مفاوضات الأطراف السودانية تخفي أكثر مما تعلن

TT

مفاوضات الأطراف السودانية تخفي أكثر مما تعلن

رغم تلهف السودانيين لقطف ثمرة ثورتهم بتشكيل حكومة مدنية، إلا أن خبايا ما يدور خلف الأبواب المغلقة في قاعة المفاوضات، تمنح صورة مغايرة، وربما صادمة. فالمؤتمرات الصحافية التي تعقد بعد كل جولة مفاوضات تعبر عما يريد المتفاوضون إخفاءه أكثر مما يراد إفشاؤه.
الخميس الماضي 11 يوليو (تموز) 2019 كان يوماً طويلاً انتظر السودانيون فيه بصبر نافد سماع صرخة ميلاد الحكومة الوليدة، حال عبر الطرفان المتفاوضان لُجة الخلافات الطويلة بينهما، لكن يبدو أن ما كان يجري خلف الكواليس مختلف تماماً عن ما جهر به المؤتمر الصحافي فجر اليوم التالي.
فبعد جلسات تفاوض طويلة وشاقة، يوم الخميس، مارس فيها الوسيط الأفريقي محمد الحسن ولد ليبات شتى السبل لتقريب وجهات نظر الطرفين، بات المشهد في الطريق الصاعد لمنصة التتويج بإعلان اتفاق الفريقين، لدرجة أن الوسيط الأفريقي صفق بحرارة ليجبر الطرفين على التصفيق إيذاناً بتدشين الاتفاق.
حسب مصادر موثوق بها من وفد «قوى الحرية والتغيير»، بعد التوصل لتفاهم حول كل النقاط المطروحة على طاولة التداول اعترض أحد مفاوضي «قوى الحرية والتغيير» أن تفويضه غير كافٍ، ويحتاج للرجوع إلى مؤسسات حزبه والتكتل الذي ينتمي إليه للمشورة، وفي الحال تبعه آخرون.
وطلب المتفاوضون مهلة لمدة يوم واحد ليعودوا مساء الجمعة، لكن اعتراض كبير مفاوضي المجلس العسكري الانتقالي أحال الموعد المقترح إلى نهار السبت. وفي الطريق إلى المؤتمر الصحافي كان هناك توافق بين الطرفين على تجنب إثارة الأسباب الحقيقية لتأجيل التوقيع على الاتفاق!
البنود الأساسية التي لا تزال مثار اختلاف بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» ليست واضحة بشكل كافٍ؛ تضارب وجهات نظر الكتل المكونة لـ«قوى الحرية والتغيير» يرسم خطاً متعرجاً، بل ومتحركاً، لا يسمح بتحديد نقاط الاختلاف بدقة، فما قد تتسامح فيه كتلة من التحالف ترفضه أخرى بصورة قاطعة.
وأحياناً تبدو مواقف الأحزاب نفسها عائقاً أمام الكتل المتحالفة، كما حدث في موقف «الحزب الشيوعي» الذي عبر عنه بيان رسمي بتوقيع محمد مختار الخطيب السكرتير العام قائلاً: «يرفض الحزب مشاركة الأعضاء الحاليين للمجلس العسكري في أي مستوى من مستويات الحكم في السلطة الانتقالية»، ولم يكتف بهذا الرفض «المبدئي»، بل وضع إصبعه في عين المفاوضات، فوصمها بأنها تتستر على أجندة غير معلنة أمام الرأي العام.
رفض «مبدأ» دخول أعضاء المجلس العسكري الانتقالي إلى مجلس السيادة يعني عملياً انهيار المفاوضات، بل هي دعوة مباشرة لـ«آخرين» من الجيش ليحلوا محلهم، وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا عبر انقلاب عسكري.
الوسيط الأفريقي (ليبات) في موقف لا يحسد عليه عندما اضطر لإعلان تأجيل جلسة المفاوضات، أمس، فهو لم يستشر أحد الطرفين؛ وفد المجلس العسكري، معتمداً على تقديره أن طلب مفاوضي «قوى الحرية» مزيداً من الوقت للتشاور مع «الكتل» المكونة للتحالف عذر مقبول لا يحتاج لموافقة الطرف الآخر، لكن رد وفد المجلس العسكري كان الذهاب إلى قاعة التفاوض - رغم علمهم بالتأجيل - ربما لإحراج الوسيط الأفريقي.
حسب الفريق شمس الدين الكباشي، رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري، فإنهم علموا بتأجيل جلسة المفاوضات من خبر بثته إحدى الفضائيات، مع إقراره أن أسبابه قد تكون مقبولة لديهم.
التحسب لردة فعل الشارع الثائر يشكل هاجساً مستمراً لوفد «قوى الحرية والتغيير»، داخل قاعة المفاوضات، فالتحالف الذي يتكون من تكتلات تضم عشرات الأحزاب والحركات ومنظمات المجتمع المدني يخشى من «المزايدات» الداخلية، ويحاول بأقصى جهده جمع النقاط من السباحة مع تيار عواطف الجماهير أكثر من خوض مخاطر إقناع الجماهير.
ويزيد من تأزم هذه الحالة، غياب الجسم القيادي لـ«قوى الحرية والتغيير»، الذي يفترض أن يحسم اختلافات الرأي لصالح موقف تفاوضي واضح متوافق عليه داخل تحالف «قوى الحرية والتغيير».
في ظل هذا الوضع، قد يتأخر التوقيع على الإعلان السياسي والدستوري، رغم تبشير الوسيط الأفريقي بالتوافق عليه في مؤتمره الصحافي، أول من أمس، الجمعة، ولكن في كل الأحوال، قد يعني التوقيع عليه بداية تفرق السبل بين بعض مكونات «الحرية والتغيير»، التي ترى في شراكة المجلس العسكري «خيانة» لدماء شهداء الثورة، خصوصاً أن كواليس المفاوضات شهدت مطالبة واضحة من هذه القوى للمجلس العسكري الانتقالي بهيكلة بعض القوات النظامية، على وجه السرعة، خشية ارتدادات تغتال الثورة قبل أن تبلغ مراميها.



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.