«استراتيجية الاستنزاف»... عمليات شكلية لـ«خلايا داعش»

عبر التخفي وزرع العبوات الناسفة والهجمات الخاطفة

عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
TT

«استراتيجية الاستنزاف»... عمليات شكلية لـ«خلايا داعش»

عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)
عناصر «داعش» (من أحد المواقع التابعة للتنظيم)

هزائم «داعش» الإرهابي، هل ستدفعه لـ«استراتيجية الاستنزاف» كرهان على العمليات الخاطفة؟ سؤال ما زال يطرحه المشهد مع ازدياد تهاوي أركان التنظيم. فملامح الإجابة عن هذا التساؤل بدأت تظهر في أعقاب ما أعلنته مؤسسة «البتار» الإعلامية التابعة للتنظيم، عن انطلاق ما يعرف بـ«غزوات الاستنزاف» في الأول من يونيو (حزيران) الجاري، وهو ما يعد ترجمة لحديث أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، الأخير، حينما دعا عناصره عبر شبكة «الفرقان» لمواصلة القتال، وإضعاف الدول، عبر استنزاف قواتها الأمنية.
واعتبر مراقبون أن تحريض البغدادي بداية مرحلة تحول جديدة في التنظيم، ترتكز على منهجية «الخلايا النائمة»، يتصدر مشهدها «الذئاب المنفردة»، بعيداً عن الوجود الميداني على الأرض.
مختصون وباحثون مصريون أكدوا أن «هزائم التنظيم سوف تدفعه إلى (ضربات خاطفة) قد تكون غير مؤثرة؛ لكنها ستؤكد أنه موجود». وقال الباحثون والمختصون لـ«الشرق الأوسط»، إن «(استراتيجية الاستنزاف) تشبه استراتيجية (النكاية والإنهاك) التي نفذها التنظيم من قبل خلال فترات نفوذه، معتمداً على الهجمات الخاطفة»، لافتين إلى أن «التنظيم يُحاول الانتشار في ساحات أخرى جديدة، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى (حرب العصابات) المتعددة الأشكال».
ما قاله المختصون اتسق مع دراسة لـ«مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة»، التابع لدار الإفتاء المصرية، حذرت من أن «(داعش) لجأ في الآونة الأخيرة إلى استراتيجية تسمى (غزوات الاستنزاف)». وقالت إن التنظيم بات عاجزاً، مما أدى إلى دخوله في مرحلة من الارتباك وعدم القدرة على التماسك، وهو الأمر الذي دفعه لتبني «استراتيجية الاستنزاف»؛ خصوصاً في مواجهة القوات الأمنية للدول.

حيل قديمة

وذكرت دراسة «الإفتاء» التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، أن «داعش» نفذ هجومي العريش المصرية ودرنة الليبية بالاعتماد على هذه الاستراتيجية؛ حيث استهدف القوات الأمنية، بالإضافة إلى الهجمات الأخرى التي ضربت مواقع عسكرية في سوريا والعراق.
وتبنى «داعش» مطلع يونيو الجاري، هجوماً استهدف حاجزاً أمنياً تابعاً لقوات الشرطة في مصر، يُعرف باسم حاجز (14 بطل) في العريش بسيناء، ما أسفر عن مقتل 8 أفراد من الشرطة، تبع ذلك مقتل أكثر من 27 من منفذي الهجوم الإرهابي. كما أعلن التنظيم مطلع هذا الشهر أيضاً مسؤوليته عن تفجير سيارتين ملغومتين في وحدة عسكرية تابعة لقوات الجيش الوطني الليبي في درنة، ما أدى إلى إصابة 18 شخصاً.
وأوضحت دراسة «الإفتاء» أن استراتيجية «غزوات الاستنزاف» ليست بجديدة، فقد سبق للتنظيم اتباعها تحت اسم «النكاية والإنهاك» في المناطق التي لا يستطيع التنظيم أن يُسيطر فيها على الأرض بشكل كامل، نظراً لوجود قوات مُسلحة قوية وقادرة على إلحاق الهزيمة بعناصره. فعوضاً عن السيطرة على الأرض، يقوم التنظيم بعمليات متنوعة باستهداف قطاعات مختلفة على مساحات واسعة، معتمداً على أسلوب الهجمات الخاطفة، والاختفاء في الصحراء؛ الأمر الذي يُنهك قوى الجيوش والدول التي تتعرض لتلك الأساليب.
وتعتمد استراتيجية «غزوات الاستنزاف» لدى التنظيم، بحسب الدراسة المصرية، على عدة وسائل، أهمها، تسلل «الانتحاريين» بين صفوف القوات النظامية، وزرع العبوات الناسفة على الطرق وبالقرب من المناطق المستهدفة، فضلاً عن الهجمات الخاطفة على نقاط أمنية محددة، ثم الانسحاب والتخفي بين المدنيين، أو في الظهير الصحراوي والجبلي، لافتة إلى أنه «يقوم بتلك الأعمال (خلايا عنقودية) صغيرة يرأسها أحد عناصر التنظيم، ويكون على اتصال مباشر بقادة التنظيم، لتحديد الأهداف المتوقعة والطرق الملائمة للهجوم عليها».

تجنيد عناصر

وأضافت دراسة مرصد «الإفتاء»، أن «جزءاً من تطبيق استراتيجية (غزوات الاستنزاف) يقوم على أساس التشتيت، من خلال تنفيذ عمليات شكلية على مواقع متعددة، في حين يقوم الفريق الأكبر بالهجوم على الموقع المُستهدف، وهو ما أفصح عنه التنظيم في صحيفته الناطقة باسمه (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الخلايا النائمة)».
وقال الدكتور إبراهيم نجم، مدير «مرصد دار الإفتاء» في مصر، إن «(داعش) عمل على استراتيجية الانسحاب الممنهج من أماكن مُعينة لصالح مُحاولة التمدد في مناطق أخرى، وتبنى أنماطاً جديدة من الأساليب الإرهابية، ويسعى للانتشار في مساحات أخرى، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى أساليب (حرب العصابات) المتعددة الأشكال، والتي من بينها (استنزاف الجيوش)، ويطلق عليها (غزوات الاستنزاف)».
في حين أكد باحثون في دار الإفتاء، أنه من المعروف أن «داعش» والتنظيمات الأخرى التي على إطاره الفكري نفسه تمتلك أساليب «حرب العصابات»، وهذا النمط يُستخدم كمحاولة للتصدي للعمليات العسكرية والقدرات العالية التي تمتلكها الجيوش، خصوصاً أنه يقوم على أساليب وعمليات خاطفة تعتمد على سرعة الكر والفر.
ويرى المراقبون أن تبني استراتيجية «غزوات الاستنزاف» تقوم على مقولة مفادها أن «الجيوش إذا انتشرت فقدت الفاعلية، وإذا تمركزت فقدت السيطرة»، ولذلك تقوم التنظيمات الموالية لـ«داعش» بإنهاك الجيوش والقوات الأمنية بضربات متلاحقة بغرض التشتيت.
وعن سمات استراتيجية «غزوات الاستنزاف»، قال نجم: «تعتبر هي محور العمل بالنسبة للتنظيم؛ حيث تجمع ذلك عبر استخدام مزيج من العمليات والأساليب الإرهابية، وتقوم على المشاغلة؛ إذ تعتمد على الهجوم على مواقع عسكرية أقل أهمية في وقت واحد، بهدف إشغال القوات الأمنية عن الهدف الأساسي للهجوم، وهو ما أشارت إليه صحيفة (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الانتحاريين)».

دستور الإنهاك

وجدير بالذكر أن «داعش» روج لتلك الآلية في كتاب «إدارة التوحش» لأبو بكر ناجي، أحد أبرز مرجعيات التنظيم، إذ تناول الكتاب هذا الجزء تحت اسم «النكاية والإرهاب»، والتي تقوم على أساس إدخال الجيوش في معركة استنزاف طويلة المدى، عبر أساليب كالاغتيالات، وزرع المتفجرات، والعميات الانتحارية، وغيرها.
ويوضح كتاب «إدارة التوحش» في فصله السابع، بحسب المؤلف، أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الشباب، وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً... وأعلى درجات التبرير هو تبرير العملية نفسها بنفسها».
وقال خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية في مصر، إن «(داعش) سوف يُعيد ما أخذه من كتاب (إدارة التوحش)، وهو بث الرعب في الطرف الآخر، وإحياء دستور إنهاك العالم، عبر ضربات خاطفة، قد تكون غير مؤثرة عالمياً؛ لكنها سوف تُعزز لدى عناصره أنه موجود»، مؤكداً أن «(النكاية والإنهاك) تعتمد على توسيع ساحة الصراع وفتح بؤر جديدة، وتحويل أنظار التحالفات الدولية الموجهة ضده إلى أماكن مختلفة من العالم، وسبق أن نفذ التنظيم كثيراً من العمليات في عدد من الدول العربية والأفريقية والأوروبية والآسيوية، وبشكل متزامن».
من جهته، قال نجم: «ازداد في الآونة الأخيرة الحديث عن انتشار (خلايا نائمة) تابعة للتنظيم في سوريا والعراق وليبيا ومناطق أخرى حول العالم، وخصوصاً تلك التي تشهد صراعات. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التنظيم يرى في (خلاياه النائمة) أنها ستكون نقطة انطلاق نحو تنفيذ عمليات إرهابية جديدة. فقد عمل التنظيم على تقسيم عناصره إلى مجموعات قتالية تنتشر في القرى والمدن، وفقاً لطريقة قيادة غير مركزية، يكون على كل مجموعة قيادة تتولى التعليمات والتخطيط، وفقاً لقواعد متفق عليها لتنفيذ عمليات إرهابية محددة الأهداف».
وفي مايو (أيار) الماضي، نشرت صحيفة «النبأ» أساليب «الحرب غير النظامية» التي يستهدف التنظيم عبرها توسيع نطاق نشاطه. وقال مراقبون إن الصحيفة شجعت أتباع التنظيم على تبني طرق خاصة بـ«الحروب غير النظامية»، ونشرت تعليمات تفصيلية حول كيفية تنفيذ العمليات.
وأكد أحمد زغلول، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية بمصر، أن «(حرب العصابات) تحقق للتنظيم رصيد أنه موجود على أرض الواقع، فهي تحدث خلال فترة زمنية قصيرة، وتُسهل على التنظيم أن يُنفذ تفجيرات أو خطفاً أو هجمات على الأكمنة الأمنية، وغيرها من العمليات الخاطفة التي تستهدف الدول».
وقال الباحثون في «الإفتاء»: «من المُرجح أن (داعش) سيخوض معارك طويلة الأمد بالاعتماد على هذه الاستراتيجية، وغيرها من الاستراتيجيات، كـ(خلايا التماسيح)، و(حرب إسقاط المدن) التي هي جزء أساسي من استراتيجية (غزوات الاستنزاف)... فالتنظيم عبر هذه الاستراتيجية استغل الأحداث التي تمر بها ليبيا في شن حروب ضد مواقع عسكرية ومدن في الجنوب، يتبع كل هذه العمليات تغطيات إعلامية في مواقعه، لرفع معنويات عناصره و(خلاياه النائمة)».
وحول أساليب مواجهة استراتيجية «داعش»، قال الدكتور إبراهيم نجم، إن التصدي لهذه الاستراتيجية، وما يُمكن أن يفعله التنظيم من تكتيكات جديدة، يكون بدراسة الخطط المستقبلية لـ«داعش» وعلاقاتها بالآيديولوجية الفكرية للتنظيم، فالتنظيم عادة ما ينشر أفكاره أولاً، ثم يجند الأشخاص، ويرشدهم بعد ذلك نحو العمليات الإرهابية، سواء انتحارية أو ضد أهداف بعينها، أو عمليات عشوائية، مضيفاً: «فضلاً عن ضرورة تكثيف العمليات المعلوماتية للتخلص من (الخلايا النائمة) التي تعتبر هي الركيزة الأساسية في استراتيجية (غزوات الاستنزاف) التي يعتمد عليها التنظيم، فلا تزال بعض خلاياه منتشرة في دول عدة كان قد ضربها التنظيم، ومن الواضح أنه سيعتمد عليها في شن عملياته الإرهابية، وهو ما يُمكن قراءته من حديث البغدادي الأخير، الذي ازدادت بعده عمليات استهداف قوات الأمن في الدول. وأيضاً قد ينتقل التنظيم للاعتماد على أساليب تنظيم (القاعدة) الهجومية، خصوصاً أن هناك جزءاً من عناصر التنظيم، كانوا على انتماء فكري لـ(القاعدة)، وعلى دراية بأساليبه الإرهابية».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.