كانت الأسرة المغولية واحدة من أقوى السلالات الحاكمة في حقبة العصور الوسطى في الهند، وارتبط المغول، بسبب ذلك، ارتباطا وثيقا لا ينفصل عن تاريخ الهند وثقافتها، من الفنون والثقافات إلى الهندسة المعمارية، لقد تركوا في هذه البلاد إرثا تاريخيا هائلا يستمر ويعيش حتى اليوم.
جلب المغول معهم تاريخا غنيا من فنون الطعام إلى الهند، وأصبح هذا التأثير من الأجزاء المثيرة للاهتمام في ثقافة الطعام في شبه القارة الهندية. ويرجع تاريخ المطبخ المغولي في الهند إلى 5 قرون مضت مع آثار مطابخ بلاد ما بين النهرين، والمطبخ الفارسي القديم، والمطبخ الشرق أوسطي، والمطبخ الهندي كذلك. وأدمج الطهاة المغول بنجاح باهر التأثيرات الأجنبية مع المكونات الواردة من كشمير، والبنجاب، وديكان.
ينعكس شغف مؤرخة الغذاء سلمى يوسف حسين بمعرفة المزيد عن المطبخ المغولي الهندي عن تأليفها لكتاب يعتبر من الأعمال الرائعة الذي ينقل القارئ إلى قلب المطابخ الملكية المغولية وإحياء المآدب الفخمة في بلاط الإمبراطور شاه جاهان، والذي بلغ المطبخ المغولي في عهده ذروة الإبداع والابتكار في فنون إعداد الطعام. وتسجل سلمى حسين الوصفات من مطبخ الإمبراطور شاه جاهان في كتابها الجديد بعنوان «العيد المغولي» - إصدار عام 2019 - وهو عبارة عن استنساخ تدويني لكتابها السابق بعنوان «نسخة شاه جاهاني» المحفوظ في المكتبة البريطانية في لندن.
وسلمى حسين هي خريجة الدراسات العليا في اللغة والأدب الفارسي. وكانت أولى وظائفها بعد التخرج تضمنت ترجمة المخطوطات الفارسية المكتوبة بخط اليد في الأرشيف الوطني لعام 1964.
- تاريخ المطبخ المغولي
عندما وصل بابور، مؤسس الحكم المغولي، إلى الهند قادما من فرغانة في أوزبكستان الحالية، جلب معه أطباق البيلاف والكباب المحببة إلى قلبه في موطنه. ومع ذلك، كان يشكو من قلة بطيخ المسك، والعنب، والفواكه الأخرى المتوفرة بكثرة في موطنه الأفغاني. وينسب الفضل إلى نجله، همايون، في جلب التأثير الفارسي الراقي إلى المطبخ الهندي، وذلك بعد سنوات قضاها في المنفى في بلاد فارس، إثر هزيمته العسكرية على أيدي شير شاه سوري.
وبحلول الوقت الذي كان الحفيد المغولي الأكبر شاه جاهان يعتلي عرش البلاد، كانت الأطباق الخفيفة التي كان أجداده يستمتعون بتناولها قد اكتسبت حرارة التوابل والفلفل القادم إلى الهند عبر رحلات التجار البرتغاليين إلى البلاد، فضلا عن الطماطم، وكميات التوابل الهندية التقليدية.
تشير الدلائل التاريخية إلى أن المطبخ المغولي قد بدأ في التطور الحقيقي في عهد الإمبراطور أكبر. وبفضل كثير من تحالفاته الزواجية، وفد إليه الطهاة من كل أرجاء الهند ليدمجوا أساليبهم في الطهي مع المذاقات والنكهات الفارسية الرائعة. وبدأ الفجر الفضي للمطبخ المغولي في الهند مع الإمبراطور شاه جاهان، والذي يعتبر من أعظم ملوك المغول، وكان الخامس على ترتيب حكام المغول في الهند. وحكم الإمبراطورية مترامية الأطراف التي خلفها جده الإمبراطور أكبر من عام 1628 إلى 1658.
وصارت دلهي وقتذاك ملاذا للمطبخ المغولي المتحضر، والمتطور، بما فيه من ذوق وأناقة ورقي. وبحلول أوائل عام 1730، كانت المدينة قد استوعبت مختلف العناصر من المناطق المجاورة، وخبرت امتزاجا عميقا بالسلالات الدولية والوطنية، فضلا عن تبادل الأفكار، والأعراف، والأطعمة.
كانت العلاقات البرتغالية المغولية قد نشأت بالفعل في تلك الأثناء، ومن ثم شهدت المطابخ الإمبراطورية، إلى جانب المكونات الهندية، عنصرا مضافا من جلب التجار البرتغاليين، ألا وهو الفلفل الحار. وكان الفلفل الحار يشبه إلى حد كبير الفلفل الهندي الطويل، الذي كان مستخدما بالفعل، وبالتالي لم يبد غير مألوف بالنسبة إلى طهاة المطبخ الملكي المغولي، غير أنه يختلف في مذاقه الحار للغاية. وظهرت أيضا، خلال تلك الفترة، الخضراوات مثل البطاطا، والطماطم، ومن ثم صار طعام «القلعة الحمراء»، وهي مقر حكم المغول في دلهي القديمة، والتي كانت معروفة باسم «شاه جاهان باد»، غنيا بالألوان، وحارا في المذاق، ومتنوعا عند مقارنته بالطعام الخفيف الذي عرفه الأسلاف الأوائل. وتزينت الموائد المغولية بأطعمة متنوعة مثل القورمة، والقلية، والبيلاف، والكباب، والخضراوات من شتى أنواعها، فضلا عن الكعكات والحلويات الأوروبية.
- العرض والأساسيات
كان طهي وتقديم الطعام في المطابخ الملكية المغولية عبارة عن حالة عارمة من الألوان، والعطور، والتجارب، وآداب المائدة، والبروتوكولات.
وعلى غرار الأسلاف، استمتع الإمبراطور شاه جاهان كثيرا بالفاكهة الطازجة. ومنح المغول للهند مجموعة متنوعة من الفواكه الجديدة مثل الكرز، والمشمش، والعنب، والبطيخ، ولكن عشقهم للمانجو لم يكن يضاهيه عشق. وكان ولع شاه جاهان بالمانجو كبيرا للغاية لدرجة أنه عاقب نجله، أورنكزيب، بحبسه في القصر لأنه احتكر كل ثمار المانجو في القصر لنفسه! وكان من حب شاه جاهان الشديد للمانجو أن ابتكر المطبخ الملكي وصفات مبدعة لإرضاء شهية الإمبراطور.
ويكشف كتاب «نسخة شاه جاهاني» عن استخدام كميات قليلة من التوابل في الطهي. وتم استيراد كميات من اللوز، والفستق، والجوز، والمشمش، والخوخ، والزبيب، والزعفران على طول الطرق الجديدة التي شيدت بغرض تسهيل التجارة. وكانت المذاقات الحلوة والمالحة التي يتمتع بها المغول واضحة للغاية من خلال اختيار مختلف الوصفات الواردة في المخطوطة. وكان الاستخدام المكثف للمكسرات، والأوراق الذهبية والفضية، والزعفران، والأعشاب العطرية مما أعطى للطعام مذاقه الشهي الرائع.
كانت معظم الأطباق المذكورة في المخطوطة تُحضر بكميات كبيرة، وذلك لتلبية طلبات كثير من الضيوف وأفراد الأسرة، ولذلك كانت كميات المكونات هائلة.
ولم يكن الطهي فحسب، وإنما كانت الطريقة التي يقدم بها الطعام من الأمور المثيرة للاهتمام. وكان الطعام يُقدم في أطباق مصنوعة من الذهب والفضة المرصعة بالأحجار الكريمة، ومن اليشم، الذي كان أثره واضحا في الكشف عن السموم. وكانوا يتناولون الطعام على الأرض، التي بُسطت عليها صحائف من الجلد المغطى بالأقمشة القطنية التي تحمي السجاد باهظ الثمن أسفلها. وكان يطلق عليها اسم «داستارخوان».
وكان من المعتاد أن يخصص الإمبراطور جزءا من الطعام إلى الفقراء قبل تناوله. وكان الإمبراطور يبدأ وينهي طعامه بالصلوات. وكانت المأدبة تستمر لساعات حيث كان الإمبراطور يفضل الاستمتاع بتناول الطعام، وكان يمضي الساعات الطوال في «داستارخوان».
ولم يكن الإمبراطور يكلف أي أحد أدنى من رئيس الوزراء للاعتناء بطعامه، والذي كان يستشير الحكيم أو (الطبيب الملكي)، والذي كان يقرر قائمة الطعام وفقا للحالة المزاجية للملك، ونمط نومه، وما هو مناسب للعقل والفكر، مع التأكد من تضمين المكونات ذات الفوائد الطبية. على سبيل المثال، كانت كل حبة من الأرز مغلفة بالورق الفضي الذي يساعد على الهضم.
وهناك رواية مسجلة لمأدبة أعدها عساف خان، وزير الإمبراطور، أثناء حكم الإمبراطور جاهانغير السابق على حكم شاه جاهان، على الرغم من أنه لم يُسمح لأي شخص من الخارج أن يشاهد الإمبراطور أثناء تناوله للطعام، فإن أحد صبيان القصر تمكن من إدخال الراهب البرتغالي «فريار سيباستيان مانريكي» متسللا إلى مخدع حريم الإمبراطور لمشاهدته وهو يتناول طعامه.
بمجرد تحديد قائمة الطعام الملكية، ينطلق فريق الطهاة في المطبخ - والذين يصل عددهم إلى بضع مئات على الأقل - إلى العمل فورا. ونظرا لأنه يتم تقديم عدد كبير من الأطباق في كل وجبة، يقوم صف طويل من العمال في المطبخ بمهام التنظيف، والغسيل، والطحن. وكان الطعام يُطهى بمياه الأمطار الممزوجة بالماء المجلوب من نهر الغانغ للحصول على أفضل مذاق ممكن. ولم يتعلق الأمر بالطهي وإنما بطريقة تقديم الطعام.
ومن واقع أبحاث سلمى حسين تمكنت من السفر عبر آسيا الوسطى، بما في ذلك زيارة مدن طشقند، وبخارى، وسمرقند، واكتشفت مدى وجود المعكرونة والباستا في المطبخ المغولي.
ومما يؤسف عليه، كانت السنوات الأخيرة للإمبراطور شاه جاهان غير سعيدة. إذ تم عزله على أيدي نجله أورنكزيب الذي أودعه السجن في قلعة آغرا حيث بقي قيد محبسه قرابة ثماني سنوات حتى وافته المنية في عام 1666. تقول الأساطير إن أورنكزيب سمح بدخول مكون غذائي واحد فقط إلى والده من اختياره، وكان شاه جاهان يختار الحمص. وكان يفضل الحمص بسبب إمكانية طهيه بطرق مختلفة. وحتى اليوم، أحد الأطباق المميزة لمطبخ شمال الهند هو طبق (شاه جاهاني دال)، وهو عبارة عن الحمص المطهو بالكريمة الغنية.
وعند سؤالها عن سبب تأليفها لذلك الكتاب، قالت سلمى حسين: «ذات يوم، كنت أتساءل عن الإرث والتراث اللذين خلفهما لنا المغول. لكن لم يهتم الكثيرون بالتأليف عن الطعام، رغم أن المطبخ المغولي من المطابخ الشهيرة اليوم. وحيث إن هناك كثيرا من الكتب عن الإمبراطور أكبر، وجاهانغير، وشاه جاهان، فلماذا لم يكتب أي شخص عن مخطوطاتهم حول الطعام؟» وفي وقت لاحق، عثرت سلمى حسين على مخطوطة «ألوان النعمات»، وهي عبارة عن مجموعة من الوصفات التي كتبت في عهد الإمبراطور جاهانغير، والتي كانت الركيزة التي استندت إليها في تأليف كتابها الحائز على الجوائز والمعنون «مائدة الإمبراطور».
المغول تركوا كثيراً في الهند... الأهم فن الطعام
كتاب «العيد المغولي» ينقل القارئ إلى قالب المطابخ الملكية
المغول تركوا كثيراً في الهند... الأهم فن الطعام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة