تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

دعم المتطرفين في ليبيا وسط صمت المجتمع الدولي

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
TT

تركيا وقطر وعودة «الدواعش»

عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)
عناصر من ميليشيات «البنيان المرصوص» في سرت نوفمبر 2016 (غيتي)

هل باتت لعبة الإرهاب في ليبيا تجرى على المكشوف، لا سيما من قبل تركيا وقطر؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو بالفعل، فلماذا يقف المجتمع الدولي صامتاً تجاه ما يجرى هناك، من غير محاولة جدية لتغيير الأوضاع، وتصويب ما اختل منها، وإنهاء الأزمة الليبية مرة واحدة؟

الثابت أن كثيراً من الأوراق قد اختلطت في الفترة الأخيرة، لا سيما تلك التي يحاول فيها الجيش الليبي تطهير البلاد من الإرهاب والإرهابيين، وقد لاحظ كثيرون أن عملية شحن المزيد من المقاتلين من تنظيم «داعش»، الفارين من سوريا والعراق إلى المناطق الليبية الخاضعة لسيطرة الميليشيات، ماضية على قدم وساق، وباتت أجهزة الاستخبارات الدولية على بينة مما يحدث هناك، بالصوت والصورة، وبالوثائق والمعلومات.
ولم يعد سراً أن تركيا وقطر تقفان خلف ما يجرى في الداخل الليبي، فإردوغان الذي فشل مشروعه الإسلاموي في زمن «الربيع العربي المغشوش» ينظر إلى ليبيا الآن على أنها الأمل المتبقي له في إحياء أوهامه، وعنده أن نجاح المتطرفين الليبيين سوف يؤثر كل التأثير على تونس الجارة القريبة من الغرب، وربما يمكنه ذلك من مشاغبة مصر، الجار الشرقي الذي أفسد عليه خططه في الأعوام الماضية، بعد ثورة المصريين في 30 يوليو (تموز) 2013.
يوماً تلو الآخر، يتضح جلياً كيف أن أنقرة تقف وراء إمداد الميليشيات الليبية بالأسلحة والعتاد، لا سيما الثقيلة منها، في انتهاك واضح لقرار حظر التسليح المفروض على البلاد منذ عام 2011. وقد رصدت الأجهزة الاستخباراتية الأسبوعين الماضيين وصول أكثر من طائرة شحن أوكرانية تحديداً إلى العاصمة طرابلس، آتية من مطار أنقرة، محملة بالأسلحة الجديدة للميليشيات الموالية لحكومة السراج.
الطائرة من نوع «إليوشن آي إل - 76 تي دي» حطت في مطار معيتيقة الذي يخضع لسيطرة «قوة الردع الخاصة»، ذات المرجعية المتطرفة، التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق. وقبل تلك الرحلة بأيام قليلة، كان الغرب الليبي يشهد وصول عدد من الطائرات المحملة بالأسلحة والذخائر، آتية كذلك من تركيا، بهدف تمكين قوات السراج من مواجهة الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر.
لم يعد الأمر قاصراً على القوات البرية، فالسراج الذي خسر غالبية قطع السلاح الجوي (طائرتان من نوع «ميغ»، وطائرات من نوع «ميغ 23»، وطائرتان من نوع «ميراج إف - 1»، وطائرة من طراز «L 39») يعمل الآن جاهداً على استجلاب طائرات «درون» مسيرة من غير طيار من تركيا، في محاولة لإلحاق الضرر الكبير بقوات الجيش الوطني الليبي.
وفي هذا السياق، تفيد تقارير نشرتها بعض المواقع الاستخباراتية، مثل موقع «الاستخبارات الأفريقية»، إلى أن هناك صفقة تركية لتسليم حكومة الوفاق الليبية طائرات «درونز»، لتعويضها عن الطائرات التي خسرتها خلال معركة طرابلس، ويصل عددها إلى 8 طائرات من نوعية «تي - بي - 2» التي يمكنها مهاجمة وحدات الجيش الليبي، وإحداث خسائر بها، من غير أن يلحق بالميليشيات الليبية أضرار بشرية، مما يعنى أن تركيا تضرب بقرارات مجلس الأمن عرض الحائط، مرة وإلى الأبد، ولم يردع إردوغان أن الميليشيات الإرهابية العاملة في ليبيا قد استخدمت في الآونة الأخيرة هذه الأداة الجهنمية في قصف 4 سيارات مدنية، مما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، عقاباً لهم على تأييدهم الجيش الليبي.
هل يتوقف الدور التركي المخرب عند حدود الأسلحة والمعدات أم يمضى إلى جهة لعب العنصر البشري دوراً بعينه في تلك الأحداث؟
مع بداية يوليو الجاري، كشف مصدر عسكري ليبي عن أن القوات المسلحة الليبية قد حصلت على وثائق سفر خاصة بجنود في جهاز الاستخبارات التركية يساندون الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بطرابلس.
المصدر عينه أشار إلى أن الجيش الليبي رصد أسماء الـ19 ضابطاً تركياً الذين دفع بهم إردوغان لإدارة غرفة عمليات ميليشيات طرابلس، وإدارة الطائرات المسيرة.
من جهة أخرى، كشفت حادثة الصواريخ من نوع «جافلين»، التي تم العثور عليها في بعض مخازن السلاح في مدينة الغريان، عن أبعاد العلاقة الثلاثية التي تجمع «مايكل سولمان»، الشريك في شركة «ميركوري»، والسراج وقطر. فالشركة المشار إليها تقدم خدماتها للحكومة القطرية، و«سولمان» نفسه يعمل كبير مستشاري السيناتور الأميركي «روبرت مينندز»، المعروف بعلاقاته بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي.
وكان من الواضح أن ميليشيات ليبية، تدعمها قطر، هي من قامت بدس الصواريخ الفرنسية الثلاثة على مخازن سلاح الجيش الليبي، حتى يبدو أنه من يخرق قرارات الحظر على التسليح، غير أن ما فضح أمر المؤامرة الأخيرة هو أنها ليست الأولى التي تجرى على هذا النحو، فقد ساعدت قطر الميليشيات الليبية التابعة لها في شراء أسلحة متقدمة من بلغاريا، وإدخالها مهربة إلى البلاد، وكان من اليسير تتبع أرقامها المتسلسلة، ومعرقة من البائع ومن المشتري، الأمر الذي يشبه كثيراً قضية مركز اللاجئين، الذي كشفت فيه صور الأقمار الاصطناعية الفاعل الحقيقي، ومن الذي يُفعل الإرهاب على الأراضي الليبية، وفي كل مرة يحاول إلصاق التهمة بالجيش الوطني للبلاد. لم تكن قصة الصواريخ إلا محاولة للتغطية على المجزرة التي قامت بها ميليشيات طرابلس بحق جرحى جنود الجيش الوطني في مدينة غريان، حيث تم قتل 40 جريحاً من عناصر الجيش الليبي.
والسؤال المطروح الآن: هل تلعب تركيا وقطر دور الجسر الداعم لعودة «الدواعش» مرة جديدة إلى ليبيا؟
ليس سراً أن رجال قطر من المتطرفين والمرتبطين بـ«الجماعة المقاتلة» وغيرهم ينشطون هذه الأيام في نقل العناصر الإرهابية من العراق وسوريا إلى ليبيا، وأنه في حين يستغلون شركات النقل الخاصة بهم، التي هي في واقع الأمر ليست سوى أدوات قطرية وتمويل قطري، يفتح إردوغان مطاراته وموانيه، ويجعل بلاده بمثابة «ترانزيت» لنقل العناصر الإرهابية من مناطق فشل وإخفاق «داعش» إلى ميدان المعركة الجديد، التي يراد لها أن تتمدد إلى قلب أفريقيا، وهذه قصة أخرى.
قبل أيام، كان عضو مجلس النواب الليبي على السعيدي في مدينة طبرق، شرق البلاد، يؤكد على أن نقل عناصر إرهابية من تركيا إلى ليبيا ليس بالجديد، مشيراً إلى أن هؤلاء الإرهابيين يأتون لمحاربة ومواجهة قوات الجيش الليبي في عملياته العسكرية بطرابلس العاصمة.
هل لهذا السبب بدأ «الدواعش» في رفع إعلامهم مرة أخرى في ليبيا الأيام الماضية؟
مؤكد أن الأمر بالفعل على هذا النحو، ففي الأسبوع الأول من الشهر الجاري، نشرت الوكالة التابعة لتنظيم داعش الإرهابي «أعماق»، على تطبيق «تلغرام»، تسجيلاً مرئياً وسط منطقة صحراوية، زعمت أنها جنوب ليبيا، ظهر فيه عشرات المقاتلين يبايعون زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
التسجيل الذي حمل عنوان «والعاقبة للمتقين» تم تصويره غالباً في منطقة «سبها»، جنوب ليبيا، ومدته نحو 5 دقائق، تحدث فيها «محمود البرعصي» المكنى بـ«أبو مصعب الليبي»، مؤسس تنظيم «داعش» في بنغازي، يتوعد القوات التابعة للقيادة العامة بالانتقام ومزيد من القتال.
وفى مايو (أيار) الماضي، تبنى التنظيم نفسه الهجوم على مقر الكتيبة 160، التابعة للقيادة العامة للجيش، في مدينة «سبها»، مما أسفر عن مقتل 9 أفراد خلال الهجوم... هل يفهم القارئ الآن الأسباب التي أدت إلى تصريحات الرئيسي الروسي فلاديمير بوتين التي حذر فيها من انتقال عناصر تابعة لتنظيم «داعش» من الأراضي السورية إلى ليبيا؟
وبالعودة إلى السؤال المتقدم الخاص بالأسباب التي تدفع إردوغان للعب هذا الدور في ليبيا، نجد أن هناك كثيراً من الخيوط المتشابكة والخطوط المتداخلة، ذلك أنه وإن كان إردوغان يسعى لإعادة التاريخ إلى الوراء، وهذا ما فشل وسيفشل فيه على الدوام، فإن هناك محاولات أخرى للسيطرة على ليبيا من أجل تعويض خسائره في الداخل التركي في الفترة الأخيرة، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية تتدهور في بلاده، وينتظر لها أيضاً أن تصل إلى أوضاع صعبة، حال فرض الأميركيون عقوبات على أنقرة بعد إتمام صفقة الصواريخ «S-400» مع روسيا.
وتكشف لنا عدة تقارير دولية أبعاد التدخل التركي في ليبيا، منها ما كشفت عنه الإذاعة الألمانية «دويتشه فيلا»، من أن دافع تركيا للتدخل في ليبيا هو أطماعها في احتياطات البلاد الغنية من النفط والغاز، وموقعها الذي يتقاطع مع طرق التجارة الرئيسية في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى النفط والغاز، فإن تركيا تطمح لبسط سيطرة شركاتها على العقود الاقتصادية في ليبيا.
ويحاول إردوغان تعويض خسائره في ليبيا. ففي عهد القذافي، كانت هناك شركات تركية كثيرة تنشط في مجال الإنشاءات على وجه التحديد، وتجاوزت أرباحها مليارات الدولارات. وقد تراجع هذا الدور كثيراً بعد الإطاحة بالقذافي. والمعروف أن علاقات أنقرة الوثيقة بحكومة السراج مكنتها من وضع أقدام شركاتها مجدداً في البلاد، والحصول على عقود كثيرة في طرابلس وغيرها، خصوصاً عقود إنشاء الطريق الساحلي في طرابلس، إلا أن هذه المصالح علقت بحملة الجيش ضد طرابلس، وبذلك أصبح الجيش يشكل تهديداً كبيراً لأطماع تركيا الاقتصادية والمالية، مما دفع الأخيرة للوقوف بشكل كبير في صف السراج.
أما وكالة «بلومبرغ» الدولية، ذات الطابع الاقتصادي العالمي، فقد كشفت في تقرير لها أن إردوغان يسعى من خلال تدخله في ليبيا إلى الاستفادة من عدد من الامتيازات، بداية من النفط، مروراً بالغاز، وصولاً إلى صفقات إعادة الإعمار. وتقول الوكالة إن إردوغان يسعى إلى عقود وامتيازات تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار.
هل من خلاصة للمشهد المتقدم؟
من الواضح أن القضية الليبية باتت مركبة، وليست بسيطة، لا سيما مع تهديدات عودة «داعش» من جديد، فالمسألة أصبحت قضية أمن عالمي، وعلى الجانب الأوروبي هذه المرة أن يعوض أخطاءه السابقة التي قادت إلى الوضع الآني في ليبيا، كما ينبغي على المجتمع الدولي، خصوصاً موسكو التي لها مصالح كبرى في ليبيا وعموم أفريقيا، اتخاذ مواقف حاسمة وحازمة من أفعال إردوغان وتميم في ليبيا.
وماذا عن الجانب الأميركي؟
لا يزال الدور الأميركي بالنسبة لليبيا مثيراً للتساؤلات، غير أن توجهات ترمب بلا شك المضادة للإرهاب توضح لنا اتجاهات الرياح ناحية طرابلس خاصة، وإن كانت واشنطن منشغلة بالملف الإيراني.
وفى كل الأحوال، لا تبدو في الأفق نهاية قريبة أو سريعة للأزمة الليبية، وهذا هو أفضل مناخ للأصوليين والإرهابيين يمكن لهم أن ينموا فيه، فهل ينتظر العالم فصلاً دموياً «داعشياً» جديداً على ضفاف المتوسط؟


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.