في نهاية الأسبوع الأول من شهر يوليو (تموز)، من كل عام، تنطلق في مدينة بامبلونا الهادئة، عاصمة إقليم نافارّا الإسباني، أعياد «سان فيرمين» التي كان أرنست همنغواي يقول إنها «عيد الأعياد»، وبقي يواظب على حضورها إلى أن وافته المنيّة عشيّة استعداده للسفر مع شلّة من أصدقائه للمشاركة فيها.
أكثر من مليون شخص يتوافدون إلى بامبلونا في مثل هذه الأيام، يتدفقون في شوارعها وأزقتها أمام الثيران الهائجة المندفعة كالسيل الجارف، يتعرّض كثيرون بينهم لطعنات خطرة من قرونها الحادة ويجازفون بحياتهم تدفعهم تلك الرغبة الدفينة إلى الوقوف عند شفا الهاوية وملامسة الخطر. أمواج من الأحمر والأبيض تغمر المدينة تسعة أيام يتواصل ليلها بنهارها في عرس من الصخب والموسيقى يتكرر كل عام.
يقول مؤرخون إن أصل هذه الأعياد يعود إلى الاحتفالات الموسمية التي كان المزارعون يعرضون فيها منتوجاتهم وماشيتهم في القرن السادس عشر، فيما يرجّح آخرون أنها كانت في الأصل أعياداً دينية تعود إلى القرن الثالث عشر. لكن الاعتقاد الشائع بين أهل المدينة اليوم، هو أنها المتنفّس الذي توافق عليه سكّانها وسلطاتها العسكرية والدينية الصارمة مطالع القرن الماضي للتخفيف من الضغوط الاجتماعية التي كانوا يرزحون تحتها طوال العام.
يتوزّع الزوّار من كل أنحاء العالم في الشوارع والساحات والحدائق وعلى الشرفات، يراقبون اندفاع آلاف الشبّان أمام الثيران باتجاه حلبة المصارعة، ثم ينتشرون في رحابها، حيث يواصلون التحدّيات التي غالباً ما تؤدي إلى وقوع إصابات خطرة، وأحياناً مميتة، بين الذين ينتظرون هذا العيد كل سنة لاختبار قدرتهم على المجازفة وركوب المخاطر.
وبالأمس قال الصليب الأحمر إن ثوراً جرح رجلاً، وإن ما لا يقل عن أربعة أشخاص آخرين نقلوا للمستشفى للعلاج من إصابات لحقت بهم في اليوم السادس من مهرجان «سان فيرمين» لركض الثيران. تسعة أيام يقال إنها تساوي تسعة أعمار، يجري خلالها سيلٌ من الهذيان والفوضى في عروق المدينة التي تتخلّى عن كل الضوابط وتخرج عن كل الحدود قبل أن تعود إلى هدوئها المعتاد ورصانتها الموصوفة.
أعياد «سان فرمين» هي أيضاً موسم اقتصادي تعتمد عليه المدينة التي يتضاعف عدد سكانها خمس مرات، ويصل إيجار الغرفة في فنادقها إلى ما يزيد عن ألف دولار، فيما يستغلّ أصحاب المنازل المطلّة على الأزقة التي تتدافع فيها الجماهير أمام الثيران بأسعار خيالية.
الكاتب الأميركي أرنست همنغواي خلّد بامبلونا وأعيادها في روايته المهمة الأولى «وأشرقت الشمس»، التي وضعها في عام 1926 بعد زيارته الثالثة إلى المدينة التي زارها لأول مرة في عام 1923 عندما انتقل من باريس إلى إسبانيا سعياً وراء الإلهام والمغامرات التي كانت المحرّك الأساسي لحياته وإنتاجه الأدبي. وقد استمر في التردد عليها كل عام مع زوجتيه وأصدقائه، وأقام صداقات مع بعض مصارعي الثيران المشهورين آنذاك، كما شارك في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين. ولم تنقطع زيارات همنغواي إلى بامبلونا حتى وفاته في عام 1961 قبل أربعة أيام من انطلاق أعياد «سان فرمين».
منذ منتصف القرن الماضي يتردد أعداد كبيرة من الأميركيين على هذه الأعياد، متأثرين بلا شك بأعمال همنغواي وسيرته، لكن منذ سنوات بدأ يزداد عدد السيّاح الصينيين الذين يتوافدون للمشاركة في هذه الأعياد، ويدفعون مبالغ باهظة بدل الإقامة في الفنادق والمنازل المطلّة على مسارات اندفاع الثيران.
وقد شهدت انطلاقة الأعياد هذه السنة احتجاجات من الذين يندفعون أمام الثيران، لاعتبارهم أن هذه «مروّضة أكثر من اللازم ولا تشكّل ما يكفي من الخطر على الذين يتحدّونها». ويقول المسؤولون عن تنظيم هذه الأعياد في البلدية إنهم يحرصون على سلامة المشاركين في الأعياد بعد تكاثر الحوادث الخطرة في السنوات الماضية. كما أن الحركات المدافعة عن حقوق الحيوان التي تطالب بإلغاء حفلات مصارعة الثيران، التي تنشط كثيراً منذ سنوات، حيث نجحت في استصدار قوانين لمنعها في بعض الأقاليم، تجدد نشاطها في مثل هذه الأيام مطالبة بإلغاء مصارعة الثيران بعد اندفاعها في الشوارع ودخولها الحلبة في أعياد بامبلونا.
بامبلونا الهادئة تتخلّى عن كل الضوابط أمام الثيران الهائجة
إصابة 5 أشخاص في سادس أيام المهرجان السنوي

تركض عبر شوارع المدينة الضيقة ستة ثيران ذات نزعة هجومية بينما يحاول الراكضون تفادي الإصابة بقرونها أو السقوط تحت حوافرها (إ.ب.أ)
بامبلونا الهادئة تتخلّى عن كل الضوابط أمام الثيران الهائجة

تركض عبر شوارع المدينة الضيقة ستة ثيران ذات نزعة هجومية بينما يحاول الراكضون تفادي الإصابة بقرونها أو السقوط تحت حوافرها (إ.ب.أ)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة