شعراء... ودكاترة

مصطلح «الوسط الثقافي» غير صحيح فالمثقفون عوالم مختلفة

شعراء... ودكاترة
TT

شعراء... ودكاترة

شعراء... ودكاترة

كنتُ أظنُّ أنَّ الأكاديمية والتعليم الجامعي والدراسات العليا، ودراسة الدكتوراه على وجه التحديد ستعيق المشروع الشعري لأي شاعر، مهما كان، وكان لدي تصورٌ مؤمنٌ به سابقاً من أنَّ الجامعة ستقف بالضد من أي شاعر موهوب، بل ستذوي موهبة الشاعر وتتساقط على أسوارها، وإذا غاص ذلك الشاعر في وحل طلب المعرفة الجامعية كأنْ يصبحُ دكتوراً، فإنَّه ــ تحصيل حاصل ــ سيتحول إلى نظَّام للشعر، وستجفُّ روحُه المجنونة والمحلقة.
كنتُ أنطلقُ بهذه الرؤية من نماذج شعرية آمنتُ بها مدة من الزمن، فأصبحتْ نموذجاً للحديث عن هذه الفكرة، وأول هذه النماذج ــ بلا شك ــ هو «الجواهري الكبير» فقد كنَّا نحن الواقفين بالضد من إكمال التعليم فإنَّنا نضربُ مثلاً بالجواهري، فهو لم يتعلم في المدارس الحكومية، ولم يحصل على شهادة جامعية، ولم يكن دكتوراً، وها هو مالئ الدنيا، وشاغل الناس، وأمامنا نماذجُ أخرى عديدة اكتفت بالتحصيل الأولي للتعليم، دون أنْ تغوص مع الأكاديمية عميقاً، مثل «بدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش» وآخرين كثر، ولا أعرف بالضبط السبب الذي يقف وراء هذا الكره للجامعة، بوصفها آكلة للمواهب الشعرية والإبداعية، وأظن أنَّ هناك بعض الدكاترة الشعراء الذين لم يكونوا بالمستوى المطلوب شعرياً، فقد كانوا تقليديين ونمطيين جداً، ويقدمون أنفسهم على أنَّهم دكاترة وشعراء في الوقت نفسه، ربما كان هؤلاء الشعراء سبباً في تشويه سمعة الجامعة شعرياً إذا صحت هذه التسمية، ولكن بالنتيجة فإنَّ هؤلاء الشعراء في الأساس ضعيفو المواهب، سواءٌ كانوا في الجامعة أو كانوا صعاليك، ذلك أنَّ الجامعة لا تستطيع أنْ تروض الأرواح المتمردة، بل على العكس تماماً فإنَّ الشعراء الحقيقيين المتمردين هم الذين يكسرون حدَّة الجامعة وصرامتها، بالسحر الذي يبثَّونه على أعتابها، وبالروح التي تتفشَّى في ممراتها ومدارجها.
وأذكر في أواسط التسعينيات كان هناك عددٌ من الشعراء الذين كنَّا نصفهم بالشعراء الصعاليك يتندرون على الشعراء النظيفين، ذوي الملابس الجيدة، الذين يهتمون بشكلهم الخارجي، ويهتمَّون بتفاصيلهم الدقيقة، فهذه العيِّنة كانت مصدر تندر هؤلاء الشعراء، وكنَّا نتصور أنَّ الشعراء الصعاليك، أو الذين يقضون أيامهم في المقاهي فقط بأنَّ هؤلاء فقط هم واجهة الشعر الحقيقي، وأنّ الشعر ينطلق منهم ويعود إليهم، وأي شخص يغسل جيداً ويلبس ملابس نظيفة، فليس بشاعرٍ مهم، أمَّا الذي يحلق لحيته، ويضع عطراً فهذا من المستحيل أنْ يكون شاعراً، بل هو عارٌ على حركة الحداثة وجنونها، وهذا الوهم الذي نتصوره آتٍ من الشعراء الشباب الذين يسبقوننا بجيل تقريباً في ذلك الوقت، والذين ليس لهم حديث سوى ما يتناقلونه من ذكريات عن عبد الأمير الحصيري وجان دمو وكزار حنتوش وبعض الشعراء الصعاليك ــ وربَّما سأقف في مقالة عند هؤلاء الشعراء الصعاليك المعاصرين ــ حيث امتلأتْ ذاكرتُنا بأحاديث هؤلاء الشعراء، وهم يحوَّلون صعاليكهم إلى ما يقارب الأسطورة.
أعتقد أنَّ الفقر والعوز الذي مرَّتْ به الأوساط الثقافية أنتج نوعاً من ثقافة الوهم، التي سيطرت على عقول الشباب في تلك الفترة، وإلا ما معنى أنْ تكون ملابسُه رثة؟ لكي يكون شاعراً مهمَّاً، وما معنى أنْ يشتم الآخرين لكي تخافه الأوساط الثقافية؟.
وحتى نحن حينما كنَّا طلاباً في مرحلة البكالوريوس، وكأنَّنا نقترف جريمة، لأنَّنا ندرس في الكلية، وربما ستتشوه سمعتُنا حين نلبس قميصاً جديداً، وإنَّ الشعرية التي نطمح لها ستكسرها ربطة عنق ــ ربَّما ــ أو حذاء نظيف، أو عطر حتى لو كان غير أصلي، ولكنْ عرفتُ ــ فيما ــ بعد أنَّ الأوساط الثقافية تعيش في معزل عن الدنيا كلها، وإنَّ حتى مصطلح «الوسط الثقافي» مصطلح غير صحيح، إذ إنَّ المثقفين عوالمُ مختلفة، وأوساط متنوعة، وكلٌ له وجهة نظره، وطريقة عيشه في الحياة وفي الكتابة، وإنَّ الذين كانوا يسحروننا بتصعلكهم لا يمثلون حركة مهمة في الثقافة العراقية، ولكنَّ الفقر والعزلة هما سبب رئيسي في إنتاج تضخم الذات، وتصغير العالم كله.
إنَّ العزلة ــ كما أتصور ــ سبب رئيسٌ لأمراض التضخم والتعالي والنفور من الآخرين، فكلَّما حوصر الإنسان شعر أنَّه مهمٌ وعظيم، وهذه أوهام أنتجتها الثقافة العراقية في مرحلة من المراحل، فبعد أنْ درسنا وتعلَّمنا وأكملنا مشوارنا التعليمي، وجدنا أنَّ الأكاديمية لن تعيق المشاريع الحقيقية، ولن تقف بوجه الشعراء الحقيقيين، بل ستسهم الجامعة في أنْ تُكسبنا المعارف والمهارات التي كنَّا نفقدها ونفتقدها، و«أدونيس» أنموذج مهم في أنَّه أصبح دكتوراً في الجامعة، وإنَّ الجامعة أسهمت في تزايد جنونه وتمرده، وإنَّ «محمد بنيس» من المغرب كذلك أصبح دكتوراً واستاذاً في الجامعة، ولكنها لم تعقه عن البحث والشعر، وإنَّ «محمد علي شمس الدين» أيضاً نال الدكتوراه وبقي على حصانه الشعري من جبل إلى جبل، و«علي جعفر العلاق» أيضاً أحد الفرسان المضيئين أكاديمياً وشعرياً ونقدياً، وهناك العشرات من الأسماء المهمة في هذا المنوال ما بين الشعري والأكاديمي، أما في جيلنا في العراق فأزعم أنَّ عدداً من أبناء الجيل التسعيني، واصل مشروعه الأكاديمي دون أنْ يفقد ارتباطه الحميم بالشعر، وبجذوته المتقدة، فأسماء مثل «فائز الشرع ومشتاق عباس معن وجاسم بديوي ونوفل أبو رغيف وسراج محمد وحازم هاشم وجاسم محمد العجة وحمد الدوخي وأحمد الشيخ علي ورحمن غركان وناهضة ستار وحسين القاصد ومهدي الغانمي وصفاء ذياب فضلاً عن أسماء سردية مهمة بقيت تمسك الخيطين الأكاديمي والسردي كلؤي حمزة عباس» وآخرين بالعشرات، كلُّ هؤلاء وغيرهم يقلبون المعادلة التي بدأنا بها حديثنا من أنَّ الجامعة ستقف بالضد من الشاعر، بل شكّل هؤلاء إضافة للجامعة أسهمت بتغيير مزاجها الراكد ــ بعض الشيء ــ فكانوا قصيدتها التي لم يستطع أنْ يكتبها التقليديون.



«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».