منظم.
وتقول الدكتورة أميرة أحمد، الأستاذة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، والمتخصصة في شؤون الهجرة واللجوء، لـ«الشرق الأوسط»: «يسلك بعض المهاجرين غير النظاميين الصحراء من السودان إلى مصر بهدف العبور إلى أوروبا، لكن التقديرات تشير إلى انخفاض أو شبه انعدام عمليات الهجرة من مصر عبر البحر المتوسط». وأوضحت أن «غالبية المهاجرين من السودان إلى مصر، يأتون للقاهرة للتسجيل في مفوضية اللاجئين».
وروت أحمد قصة رجل مصري كان يقيم في النمسا بينما كانت تعيش أسرته في مصر، وبعد 4 سنوات من الفراق حاول الرجل دخول مصر لكن لم تمنحه القاهرة تأشيرة دخول، فاضطر إلى دخولها عن طريق التهريب عبر السودان، للقاء أسرته، ثم اضطر لاحقاً إلى العودة إلى أوروبا عن طريق التهريب إلى السودان، في رحلتين شاقتين جداً. وهذا نموذج مكرر ومأساوي.
وقد كان لإغلاق طريق البلقان، وتبنّي إجراءات رقابية مشددة في بحر إيجه الواقع بين تركيا واليونان، أثره في زيادة التدفق عبر مصر وليبيا، وخاصة أن تركيا وقعت اتفاقية مع أوروبا في نيسان (أبريل) 2015 لاستعادة اللاجئين المنطلقين عبرها.
وتتبع السلطات السودانية إجراءات من شأنها تقييد حركة اللاجئين وطالبي اللجوء الأفارقة، وفق تشريعات محلية، مستمدة من اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1969. واستضافت السودان بحسب تقرير الأمم المتحدة لعام 2017 نحو 800 ألف طالب لجوء ولاجئ. وتعد مخيمات «خور رول»، و«شجراب» من أشهر مخيمات اللاجئين في السودان، لذلك فإنها تعد معبراً للمهاجرين وليس مقصداً.
ومثل غيرها من آلاف السوريين، فرت السيدة غادة محمد، 27 سنة، من أجواء الحرب في سوريا، واتجهت إلى السودان منذ 9 أشهر بصحبة زوجها، أملاً في العبور من خلالها إلى دول أوروبا. تقول غادة لـ«الشرق الأوسط»: «لم نذهب إلى السودان للإقامة بها بشكل كامل ونهائي، بل كنا نخطط للهروب إلى أوروبا عبر دول البحر المتوسط الجنوبية، في البداية فكرنا في العبور إلى النيجر، قبل التسلسل إلى الأراضي الجزائرية عبر اختراق الصحراء الكبرى، ومنها إلى أوروبا، لكننا تخوفنا من صعوبات الصحراء ثم عدلنا الفكرة لنسافر من موريتانيا إلى الجزائر عن طريق الصحراء أيضاً، لكن في النهاية اتفقنا على الهروب إلى مصر عبر الصحراء بعد الاتفاق مع مجموعة من المهربين».
تضيف غادة: «اتفقنا على دفع مبلغ 250 دولاراً لكل شخص، قبل السفر من الخرطوم إلى بورسودان (شمالي شرق السودان) عبر خطوط الملاحة الجوية الداخلية، وظللنا بها عدة أيام حتى جاءنا المهربون ليلاً وطلبوا منا الاستعداد للرحلة (الخطرة)، وأحضروا 3 سيارات دفع رباعي ربع نقل، وأجلسوا في كل واحدة منها نحو 15 شخصاً، بينهم أطفال رُضع وسيدات، وكان المهربون يتحدثون بلهجة غير عربية، غير مفهومة لنا، وانطلقوا بسرعة فائقة عبر الدروب الجبلية الوعرة في اتجاه الحدود المصرية شمالاً».
خطوط تهريب المهاجرين غير النظاميين عبر الصحراء ليست واضحة أو محددة بسبب اتساع نطاق الصحراء بين السودان ومصر، إذ لا توجد ملامح أو علامات مميزة تسهل عملية السير بسرعة نحو مدينة أسوان المصرية، ما يؤدي إلى ضياع وتيه بعض المهربين والمهاجرين في الصحراء سوياً.
وتعد الطبيعة الجغرافية الشاسعة بين مدينتي بورسودان وأسوان قاسية جداً، إذ يفصل بينهما جبال مرتفعة وطرق وعرة لا يستطيع اختراقها سوى أصحاب الخبرة من الجانبين.
والطرق الجبلية الوعرة بين مصر والسودان لم تكن الطريق الوحيد لتسلل المهاجرين غير النظاميين من الدول الأفريقية الفقيرة لمصر، فبعد اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 استغل بعض الناس حالة الانفلات الأمني في مصر، وتسللوا إلى البلاد من الجهة الجنوبية، عبر نهر النيل وبحيرة ناصر، وتقدموا شمالاً على غرار جريان مياه أطول أنهار العالم. وبعدما كان هذا الطريق هو المسلك المفضل لدى المتسللين لسهولته مقارنة بتيه الصحراء وخطورتها، تم إحكام السيطرة عليه بشكل شبه تام، بعد عام 2013.
ويؤكد كمال الضبع، رئيس جمعية صيادي بحيرة ناصر، لـ«الشرق الأوسط» أن «سلطات حرس الحدود المصرية استطاعت تأمين الحدود الجنوبية وخصوصاً مجرى بحيرة ناصر والمساحات المجاورة لها بشكل تام، عقب موجة من الانفلات الأمني وتسلل مجموعة من اللاجئين الأفارقة إلى البلاد». مشيراً إلى أن «الصيادين المصريين يتعاونون مع القوات المصرية ويقومون بإبلاغ قوات حرس الحدود عن أي غرباء يوجدون بالمنطقة».
كما يقول العميد خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط» إن «الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة بالسودان في الفترة الحالية، تفرض على الأجهزة الأمنية المصرية بالحدود الجنوبية رفع درجة الاستعداد واليقظة». لكنه لفت إلى «عدم إمكانية تسلل كثير من السودانيين عبر الحدود لأنهم يستطيعون دخول مصر دون تأشيرة مسبقة». وأضاف: «مما لا شك فيه أن القوات المسلحة المصرية قامت بإحكام السيطرة على المنطقة الجنوبية، عبر وضع نقاط أمنية متعددة، ما ساهم بشكل لافت في تقليل وإضعاف عمليات الهجرة غير النظامية عبر الطرق الجبلية جنوب مصر».
وتوضح السيدة السورية غادة محمد: «بعد خروجنا من بورسودان بنحو 8 ساعات ضل المهربون الطريق، وظللنا ضائعين في متاهة الصحراء ساعات طويلة، وكانوا خلال تلك الساعات يهددونا بالأسلحة التي كانت بحوزتهم حتى تحركوا مجدداً في اتجاه مصر».
وتتابع أنه بعد مرور عدة ساعات تعطلت سيارتان في منتصف الطريق، من شدة الحرارة وتم نقل جميع الركاب في سيارة واحدة: «كنا أشبه بالغنائم داخل السيارة، وكان بيننا أطفال صغار أعمارهم تقترب من شهرين وثلاثة تعرضوا لخطر الموت من شدة الحرارة ونقص المياه وسرعة سير السيارة».
وتشير غادة إلى أن رحلتهم استمرت من السودان وحتى الحدود المصرية ما يقرب من 30 ساعة ذاقوا خلالها ألواناً من الإرهاق النفسي والعصبي والجسدي، وقالت: «المهربون السودانيون أنزلونا من السيارة عند نقطة محددة متاخمة للحدود المصرية الجنوبية، وسلمونا إلى مجموعة مهربين مصرية ودفعوا لهم المقابل المادي للتهريب، وسرنا في الصحراء لمدة ساعتين حتى وصلنا إلى مشارف مدينة أسوان وقبل الوصول إلى هناك داهمتنا قوات حرس الحدود، وحاولت الإمساك بنا لكن سائق سيارتنا فرّ بسرعة عبر الالتفاف حول الطرق الرئيسية قبل وصول سيارتنا إلى مدينة أسوان، لكن السيارة الثانية أمسكت بها القوات وألقت القبض على من بها».
ويلجأ بعض السوريين النازحين لمصر، للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ويتم منحهم بطاقة إقامة لمدة 6 أشهر، ويقيدون كلاجئين، وتخاطب وزارة الخارجية المصرية وزارة الداخلية لتقنين أوضاعهم، لحين حصولهم على الإقامة أو إعادة التوطين في دولة أخرى، وفور خروجهم يتم إلغاء إقامتهم تماماً. تقول غادة: «بعد وصولنا إلى أسوان ونحن منهكون تماماً بتنا ليلتنا وتعرضنا للاحتيال من قبل أشخاص علموا أننا سوريون ومهاجرون بطريقة غير نظامية، ولم يرحموا غربتنا وشقاءنا»، وأكدت على أن بقية أفراد مجموعتها واصلوا السير نحو القاهرة.
وفي 11 مايو (أيار) 2019 ألقت الأجهزة الأمنية بمديرية أمن أسوان، القبض على تشكيل تخصص في الهجرة غير الشرعية من السودان إلى داخل مصر، بعد قيام بعض المهربين بإطلاق النيران على عدد من الأفارقة بالقرب من قرية بلانة التابعة لمركز نصر النوبة، بعد خلافات بينهم، مما أسفر عن مصرع أحد الأفارقة ويدعى «صموئيل. ب»، 30 سنة، وتم نقله لمشرحة مركز دراو.
وقالت مديرية أمن أسوان في بيان صحافي لها في 11 مايو 2019 إن «مباحث كوم أمبو تمكنت من القبض على 9 متهمين، كونوا تشكيلاً لتهريب الأفارقة من السودان إلى مصر عن طريق الدروب والمدقات الجبلية مقابل مبالغ مالية كبيرة من بينهم 3 متهمين أطلقوا النيران على السيارة المحملة بالأفارقة وقتل أحدهم، وتم تحرير المحضر رقم 894 لسنة 2019 إداري نصر النوبة».



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».