الإعلام الليبي... حروب من داخل الاستوديو

فضائيات نقلت عملها إلى الخارج هرباً من الملاحقات

الليبي نعمان بن عثمان على قناة «ليبيا الأحرار» المؤيدة للإخوان
الليبي نعمان بن عثمان على قناة «ليبيا الأحرار» المؤيدة للإخوان
TT

الإعلام الليبي... حروب من داخل الاستوديو

الليبي نعمان بن عثمان على قناة «ليبيا الأحرار» المؤيدة للإخوان
الليبي نعمان بن عثمان على قناة «ليبيا الأحرار» المؤيدة للإخوان

في ثلاثة أشهر فقط، أطلق الصادق الغرياني مفتي ليبيا المعزول، عبر فضائية يمتلكها نجله، سهيل، أكثر من عشر دعوات صريحة بالتحريض على القتل ورفع السلاح ضد خصومه السياسيين، في إطلالات مسائية، استقبلها أنصاره بالرضا والتأييد، والمستهدفون بـ«بالغضب والانزعاج».
وفضائية «التناصح» التي تبث من تركيا، تُعد واحدة من الوسائط الإعلامية الليبية الكثيرة، الخاصة، التي تدار من خارج البلاد، ويتبنى بعضها خطاباً توجيهياً للجماعات المتشددة، بالإضافة إلى فضائيات تعمل من الداخل، وما بين هذه وتلك يغيب التأثير الرسمي لـ«الدولة الموحدة»، لتظل الهيمنة، إمّا لفضائيات رجال الأعمال والمال السياسي، أو للحكومتين المنقسمتين بين شرق البلاد وغربها.
المنظومة الإعلامية في ليبيا، على قدر ما بها من «هشاشة»، لم تنج من الوقوع تحت تأثير الانقسامات السياسية الحادة منذ رحيل نظام معمر القذافي قبل ثمانية أعوام وأكثر، فبدت استوديوهات بعض الفضائيات كساحة حرب، تجاوزت المِهنية إلى التحريض، والمواثيق الإعلامية إلى الشماتة وأحياناً التجريح، وهو ما أرجعه الصحافي والإعلامي الليبي عيسى عبد القيوم، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعد (ثورة) 17 فبراير (شباط) عام 2011، ظهرت الحرية، وغابت المِهنية».
والفضائيات، التي لم تنأ بنفسها عن الانقسام العميق بين ساسة شرق البلاد وغربها، تتمدد على خريطة واسعة، من أنقرة إلى العاصمة الأردنية عمان، ومن القاهرة إلى العاصمة البريطانية لندن، لكن تظل العاملة منها في ليبيا تتقدم الخطوط الأمامية للقتال بمحتوى فئوي يعكس ميلاً سياسياً، فتجدها «تُرشد الجنود على الجبهة»، و«تبث الأغاني الجهوية، فرحاً بمقتل (أحد من الأعداء)»، بعيداً عن أي مبادئ حاكمة لصناعة الإعلام.
وأدى غياب التنظيم إلى انحراف ممارسات وسائل الإعلام بشدة، حتى إن معاهد ومراكز بحوث دولية؛ مثل المعهد الأميركي لمؤشرات السلام (USPI)، ومعهد الاستشارات ألتاي (Altai Consulting)، اعتبرت أن «الرأي العام الليبي لم يعد يثق بوسائل الإعلام الوطنية بسبب ممارساتها غير المهنية، وشيوع أنماط الأداء الحادة والمنفلتة، وعدم الالتزام بالقواعد المنظمة للعمل الإعلامي».
وكما أن الحرب بين المتقاتلين على الجبهة سجال، فهي في القنوات كذلك، إذ لم يجد أي من الفريقين غضاضة في أن يطلق إشاعات وأخبارا مضللة ضد الآخر، ما دام امتلك كل منهما الوسيلة الإعلامية التي تمنحه هذه المساحة، في ظل غياب هيمنة السلطة المركزية.
وبدأ «الجيش الوطني» الليبي عملية عسكرية منذ الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، قال إنها تستهدف «الجماعات الإرهابية».
فمن داخل العاصمة طرابلس تعمل مكاتب قنوات منها «ليبيا الوطنية»، و«ليبيا الرسمية» التابعتين للمجلس الرئاسي بحكومة «الوفاق الوطني»، تحت شعار «المنبر الإعلامي المتميز للدولة الليبية»، ولهما مكاتب تنتشر في عموم المنطقة الغربية، وسبق أن توقف مكتب «الوطنية» في سرت عن العمل منذ فبراير عام 2015 بعد سيطرة تنظيم «داعش» على المدينة، ونهبه وتخريبه، لكنه عاد للعمل بعد صيانته بدعم حكومي وأهلي.
وفي موازاة ذلك، تقف القنوات المعبرة عن منطقة شرق ليبيا، لتقدم رسالة مناهضة، في مقدمتها: «ليبيا الحدث» لسان حال «الجيش الوطني» الذي يقوده المشير خليفة حفتر، و«ليبيا الإخبارية» التلفزيون الرسمي الوحيد التابع للحكومة الليبية المؤقتة، بالإضافة إلى قناة «المستقبل» الموالية لمجلس النواب الذي يعقد جلساته في طبرق.
ومع تصاعد وتيرة معارك طرابلس التي دخلت شهرها الرابع، فقد انخرطت قنوات كلا الطرفين لتدافع عنه بكل الأساليب، وأوقفت جل برامجها، خصوصاً الليلية، لتوجيه الرأي العام، في محاولة لاجتذاب جمهور من (الطرف المعادي)، أو التشكيك فيما يقوله قادته العسكريين، حتى إن برامج المنوعات والـ«ست كوم» لم تخل من الغمز واللمز والسخرية من (المختلف معهم)، غير أن كثيرا من القنوات الممولة من قطر وتتحدث بلسان الجماعة الليبية المقاتلة، والإخوان المسلمين، دخلت على الخط وأشعلت الأزمة على أرضية دينية، وصلت إلى تحريض الغرياني، المقيم في تركيا، على قتل عناصر الجيش الليبي وأنصاره.
متابعون لحركة الإعلام الليبي، يحيلون بعضاً مما يجري على الساحة إلى حداثة التجربة، وظروف الفوضى التي ضربت البلاد منذ إسقاط القذافي. ويتذّكر عبد القيوم، (الذي قدّم برنامجاً سياسياً على «قناة ليبيا») أن «الإعلام الليبي بدأ يتعثر مع سيطرة الدولة عليه، وإلغاء القطاع الخاص بعد (انقلاب) العقيد القذافي في 1969»، إلى أن «مر بمرحلة أدلجة عقب اعتماد (الكتاب الأخضر) في 1977، ومن هنا بدأ مشوار انحدار الإعلام في البلاد».
و«الكتاب الأخضر»، ألفه القذافي عام 1975، وعرض فيه بعض أفكاره حول أنظمة الحكم، والمجتمع والسياسية والاقتصاد، لكن بعد أكثر من ثمانية أعوام على مقتله اختفى أثر الكتاب الذي حل مكان الدستور في ليبيا، طوال مدة حكمه، لكن بقيت قناة «الجماهير» المعبرة عن نظام القذافي، تعمل من خارج البلاد، وتبث دعاية مؤيدة للنظام السابق، ومواد فيلمية عن إنجازات العقيد.
بعض الذين اتجهوا إلى تأسيس قنوات خارج البلاد، تعللوا بأن مناخ ما بعد (انتفاضة) 17 فبراير التي أسقطت القذافي، غير ملائم لإنتاج صناعة إعلامية محايدة، وبالتالي اتجهوا إلى الخارج هروباً من الضغوط والتهديدات، لكن ما حدث على مدار السنوات الماضية، من تيارات الإسلام السياسي، أظهر عكس ذلك، إذ إن أجندتهم الخاصة واختلافاتهم الآيديولوجية كانت حاضرة في برامج قنواتهم، كما أن معركة طرابلس، لم تكن بعيدة أيضاً عن ساحة استوديوهات «التناصح» و«النبأ».
واحدة من إطلالات الغرياني، الذي يتربع على عرش قناة «التناصح» يمتلكها نجله سهيل، والمتهمة بالحض على الكراهية والعنف، أفتى مبكراً بوجوب قتال قوات «الجيش الوطني» عندما كان يقاتل تنظيم «داعش» في بنغازي، ومؤخراً، أفتى ضمنياً بأن العاملين فيما سماها بـ«قنوات الفتنة» في حكم «القَتَلة» «لأنهم يقتلون بالكلام مثلهم مثل من يقتل بالسلاح».
«التناصح» تتبع في الأساس دار الإفتاء الليبية، قبل أن تتبنى دعم ما يسمى «مجلس ثوار بنغازي»، في مواجهة «الجيش الوطني»، أمّا قناة «النبأ» المدرجة ضمن الكيانات الإرهابية المصنفة من قبل الرباعي العربي في يونيو (حزيران) 2017، ويمتلكها عبد الحكيم بلحاج، القيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، انطلقت في أغسطس (آب) 2013. وبعد سيطرة ميلشيات «فجر ليبيا» على العاصمة طردت جميع القنوات الخاصة واستبقت على «النبأ»، التي تحاصرها الاتهامات بتعمد بث أخبار مضللة، حيث كانت في مقدمة القنوات التابعة لقطر وتنظيم الإخوان المسلمين، التي بثت أخباراً عن «موت حفتر» في فرنسا، خلال شهر أبريل العام الماضي.
وفتحت «التناصح» و«النبأ» وغيرهما من القنوات التي تبث من خارج ليبيا، الطريق أمام المال السياسي، والتمويلات الخارجية العابرة للإعلام الليبي الخاص، وهو ما وصفه متابعون لـ«الشرق الأوسط» بأنه «إحدى الكوارث التي حلت على ليبيا بعد (انتفاضة) 17 فبراير»، وقال عبد القيوم: «مع ثورة فبراير بدأ عهد الإعلام الممول من دول أجنبية... تجربة سيئة بدأتها قطر بدعم (الثوار) ضد القذافي، ثم (الإسلاميين) ضد (الوطنيين) وصولاً إلى مرحلة دعم الميليشيات ضد الدولة الشرعية، وهو ما نعيشه الآن».
والقنوات التابعة لجماعة الإخوان وتتبنى خطاباً آيديولوجياً كثيرة، بينها «ليبيا بانوراما» وتعمل من خلال عدد كبير من المراسلين وخاصة بغرب البلاد، وتُعنى بشؤون حزب العدالة والبناء الذراع السياسية للجماعة، وأجرت مؤخراً حواراً مع رئيسه محمد صوان، نال فيه من حفتر، ثم «ليبيا لكل الأحرار»، (L P C) المملوكة لشركة الريان القطرية، وكانت تبث منذ افتتاحها من الدوحة، قبل انتقالها إلى العاصمة التركية أنقرة، بالإضافة إلى قناة «الرائد»، الموالية لـ«الإخوان».
والحاصل أن قطاعاً كبيراً من القنوات الليبية تم توظيفها عمداً وفقاً لرغبات لرأس المال، لمصلحة أحد طرفي الحرب الدامية في طرابلس، بعيداً عن دورها المِهني. ومبكراً أثبتت دراسة علمية للباحث الدكتور محمد علي الأصفر، أعدها في فبراير 2015، أن «الفضائيات الليبية أسهمت في تأجيج الصراع، وباتت أداة من أدوات القتال، عبر تحيزها وبث الأخبار المجهّلة».
وتعرضت وسائل إعلام عاملة في البلاد لموجة كراهية عقب إسقاط القذافي، اضطرت بعض القنوات والوسائل الإعلامية للإغلاق، ودفعت رجال أعمال لإنشاء قنوات خارج ليبيا تفاديا للمداهمات والضغوط الأمنية التي مارستها الميليشيات المسلحة خاصة في غرب البلاد، فتم تدشين قنوات «الوطن»، و«ليبيا 24»، و«218»، منوعات، و«218 نيوز»، و«ليبيا روحها الوطن» في بلدان عربية عدة.
فمن منطقة برقاش بمصر فضّل رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الوسط» محمود شمام وزير الإعلام في أول حكومة ليبية بعد القذافي، تدشين قناة «wtv» في الذكرى الثامنة لـ(انتفاضة) 17 فبراير. وقال المسؤولون في المؤسسة، إن المحتوى البرامجي للقناة «سيهتم بما يبرز ويخدم الهويّة الليبية في إطار ثقافي متميز، وسيكون للمرأة والشباب عموماً الحيز الكبير فيما ستقدمه القناة لمشاهديها».
ورغم كل السلبيات والانتقادات التي يواجهها الإعلام الليبي، فإن عبد القيوم الصحافي والإعلامي الليبي، انتهى إلى أن التجربة، بكل ما فيها من تجاوزات: «ربما تكون أسهمت في خلق فرص ممتازة لتطوير بعض الكوادر، ورفع سقف التنافس، وهو ما نأمل بأن يساعد على استعادة الإعلام لتوازنه بعد استعادة سيادة الدولة».


مقالات ذات صلة

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي صحافيون من مختلف وسائل إعلام يتشاركون موقعاً لتغطية الغارات الإسرائيلية على مدينة صور (أ.ب)

حرب لبنان تشعل معركة إعلامية داخلية واتهامات بـ«التخوين»

أشعلت التغطية الإعلامية للحرب بلبنان سجالات طالت وسائل الإعلام وتطورت إلى انتقادات للإعلام واتهامات لا تخلو من التخوين، نالت فيها قناة «إم تي في» الحصة الأكبر.

حنان مرهج (بيروت)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».