وداع حزين لـ«الحاوي» فاروق الفيشاوي

واجه السرطان ببسالة... ومواقع التواصل تتحول إلى سرادق عزاء

فاروق الفيشاوي
فاروق الفيشاوي
TT

وداع حزين لـ«الحاوي» فاروق الفيشاوي

فاروق الفيشاوي
فاروق الفيشاوي

خيمت حالة من الحزن على الأوساط الفنية والاجتماعية مع إعلان رحيل الفنان المصري فاروق الفيشاوي، فجر أمس، بعد صراع مع مرض السرطان، عن عمر ناهز 67 سنة.
ونعته وزيرة الثقافة المصرية، إيناس عبد الدايم، قائلة إنّ «فن الدراما فقد أحد أبطاله الذين نجحوا في تجسيد شخصيات متنوعة ستظل علامات خالدة في تاريخ الدراما والسينما والمسرح، ووصفته بـ(الحاوي) الذي سحر قلوب الجماهير بتنوع وإتقان أعماله».
ووسط مشاركة لافتة من الفنانين والإعلاميين والسياسيين، شيعت جنازة الراحل من مسجد مصطفى محمود بضاحية المهندسين في القاهرة، ليواري جثمانه الثرى في مسقط رأسه بقرية سرس الليان، بمحافظة المنوفية، (شمال القاهرة) تنفيذاً لوصيته، وسط حالة من الحزن، في الأوسط الفنية والاجتماعية، وأقيم سرادق لتلقي العزاء أمام منزل شقيقه في القرية، بحضور زوجته الأولى الفنانة سمية الألفي، ونجله الفنان أحمد الفيشاوي.
وحضر الجنازة عدد من النجوم والشخصيات العامة أبرزهم، الدكتور أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية، ومحمد هنيدي، وآسر ياسين، ومحمد ممدوح، وعمرو يوسف، وشهيرة، وهالة صدقي، بالإضافة إلى المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، والإعلاميين محمود سعد، وعمرو الليثي.
وكان الفيشاوي، أعلن عن إصابته بمرض السرطان، خلال حفل تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وقال: «عندما فاجأني طبيبي المعالج بخبر إصابتي بالسرطان لم أنزعج، وأكّدت له أنّني سأواجهه بكل شدة، وكأنه صداع عادي سيأخذ وقته ويمر».
وتجاهل الفيشاوي مرضه، وقبل مشاركة الفنان يحيى الفخراني بطولة مسرحية «الملك لير» بعد غياب عن خشبة المسرح مدة 18 سنة، منذ تقديم مسرحية «الناس اللي في التالت» عام 2001 للكاتب أسامة أنور عكاشة.
استمر الفيشاوي في تقديم دوره ببراعة منذ إطلاق العرض أبريل (نيسان) الماضي؛ لكنه تعرض لانتكاسة مطلع الشهر الحالي، حرمته من المشاركة في المسرحية، التي تعرض في جدة بالسعودية، ليحل بدلاً منه الفنان أحمد فؤاد سليم.
وقال المخرج مجدي الهواري الشريك المؤسس لـ«كايرو شو» المنتجة للمسرحية، في تصريحات صحافية أمس، إنه «استطلع رأي طبيب متخصص قبل أن يسند دورا في المسرحية للفيشاوي، خوفاً على حالته الصحية، ولكن الطبيب أكد حينها أن العمل خصوصا المسرح هو العلاج الحقيقي والحافز النفسي الأكبر في معركته مع المرض اللعين»، كاشفا في الوقت نفسه أن الفنان الراحل قدم له نصا مسرحيا يرغب في تقديمه على المسرح قبل وفاته بأيام عن شخصية «علي الزيبق» التي قدمها من قبل في مسلسل تلفزيوني عام 1985. ورأى الناقد السينمائي طارق الشناوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن أداء الفيشاوي في «الملك لير» كان عبقرياً لدرجة أن من يشاهده لم يكن يشعر بأنه مصاب بالمرض. وقال: «الراحل لم يستسلم للمرض، ورفض أن يتوقف عن العطاء حتى اللحظات الأخيرة، وقرر أن يودع جمهوره على خشبة المسرح». ولفت إلى أنّ «من شاهد العرض، فسيجد أن الجمهور كان يصفق للفيشاوي، ليس لأنّه يتحدى المرض بالعمل، ولكن لأنه كان يقدم دوره بإبداع شديد وعبقرية، واستطاع أن يخطف الأنظار».
وعلى مستوى السينما قال الشناوي إنّ «الراحل بالإضافة إلى الفنانين محمود عبد العزيز، وأحمد زكي، كانوا يمثلون جيلا جديدا في السينما ينافس الجيل السابق لهم، الذي يضم محمود ياسين، والراحل نور الشريف، وحسين فهمي». ولفت الشناوي إلى أنّ شركات الإنتاج كانت تتنافس على الفنانين الثلاثة، فالعمل الذي يعتذر عنه محمود عبد العزيز يقدمه الفيشاوي، أو أحمد زكي، والعكس، وقال: «كان هناك رهان عليهم، حتى إن أسماءهم وصورهم كانت متساوية وبالحجم نفسه على أفيش (درب الهوى) عام 83».
وعلى الرّغم من أنّ الفيشاوي كان أحيانا يختار ما لا يناسب حجم موهبته ونجوميته، فإنّ التاريخ سيتوقف عند كثير من اختياراته الصحيحة والمميزة، منها «كشف المستور»، و«ديك البرابر»، و«مشوار عمر» وغيرها من الأفلام الكثيرة التي وفق في تقديمها، بالإضافة إلى شخصية «بكر» في فيلم «ألوان السما السبعة»، الذي أدى فيه دور راقص التنورة مرهف الحس ليلتقي حنان التي جسدت دورها ليلى علوي، في إطار أحداث تتسم بالرومانسية، ولم تخل من مسحة تصوف.
خبر وفاة الفيشاوي، حوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى سرادق عزاء اتسع جميع المحبين، ليتصدر اسمه بعد ساعات من وفاته «ترند» «تويتر».
الفنانة نادية الجندي، قالت عبر حسابها: «وداعاً يا صديق العمر، رفيق مشواري الفني بداية من فيلم (الباطنية) أول أعماله كبطل في السينما ومن بعدها انطلق، وهو أكثر فنان اشتغل معي، لنقدم 10 أفلام، وجميعها حققت نجاحات كبيرة وأعلى الإيرادات في تاريخ صناعة السينما المصرية، (الإرهاب)، و(شبكة الموت)، و(ملف سامية شعراوي)، و(جبروت امرأة)، و(امرأة هزت عرش مصر وغيرها)».
وقال الفنان صلاح عبد الله: «هقابلك في العزا يا روقة زي كل المرات الأخيرة، ولو ماشفتنيش هندهلك زي آخر مرة، وأقولك واحشني يا أخي ونفسي أحضنك وبرضو هتقولي مش هتجيب الشلة وتيجوا تقعدوا معايا شوية بقى، هنيجي يا فاروق هنيجي».
والفيشاوي ولد عام 1952 في محافظة المنوفية، وحصل على ليسانس آداب من جامعة عين شمس، ثمّ تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية، وسطعت نجوميته في عالم الفن مطلع الثمانينات بعد ظهوره المميز في فيلم «المشبوه» عام 1981، ومسلسل «ليلة القبض على فاطمة» عام 1982. ليقدم بعدها باقة من أهم الأعمال السينمائية مثل «الحب في طريق مسدود»، و«الباطنية»، و«أرجوك أعطني هـذا الدواء»، و«لا تسألني من أنا»، و«القرداتي»، و«الجراج»... وفي التلفزيون تألق في مسلسلات «علي الزيبق»، و«أبنائي الأعزاء شكرا»، و«زينات والثلاث بنات»، و«ألف ليلة وليلة»، و«دموع صاحبة الجلالة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)