عبد الجبار داود البصري... إنجاز نقدي مبكر وتغييب شبه كامل

من أوائل من كتبوا عن حركة الحداثة الشعرية

عبد الجبار داود البصري
عبد الجبار داود البصري
TT

عبد الجبار داود البصري... إنجاز نقدي مبكر وتغييب شبه كامل

عبد الجبار داود البصري
عبد الجبار داود البصري

كم كنا حمقى نحن بعض الشعراء الشباب - سابقاً طبعاً - قبل أكثر من 20 عاماً، حين كنا نلتقي بالناقد العراقي عبد الجبار داود البصري (1930 - 2002) في المؤتمرات، ونتابع أوراقه النقدية لنخرج بانطباعاتٍ سطحية عن وعي ذلك الناقد الكبير، الذي كنا نجهل حجمه المعرفي والنقدي، فنبدأ نكيل له التهم بالتخلف وعدم مواكبة الحداثة، وبأنه ناقد انطباعي، علماً أنه كان يشخص النقاد الانطباعيين، فمثلاً كان يقول عن مارون عبود إنَّه ناقد انطباعي بامتياز، وإنَّ المنهج الانطباعي لم يتبلور في نتاج ناقد مثلما هو في نتاج مارون عبود دون منازع، ومن ثم يورد رأياً لمارون عبود حول ديوان «خفقة الطين» لبلند الحيدري يقول فيه: «الصوت صوت يعقوب وإنْ كان اللمس لمس عيسو... الرحى سورية وأمَّا الحنطة فعراقية».
كان البصري على دراية تامة بالمناهج النقدية حديثها وقديمها، وقد كتب فصلاً كاملاً عن مناهج نقد الشعر في كتابه «فضاء البيت الشعري» بمعرفة حقيقية للمؤسسين ولطبيعة معالجة النصوص من خلال تلك المناهج، وقد أسهب بالحديث عن تلك المناهج قديمها وحديثها، من كانت عربية المنشأ، أو معربة، أو مستوردة.
كان يشخص بدقة كبيرة، ويوجه نقده لتلك المناهج، مَنْ تصلح لثقافتنا، أو لا تصلح، ولكننا نحن الذين لم نقرأ شيئاً في تلك المرحلة، نظرنا لهذا الناقد الكبير بأنَّه لا يكتب إلَّا عن بعض السقطات اللغوية، فيقومها، حتى أننَّا ضحكنا كثيراً يوم كتب عن ديوان للشاعر عماد جبار، وكان أوَّل عملٍ له وعنوانه «وكانت هناك أغاني». كتب البصري مقالة ونشرها في إحدى الصحف اليومية - وكانت الكتابة في ذلك الوقت تعني الكثير بالنسبة لنا كشعراء يعني اعترافاً من النقدية العراقية حتى لو كانت شتماً - ولكننا سخرنا كأي منتفخين في العالم حين قرأنا أوَّل ملاحظة له بأنَّ العنوان فيه خطأ، حيث يجب أنْ يكون «وكانت هناك أغانٍ» وهذا هو الصحيح طبعاً.
ضحكنا وقلنا أُيُعقل في زمن البنيوية أنْ يتحدث النقاد كما يتحدث الأصمعي، أو أبو عمرو بن العلاء، كأن الناقد الذي لم يكن بنيوياً أو أسلوبياً أو تفكيكياً عليه ألا يعيش بين ظهرانينا، هذا ونحن لم نكن نعرف من البنيوية شيئا إلَّا اسمها، ومن التفكيكية إلا رسمها. هكذا كنا نردد آراءنا ونحن نقهقه بمراهقة ثقافية لا أكثر ولا أقل.
ولكن بعد مرور هذه السنوات، ومتابعتي ملف النقد العراقي من خلال الدراسة الأكاديمية، والكتابة عن لغة النقد الحديث في العراق، وجدتُ أنَّ الناقد عبد الجبار داود البصري هو من أكثر النقاد نفاذاً وإشعاعاً ومعرفة ومتابعة لكل ما هو جديد، ولكنَّه للأسف لم يحظَ بالمكانة التي يستحقها عراقياً وعربياً، ذلك أنَّ البصري هو من أوائل من كتب عن حركة الحداثة الشعرية «قصيدة الشعر الحر» وكتاباه المعروفان كانا رائدين على المستوى النقدي؛ فالأول كان «بدر شاكر السياب: رائد الشعر الحر» 1966، والثاني كان «نازك الملائكة: الشعر والمنظومة» 1971. كما أنَّه من النقاد الأوائل الذين التفتوا للشعر الحديث، فكان كتابه المعروف «مقال في الشعر العراقي الحديث» 1968.
فضلاً عن رؤيته حول فكرة المنهج التكاملي الذي يدعو فيه إلى الأخذ من المناهج جميعاً، وإنَّه لا حدود واضحة تعزل المناهج عن بعضها، فكان كتابه «الأدب التكاملي» 1970.
وهذا يعني أنَّ البصري يمتلك وعياً مبكراً، حيث رافق نشأة الحداثة الشعرية، وكتب عنها، في وقت كانت الكتابة عنها أشبه بالمغامرة بوصفها حركة جديدة لم يُلتفت إليها كثيراً، ولم تتكرس بعد في الوجدان الثقافي العربي، وأنَّ شعراءها لمَّا ينجزوا بعد مشروعهم الحداثي، كما أنَّ البصري لاحق بدأب وحب معظم ما كان يُكتب، حيث كتب عن معظم الإصدارات الشعرية من دواوين كانت تطبع في تلك الفترة، وحتى القصائد التي كانت تُنشر في الصحف والمجلات، كما كان يُكلَّف بقراءة النصوص في بعض المجلات التي تنشر فيها تلك النصوص، فضلاً عن قراءاته النقدية في المؤتمرات والمهرجانات، فقد كان يكتب في كل تلك الحالات، وهي ظاهرة تكاد تختفي الآن، إذ يُصدر المئات من الشعراء دواوينهم الشعرية، ولكن النقاد بمنأى عن تلك الأعمال، فهم - أي معظم النقاد المعاصرين -لا يكلفون أنفسهم بقراءتها ونقدها والبحث عن تجارب جديدة، فالكسل النقدي أجلسهم عند دكة الرواد من الأدباء ولم تمتد ملاعقهم النقدية للأجيال التي تنشطر وتتوالد وتختلف وتتصارع مع الذين سبقوهم، لذلك يأخذ الشعراء في مراحل متعددة دور النقاد فيبدأون ينظرون ويكتبون ويتبادلون الأدوار مع النقاد ليصلوا إلى مرحلة الاستغناء النقدي عن دورهم المهم.
ولكن البصري هو أحد تلك الأسماء التي نزعم أنها تقف في طليعة الأسماء العراقية التي أسهمت بصناعة الفكر والمعرفة في البلد، وبالأخص عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في الربع الأخير من القرن العشرين، وتُعد كتاباته منطقة وسطى ما بين النقاد الانطباعيين والنقاد النصيين الذي بدأوا يشتغلون على المصطلح والمفهوم، وقتلوا الشاعر وأباه لينفردوا بالنص الشعري، معتبرين إياه بنية مغلقة لا علاقة لها بكاتبها، فالبصري أزعم أنه حلقة الوصل، وهذه الحلقة نابعة من لغة البصري النقدية ومن رؤيته في الوقت نفسه، ذلك أن نصه النقدي حافل باللغة الاستعارية التي تجنح للانطباعية، ولكنه في الوقت نفسه تجد نصه النقدي حافلاً باللغة الواصفة والموضوعية، التي تختفي «أنا» الناقد كثيراً في محطاتها ودهاليزها.
ورغم خلو لغة البصري النقدية من حزمة المصطلحات والمفاهيم التي شابت رؤوسنا ولم نفهمها، فإنه لم يكن إنشائياً، فالموضوع الذي يعالجه نقدياً يوصله بأقل كلفة من المصطلحات، دون أنْ يشقَّ على القارئ، ويشعره بالتعالي المفاهيمي، ويغلق النص عليه، أو كما يقول الدكتور مالك المطلبي وعبد الرحمن طهمازي حين كتبا كتاباً نقدياً عن محمد خضير عنوانه «مرآة السرد»، كانا يقولان - في المقدمة - إننا سنكرُّ على المتلقي بأدواتنا الغليظة، وهذه مشكلة كبيرة فما ذنب المتلقي لكي تكرّوا عليه بأدوات غليظة؟ وغير مفهومة إطلاقاً.
البصري لم يكن من هذا النوع، بل هو صاحب لغة كما يصفها البعض بأنها حميمة مأنوسة لا تتعالى على قارئها، كما أنَّها لا تنزل إلى السفح، فمثلاً حين يتحدث البصري عن وظائف البيت الشعري يقول: «ووظائف البيت الشعري لا تختلف عن وظيفة أي بيتٍ آخر مبني بالقصب أو الخشب، بالآجر والكلس، بالسمنت والحديد، فالمعروف أن دور السكن تقوم بوظائف كثيرة أبرزها 4: الإيواء، والخزن، والترفيه، واتقاء الأخطار، ومن وظائف البيت الشعري أنْ يؤوي كل من يلجأ إليه، فلقد آوى قيساً وليلى، وجميلاً وبثينة، وعنترة وعبلة... ومن وظائف البيت الشعري الخزن والحفظ... فلقد حفظ هذا البيت تقاليد العرب ومآثرهم، وأيامهم ومعاركهم»... إنَّ من خلال هذه اللغة العالية والبسيطة - في الوقت نفسه - تتضح البوصلة النقدية التي يتجه نحوها البصري دون تكلف، أو معاضلة في الرؤية، أو اللغة النقدية التي تسيل بحب وود.
ظلَّ البصري وفيَّاً لمهمة النقد الأدبي، ومتابعاً بحرص الحركة الثقافية أيام التسعينات، تلك الأيام التي أتذكر فيها البصري في سنواته العشر الأخيرة، حيث بدأ يدبُّ دبيباً في مشيه، ولكنَّ لسانَه بقي حادَّاً في قراءة النصوص ونقدها.
أتذكر البصري هذه اللحظات وسط مجموعة من الأوهام النقدية التي غصنا في أوحالها، ووسط تعالٍ أجوف للنقدية العربية، أسهم بانفصال النص عن مجتمعه، ووضع حائطٍ عالٍ لا يمكن النظر من خلاله لأرواح النصوص التي شرَّحها النقاد بكل برود بسكاكين التشريح النقدية، دون أنْ نستمتع برفيف تلك النصوص، ولا نتذوق حلاوة سهر الليالي لهؤلاء الشعراء، فقد أماتوهم جميعاً وعزلوا النصوص عنهم، ومنعوا من إصدار الأحكام على تلك النصوص، هل هي جيدة؟ أم عكس ذلك؟ وأظن أنَّ بغياب الحكم النقدي غاب كثير من القيم النقدية، وانطوى تحت عباءة الحداثة من لا يستطيع أنْ يقول جملة مفيدة واحدة.
أتذكر البصري الآن حيث الغياب أو التغييب شبه الكامل لجهوده النقدية، ذلك أنَّه لم يُذكرْ لا بندوة مخصصة له، ولا يُذكر اسمُه في محافل النقد، أو المهرجانات التي كان أحد عرَّابيها المهمين، ولا حتى في مجلة «الأقلام» التي رأس تحريرها لمدة طويلة، ولا حتى في مقال نقدي، ما الذي يحصل أيُّها النقاد؟



العودة إلى تنفيذ قانون الـ100 مليلتر للسوائل في جميع مطارات أوروبا

يستخدم المسافرون الآلات الحديثة في المطار (أ.ف.ب)
يستخدم المسافرون الآلات الحديثة في المطار (أ.ف.ب)
TT

العودة إلى تنفيذ قانون الـ100 مليلتر للسوائل في جميع مطارات أوروبا

يستخدم المسافرون الآلات الحديثة في المطار (أ.ف.ب)
يستخدم المسافرون الآلات الحديثة في المطار (أ.ف.ب)

يواجه المسافرون عبر الجو، الذين كانوا يأملون في انتهاء عصر «مستلزمات الحمام الصغيرة»، خيبة أمل جديدة، حيث أعادت المطارات الأوروبية فرض قواعد صارمة متعلقة بحقائب اليد، حسب موقع «سكاي».

وكانت بعض الوجهات في الاتحاد الأوروبي قد ألغت الحد الأقصى البالغ 100 مليلتر للسوائل المسموح بحملها ضمن أمتعة اليد، ولكن بداية من الأحد، يتعين على جميع المطارات إعادة فرض هذا الحد بسبب «مشكلة تقنية مؤقتة» في أجهزة الفحص الأمني الجديدة. ويأتي ذلك بعد خطوة مماثلة اتخذتها المملكة المتحدة في وقت سابق من الصيف الحالي.

ويعني هذا أنه إذا كنت في إجازة، فلن تتمكن من شراء زجاجة كبيرة من واقي الشمس، أو العطور، أو المشروبات المحلية، قبل الوصول إلى المطار لتحملها إلى المنزل ضمن أمتعة اليد. ولكن لماذا حدث ذلك؟ وهل سيعود العمل بالقواعد الأكثر مرونة التي كانت متبعة في بعض الأماكن؟

كان المسافرون على متن الطائرات في جميع أنحاء العالم قد اعتادوا على القيود الصارمة، التي يتم فرضها على السوائل وأدوات التجميل، والتي يتعين وضعها في كيس بلاستيكي شفاف، بحد أقصى 100 مليلتر.

مع ذلك من المتوقع أن تتيح أجهزة الفحص الأمني الجديدة، التي تستخدم تقنية الأشعة السينية المقطعية، نظرياً وضع كميات أكبر من السوائل، والإبقاء على أجهزة الكومبيوتر المحمول في الحقائب.

وقد بدأت بعض المطارات في دول الاتحاد الأوروبي، مثل مطارات روما وأمستردام، تنفيذ تلك التعليمات بالفعل، وخففت القواعد الصارمة، في حين لم تفعل غالبية المطارات ذلك بعد، وشرعت بعض المطارات الأخرى بتجربة هذه التقنية الجديدة.

ووفق تقديرات الفرع الأوروبي لمجلس المطارات الدولي، يوجد حالياً نحو 350 جهاز مسح ضوئي في 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا وآيرلندا، وإيطاليا، وليتوانيا، ومالطا، وهولندا، والسويد.

مع ذلك، أعاد الاتحاد الأوروبي فرض الحد الأقصى البالغ 100 مليلتر لحل مشكلة تقنية في المعدات الجديدة، على الرغم من أنه لم يذكر ماهية هذه المشكلة.