أكاديميون يحاضرون حول صورة أوروبا في المتخيل المغربي

ضمن فعاليات الدورة الثانية من مهرجان أوروبا ـ الشرق للفيلم الوثائقي في أصيلة

أكاديميون يحاضرون حول صورة أوروبا في المتخيل المغربي
TT

أكاديميون يحاضرون حول صورة أوروبا في المتخيل المغربي

أكاديميون يحاضرون حول صورة أوروبا في المتخيل المغربي

رصد باحثون مغاربة في ندوة بعنوان «صورة أوروبا في المتخيل المغربي» ضمن فعاليات الدورة الثانية لمهرجان أوروبا - الشرق بمدينة أصيلة المغربية مراحل تكون صورة أوروبا لدى المغاربة من خلال عنصر الرحلة في بعده الحضاري والفكري، وكذا العناصر المتحكمة في العلاقة المغربية - الأوروبية.
وأكد الباحثون خلال الندوة التي نظمت مساء أول من أمس بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في أصيلة على أن الاختلاف الآيديولوجي والثقافي هيمن على طبيعة التعاطي مع موضوع الصورة الأوروبية وكذا على تأخر المغرب في تدوين البعثات إلى أوروبا.
وقال سعد الزموري، عميد كلية الآداب بجامعة عبد المالك السعدي بمدينة تطوان، إن الرحلة هي العنصر المركزي في تلاقح وإعادة رسم الصورة الأوروبية في المتخيل المغربي، خصوصا في القرون الأخيرة حيث جرت مجموعة من المراجعات الأساسية التي قد تسمح للمجتمع المغربي أن يخرج من حالة الشلل إلى حالة البناء العقلاني بمختلف جزيئاته.
وأكد الزموري على أن أهمية عنصر الرحلة إلى أوروبا في تكوين صورة عنها لا يقتصر على البعد الترفيهي وإنما يشمل بعدها الحضاري والفكري الذي ساهم في إعادة بلورة الصورة باعتبارها لقاء تعارف بين الحضارات.
وفي مداخلته، قال سعيد يقطين الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط إن التعاطي مع موضوع الصورة هيمن عليه الصمت الآيديولوجي أكثر منه المعرفي الأدبي والعلمي، وأضاف أن اللهجة المغربية مشحونة بتجليات التمايز بين الثقافتين.
وعد يقطين أن البعد الجغرافي عنصر متحكم في طبيعة العلاقة المغربية - الأوروبية باعتبارها غير ثابتة وإنما متحركة بين التلف والتصادم قائلا: «نحن لا ننتج المعرفة وجامعاتنا لا تنتج المعرفة، نحن ننتج مثقفين يتحدثون في كل شيء».
من جهته، قال عز العرب معنينو أستاذ مختص بالمخطوطات إن المغاربة لم يحسنوا التعامل مع التدوينات التي كانت تقوم بها البعثات إلى أوروبا ولم يدونوها، وانتظر المغرب إلى أن جرى تأسيس الأكاديميات العلمية لتبدأ في وقت متأخر جدا في البحث عن الأرشيف وتحقيقه لمحاولة تعميمه ونشره على شكل دراسات.
وبالموازاة مع الندوة الفكرية، عرضت مجموعة من الأفلام الوثائقية في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان أهمها فيلم «ناجي العلي في حضن حنظلة» للمخرج الفلسطيني فائق جرادة، ويرصد فيه رحلة أعمال العلي الفنية التي أزعجت إسرائيل مما أدى إلى اغتياله، ورغم ذلك ظلت رسوماته مادة فنية وجمالية وإنسانية أصر من خلالها على رفض كل أشكال الظلم في حق شعب يريد ممارسة حقه في الحياة والحلم والكتابة. ويكشف العمل رحلة جميلة وممتعة وتاريخية للقضية من زاوية إنسانية جمالية. وفي إطار المسابقة الرسمية كذلك عرض فيلم «غوغل دماغ العالم» للمخرج الإسباني بن لويس يحكي عن فكرة سعي غوغل لتكوين وجمع قاعدة للكتب عبر العالم في نظامه، ناقش فيه المخرج إيجابيات الفكرة في تقديم المعلومة وإمكانية قراءة الكتب عبر غوغل بطريقة سهلة لتساهم في نشر المعرفة، ومن جهة أخرى سلبيات هذه العملية فيما يتعلق بعدم مراعاة حقوق النشر لمؤلفي الكتب من طرف غوغل وكذا التخوف من فكرة المؤامرة على أساس أن العملية لديها أهداف أخرى خفية.
وتلا ذلك فيلم «أذان في مالطة» للمخرج المغربي رشيد القاسمي، وهو فيلم وثائقي يستغل جمال اللغة العربية، وعبق التاريخ الذي يربط مالطة بحقبة عربية مزدهرة ويبحر في رحلة للتعرف على تاريخ هذه الجزيرة المجهولة، حيث تسافر «حنين» الطالبة بمعهد اللغات بباريس لمالطة، وتبدأ رحلتها من أكثر الأماكن التي تشهد على الماضي العربي والإسلامي لمالطة، وهو المسجد الكبير في مدينة «فاليتا» الذي يجتمع فيه المسلمون كل يوم جمعة خلال صلاة الجمعة، وهناك تلتقي بعدد من الأشخاص المطلعين على تاريخ المدينة.
وبالإضافة إلى ذلك، عرض كل من فيلم «سجناء كانون» للمخرجة الفرنسية روزير كوريلا، وفيلم «ابن خلدون» للمخرج الجزائري شركي خروبي، وفيلم «أوروبا وتشيرنوبل» للمخرجة الفرنسية دومينيك كروس.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)