هزائم «داعش» الإرهابي، هل ستدفعه لـ«استراتيجية الاستنزاف» كرهان على العمليات الخاطفة؟ سؤال ما زال يطرحه المشهد مع ازدياد تهاوي أركان التنظيم. فملامح الإجابة عن هذا التساؤل بدأت تظهر في أعقاب ما أعلنته مؤسسة «البتار» الإعلامية التابعة للتنظيم، عن انطلاق ما يعرف بـ«غزوات الاستنزاف» في الأول من يونيو (حزيران) الجاري، وهو ما يعد ترجمة لحديث أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، الأخير، حينما دعا عناصره عبر شبكة «الفرقان» لمواصلة القتال، وإضعاف الدول، عبر استنزاف قواتها الأمنية.
واعتبر مراقبون أن تحريض البغدادي بداية مرحلة تحول جديدة في التنظيم، ترتكز على منهجية «الخلايا النائمة»، يتصدر مشهدها «الذئاب المنفردة»، بعيداً عن الوجود الميداني على الأرض.
مختصون وباحثون مصريون أكدوا أن «هزائم التنظيم سوف تدفعه إلى (ضربات خاطفة) قد تكون غير مؤثرة؛ لكنها ستؤكد أنه موجود». وقال الباحثون والمختصون لـ«الشرق الأوسط»، إن «(استراتيجية الاستنزاف) تشبه استراتيجية (النكاية والإنهاك) التي نفذها التنظيم من قبل خلال فترات نفوذه، معتمداً على الهجمات الخاطفة»، لافتين إلى أن «التنظيم يُحاول الانتشار في ساحات أخرى جديدة، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى (حرب العصابات) المتعددة الأشكال».
ما قاله المختصون اتسق مع دراسة لـ«مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة»، التابع لدار الإفتاء المصرية، حذرت من أن «(داعش) لجأ في الآونة الأخيرة إلى استراتيجية تسمى (غزوات الاستنزاف)». وقالت إن التنظيم بات عاجزاً، مما أدى إلى دخوله في مرحلة من الارتباك وعدم القدرة على التماسك، وهو الأمر الذي دفعه لتبني «استراتيجية الاستنزاف»؛ خصوصاً في مواجهة القوات الأمنية للدول.
حيل قديمة
وذكرت دراسة «الإفتاء» التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، أن «داعش» نفذ هجومي العريش المصرية ودرنة الليبية بالاعتماد على هذه الاستراتيجية؛ حيث استهدف القوات الأمنية، بالإضافة إلى الهجمات الأخرى التي ضربت مواقع عسكرية في سوريا والعراق.
وتبنى «داعش» مطلع يونيو الجاري، هجوماً استهدف حاجزاً أمنياً تابعاً لقوات الشرطة في مصر، يُعرف باسم حاجز (14 بطل) في العريش بسيناء، ما أسفر عن مقتل 8 أفراد من الشرطة، تبع ذلك مقتل أكثر من 27 من منفذي الهجوم الإرهابي. كما أعلن التنظيم مطلع هذا الشهر أيضاً مسؤوليته عن تفجير سيارتين ملغومتين في وحدة عسكرية تابعة لقوات الجيش الوطني الليبي في درنة، ما أدى إلى إصابة 18 شخصاً.
وأوضحت دراسة «الإفتاء» أن استراتيجية «غزوات الاستنزاف» ليست بجديدة، فقد سبق للتنظيم اتباعها تحت اسم «النكاية والإنهاك» في المناطق التي لا يستطيع التنظيم أن يُسيطر فيها على الأرض بشكل كامل، نظراً لوجود قوات مُسلحة قوية وقادرة على إلحاق الهزيمة بعناصره. فعوضاً عن السيطرة على الأرض، يقوم التنظيم بعمليات متنوعة باستهداف قطاعات مختلفة على مساحات واسعة، معتمداً على أسلوب الهجمات الخاطفة، والاختفاء في الصحراء؛ الأمر الذي يُنهك قوى الجيوش والدول التي تتعرض لتلك الأساليب.
وتعتمد استراتيجية «غزوات الاستنزاف» لدى التنظيم، بحسب الدراسة المصرية، على عدة وسائل، أهمها، تسلل «الانتحاريين» بين صفوف القوات النظامية، وزرع العبوات الناسفة على الطرق وبالقرب من المناطق المستهدفة، فضلاً عن الهجمات الخاطفة على نقاط أمنية محددة، ثم الانسحاب والتخفي بين المدنيين، أو في الظهير الصحراوي والجبلي، لافتة إلى أنه «يقوم بتلك الأعمال (خلايا عنقودية) صغيرة يرأسها أحد عناصر التنظيم، ويكون على اتصال مباشر بقادة التنظيم، لتحديد الأهداف المتوقعة والطرق الملائمة للهجوم عليها».
تجنيد عناصر
وأضافت دراسة مرصد «الإفتاء»، أن «جزءاً من تطبيق استراتيجية (غزوات الاستنزاف) يقوم على أساس التشتيت، من خلال تنفيذ عمليات شكلية على مواقع متعددة، في حين يقوم الفريق الأكبر بالهجوم على الموقع المُستهدف، وهو ما أفصح عنه التنظيم في صحيفته الناطقة باسمه (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الخلايا النائمة)».
وقال الدكتور إبراهيم نجم، مدير «مرصد دار الإفتاء» في مصر، إن «(داعش) عمل على استراتيجية الانسحاب الممنهج من أماكن مُعينة لصالح مُحاولة التمدد في مناطق أخرى، وتبنى أنماطاً جديدة من الأساليب الإرهابية، ويسعى للانتشار في مساحات أخرى، ليس فقط لتنفيذ عمليات إرهابية؛ بل لتجنيد مُقاتلين جُدد، وهو الأمر الذي دفعه إلى أساليب (حرب العصابات) المتعددة الأشكال، والتي من بينها (استنزاف الجيوش)، ويطلق عليها (غزوات الاستنزاف)».
في حين أكد باحثون في دار الإفتاء، أنه من المعروف أن «داعش» والتنظيمات الأخرى التي على إطاره الفكري نفسه تمتلك أساليب «حرب العصابات»، وهذا النمط يُستخدم كمحاولة للتصدي للعمليات العسكرية والقدرات العالية التي تمتلكها الجيوش، خصوصاً أنه يقوم على أساليب وعمليات خاطفة تعتمد على سرعة الكر والفر.
ويرى المراقبون أن تبني استراتيجية «غزوات الاستنزاف» تقوم على مقولة مفادها أن «الجيوش إذا انتشرت فقدت الفاعلية، وإذا تمركزت فقدت السيطرة»، ولذلك تقوم التنظيمات الموالية لـ«داعش» بإنهاك الجيوش والقوات الأمنية بضربات متلاحقة بغرض التشتيت.
وعن سمات استراتيجية «غزوات الاستنزاف»، قال نجم: «تعتبر هي محور العمل بالنسبة للتنظيم؛ حيث تجمع ذلك عبر استخدام مزيج من العمليات والأساليب الإرهابية، وتقوم على المشاغلة؛ إذ تعتمد على الهجوم على مواقع عسكرية أقل أهمية في وقت واحد، بهدف إشغال القوات الأمنية عن الهدف الأساسي للهجوم، وهو ما أشارت إليه صحيفة (النبأ)، وهو تكتيك يكشف خطورة (الانتحاريين)».
دستور الإنهاك
وجدير بالذكر أن «داعش» روج لتلك الآلية في كتاب «إدارة التوحش» لأبو بكر ناجي، أحد أبرز مرجعيات التنظيم، إذ تناول الكتاب هذا الجزء تحت اسم «النكاية والإرهاب»، والتي تقوم على أساس إدخال الجيوش في معركة استنزاف طويلة المدى، عبر أساليب كالاغتيالات، وزرع المتفجرات، والعميات الانتحارية، وغيرها.
ويوضح كتاب «إدارة التوحش» في فصله السابع، بحسب المؤلف، أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الشباب، وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعاً وعقلاً... وأعلى درجات التبرير هو تبرير العملية نفسها بنفسها».
وقال خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية في مصر، إن «(داعش) سوف يُعيد ما أخذه من كتاب (إدارة التوحش)، وهو بث الرعب في الطرف الآخر، وإحياء دستور إنهاك العالم، عبر ضربات خاطفة، قد تكون غير مؤثرة عالمياً؛ لكنها سوف تُعزز لدى عناصره أنه موجود»، مؤكداً أن «(النكاية والإنهاك) تعتمد على توسيع ساحة الصراع وفتح بؤر جديدة، وتحويل أنظار التحالفات الدولية الموجهة ضده إلى أماكن مختلفة من العالم، وسبق أن نفذ التنظيم كثيراً من العمليات في عدد من الدول العربية والأفريقية والأوروبية والآسيوية، وبشكل متزامن».
من جهته، قال نجم: «ازداد في الآونة الأخيرة الحديث عن انتشار (خلايا نائمة) تابعة للتنظيم في سوريا والعراق وليبيا ومناطق أخرى حول العالم، وخصوصاً تلك التي تشهد صراعات. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التنظيم يرى في (خلاياه النائمة) أنها ستكون نقطة انطلاق نحو تنفيذ عمليات إرهابية جديدة. فقد عمل التنظيم على تقسيم عناصره إلى مجموعات قتالية تنتشر في القرى والمدن، وفقاً لطريقة قيادة غير مركزية، يكون على كل مجموعة قيادة تتولى التعليمات والتخطيط، وفقاً لقواعد متفق عليها لتنفيذ عمليات إرهابية محددة الأهداف».
وفي مايو (أيار) الماضي، نشرت صحيفة «النبأ» أساليب «الحرب غير النظامية» التي يستهدف التنظيم عبرها توسيع نطاق نشاطه. وقال مراقبون إن الصحيفة شجعت أتباع التنظيم على تبني طرق خاصة بـ«الحروب غير النظامية»، ونشرت تعليمات تفصيلية حول كيفية تنفيذ العمليات.
وأكد أحمد زغلول، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية بمصر، أن «(حرب العصابات) تحقق للتنظيم رصيد أنه موجود على أرض الواقع، فهي تحدث خلال فترة زمنية قصيرة، وتُسهل على التنظيم أن يُنفذ تفجيرات أو خطفاً أو هجمات على الأكمنة الأمنية، وغيرها من العمليات الخاطفة التي تستهدف الدول».
وقال الباحثون في «الإفتاء»: «من المُرجح أن (داعش) سيخوض معارك طويلة الأمد بالاعتماد على هذه الاستراتيجية، وغيرها من الاستراتيجيات، كـ(خلايا التماسيح)، و(حرب إسقاط المدن) التي هي جزء أساسي من استراتيجية (غزوات الاستنزاف)... فالتنظيم عبر هذه الاستراتيجية استغل الأحداث التي تمر بها ليبيا في شن حروب ضد مواقع عسكرية ومدن في الجنوب، يتبع كل هذه العمليات تغطيات إعلامية في مواقعه، لرفع معنويات عناصره و(خلاياه النائمة)».
وحول أساليب مواجهة استراتيجية «داعش»، قال الدكتور إبراهيم نجم، إن التصدي لهذه الاستراتيجية، وما يُمكن أن يفعله التنظيم من تكتيكات جديدة، يكون بدراسة الخطط المستقبلية لـ«داعش» وعلاقاتها بالآيديولوجية الفكرية للتنظيم، فالتنظيم عادة ما ينشر أفكاره أولاً، ثم يجند الأشخاص، ويرشدهم بعد ذلك نحو العمليات الإرهابية، سواء انتحارية أو ضد أهداف بعينها، أو عمليات عشوائية، مضيفاً: «فضلاً عن ضرورة تكثيف العمليات المعلوماتية للتخلص من (الخلايا النائمة) التي تعتبر هي الركيزة الأساسية في استراتيجية (غزوات الاستنزاف) التي يعتمد عليها التنظيم، فلا تزال بعض خلاياه منتشرة في دول عدة كان قد ضربها التنظيم، ومن الواضح أنه سيعتمد عليها في شن عملياته الإرهابية، وهو ما يُمكن قراءته من حديث البغدادي الأخير، الذي ازدادت بعده عمليات استهداف قوات الأمن في الدول. وأيضاً قد ينتقل التنظيم للاعتماد على أساليب تنظيم (القاعدة) الهجومية، خصوصاً أن هناك جزءاً من عناصر التنظيم، كانوا على انتماء فكري لـ(القاعدة)، وعلى دراية بأساليبه الإرهابية».