«حرب باردة» وسير شخصية... صراع الفنان الملتزم مع مصيره الغامض

أعمال تنتصر أو تخيب أمل أبطالها

«حرب باردة»
«حرب باردة»
TT

«حرب باردة» وسير شخصية... صراع الفنان الملتزم مع مصيره الغامض

«حرب باردة»
«حرب باردة»

يُتيح فيلم بافيو بافليوكوفسكي الجديد «حرب باردة»، الذي ما زال يعرض بنجاح نوعي في عواصم أوروبية في الوقت الراهن، النظر إلى الوضع المستجد لمثقفين وفنانين يواجهون وضعاً سياسياً يتحكم في مصائرهم.
على غراره، سبق وأن قدّمت السينما أفلاماً عديدة (أحصيت منها 26 فيلماً ما بين منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم)، تتمحور حول موقف الفنان من ظروف قاهرة تحيط به أو يتعرض لها بحكم وضعه المتميّز في المجتمع. ويتمدد المشهد ليضم كتاباً أو حتى أناس عاديين وجدوا أنفسهم في هذا الوضع غير الاعتيادي حيث عليهم الاختيار بين الولاء للنظام أو التعرّض لغضبته. الموقف المحايد يصبح غير آمن وقد ينتهي بعواقب وخيمة.
- قصة حب
«حرب باردة» ينطلق من زاوية خاصّة به لكنها تؤدي إلى ما سبق قوله. هو فيلم ذاتي وإن ليس بيوغرافياً استمدّ المخرج البولندي بافليوكوفسكي بعض ملاحظاته من حياة والديه التي يصفها في حديث له: «أكثر الشخصيات التي التقيتها في حياتي دراماتيكياً. كلاهما قوي، رائع لكنهما كانا كارثة كثنائي». لا يسرد المخرج قصة حياتهما بل يستوحي معالم من تلك الحياة ويطويها تحت مسار درامي مختلف، جاعلاً من الموسيقى جوهر لا العلاقة وحدها بل الفيلم بذاته.
يبدأ بافليوكوفسكي فيلمه أساساً بالغناء والموسيقى الفولكلورية البولندية مقدماً شخصيتين تقومان، سنة 1949. بتسجيل أصوات غنائية بحثاً عن مواهب تُضم إلى حفل جوّال. إنهما إرينا (أغاتا كيوليشا) وفيكتور (توماش كوت). إحدى المغنيات هي شابة اسمها زولا (يوانا كوليغ) التي تأسر اهتمام فيكتور فينتخبها رغم معارضة زميلته. زولا وفيكتور يتحوّلان إلى عشيقين قبل أن يقرر فيكتور الهجرة مودعاً الحياة في بولندا الستالينية هارباً إلى فرنسا حيث الحرية والرقي الفردي الطموح. تلحق زولا به ويتحابان من جديد.
لكن في حين وجد فيكتور نفسه مرتاحاً في موطنه الجديد تقرر زولا العودة إلى حيث تشعر بانتمائها. كانت سابقاً ما شغلت بالها بسؤال حول ماذا ستكون عليه هويتها الشخصية إذا ما تركت وطنها إلى آخر. يفتقدها فيكتور ويلحق بها ويودع السجن مباشرة كونه كان تخلى عن وطنه الأول. هذا قبل أن يتدخل بعض معارفه لدى السلطات فيتم الإفراج عنه. حين خروجه يجد أن زولا ما زالت بانتظاره. يتزوّجان في كنيسة وينتهي الفيلم بهما وهما يأملان في حياة أفضل.
يسرد بافليكوفسكي حكايته هذه على مدى عقدين كافيين للتأكيد على أواصر حب بين شخصيتين صعبتي المراس. كل منهما يحتاج للآخر والآخر يرفض أن يتم تطويعه. لكن الحب ينتصر في النهاية. في الخلفية تكمن الفترة التي سميت بـ«الحرب الباردة» وبعض من برودتها تتوارد في تلك العلاقة بين فيكتور وزولا. إنه صراع قوي بين شخصيتين عاشقتين لكن كل منهما لديه شخصية بمفهوم مختلف وقوي. لكن هذا المرمى السياسي يبقى منضوياً تحت جناح الدراما المساقة بحدتها وجمالياتها.
يضم هذا الصراع مسألة الانتماء طارحاً السؤال عبر فيكتور: ألا يحق للفنان اختيار المكان الملائم لطموحاته؟ في المقابل تكاد شخصية زولا تطرح سؤالاً مواجهاً: «ألا يحق للفنان التمسك بوطنه والبقاء فيه رغم مغريات الطموح الخارجي؟».
للبت في هذا الشأن يميل المخرج إلى دفع قصّة الحب بينهما إلى الأمام. إنه الحب الذي سيقرر مستقبل بطليه. هي لا تريد البقاء في باريس. تترك. هو يلحق بها لأنه يحبها.
- الفنان الرافض
هذا الوضع تناوله المخرج والممثل البريطاني رَف فاينس في فيلمه الأخير «غراب أبيض» سارداً حكاية بطله رودولف نورييف مع نظامه الروسي في السبعينات. راقص الباليه الشهير لا يهمه الحزب ولا السياسة برمتها، لكنه يعلم أن الغرب هو ملجأ آمن بالنسبة إليه إذا ما أصر على التنعم بحريته الفنية.
الفيلم، بذلك، هو سرد بيوغرافي مُنتخب المحطات لسنوات من حياة الراقص المعروف انتهاء بطلبه اللجوء السياسي في فرنسا في الستينات التي جاء لزيارتها. للوصول إلى تحقيق الذات، كان على رودولف (كما قام به أوليغ أوفنكو) بمعرفة ذاته أولاً. وهناك مشاهد استرجاعية وجيزة في الفيلم لحياته صغيراً تحت سطوة أب صارم تتقاطع مع الجزء الأكبر من الأحداث وهي التي تدور في نصفها الأول داخل روسيا عندما أخذ يشق طريقه في دراسة الباليه فارضاً أسلوبه الخاص، وتدور، في نصفها الثاني، حول وصوله إلى باريس ضمن فرقة روسية محتفى بها وقراره البقاء في العاصمة الفرنسية التي تشع ثقافة وحرية ومساواة.
ثلث الساعة الأخيرة كاريكاتيرية إلى حد ولو أنها لا تقصد ذلك، لكن في مواجهة تهديد الفريق الأمني الروسي لرودولف إذا ما عزم طلب اللجوء السياسي يقرر رودولف أن هذا بالتحديد ما يود القيام به. وعليه، وبعض مشاهد توتر تعلو وتهبط حسب مونتاج تقليدي، ينتهي الفيلم بالراقص المعروف وقد اصطحبه البوليس الفرنسي صوب الأمان والمستقبل.
سيرة حياة أخرى لفنان آخر لمعت في سماء مهرجان تورونتو قبل ثلاث سنوات بعنوان «ما وراء الصورة» (Afterimage) للمخرج البولندي أندريه فايدا.
هذا الفيلم الذي يسرد حياة الرسّام البولندي فلاديسلاف سترزمنسكي نموذج رائع لفيلم على الفنان فيه اختيار الجهة التي سينحاز إليها: جهة نفسه أو تلك المناوئة لها. هو أيضاً الفيلم الأخير لمخرجه الذي توفي في العام ذاته عن تسعين سنة قدّم فيها عدداً كبيراً من الأفلام الشائكة حتى خلال الحكم الشيوعي لوطنه.
ينتمي الفيلم إلى تلك المجموعة من الأعمال التي حققها المخرج منذ «رجل من رخام» سنة 1977. نبش فايدا في التاريخ البولندي كما لم يفعل مخرج آخر غيره وسواء اختار «البيوغرافي» كنوع أو وقف وراء أحداث متخيلة إلا أنه دائماً ما عكس رغبته في نزع أقنعة التاريخ وتصحيح الرؤية صوبه. فيلم «بعد الصورة» هو مضي في الطريق ذاته.
هذه المرّة يفحص سيرة حياة الرسام المنتمي إلى «الفن الطليعي» فلادسلاف سترزمنكي (يؤديه بوغوسلاف ليندا) الذي له باع كبير في تعميم نظرية «أونيزم» التكعيبية وتدريسها والذي وجد نفسه مضطهداً من قِـبل المسؤولين فطرد من وظيفته ومن مشغله وحرم من المعونات الاجتماعية ثم مات فقيراً معدماً. في حين لا تأتي السير المنشورة عنه بالكثير مما يرد في الفيلم إلا أنه لا بد من تصديق ما نراه حتى ولو أضاف الكاتب البهارات الضرورية. سيناريو أندريه مولارجيك يبقى مبدئياً وقائماً على فكرة الفنان ضد النظام.
- وجها النزاع
فكرة جيدة بلا ريب، لكن المجري استيفان شابو كان أبرع في معالجة الموضوع نفسه على نحو أكثر تأثيراً وجاذبية في فيلمه «مافيستو» (1981). في ذلك الفيلم أيضاً تعرض لوضع يخص ممثلاً مسرحياً (كلوس ماريا براندور) الذي لم يكن يمانع عطاء النظام النازي الذي بدأ يرعاه ويساعده على بلورة طموحاته داخل بلاده إلى أن أجبر نفسه على النظر إلى أزمته الداخلية الناتجة عن إلقاء القبض على أحد أصدقائه اليهود والبدء بالنظر إلى علاقته العاطفية مع فتاة سمراء.
يستند الفيلم إلى رواية كلاوس مان (عاش ما بين 1906 و1949 ومات منتحراً) ويبرز النقطة المحورية التي تواجه بطله هندريك هوفغن وهو الذي ظن أن في مقدوره إيقاف زحف السلطة فوق جسده ليكتشف أنه لم يعد يستطيع استكمال طموحاته الفنية إلا إذا ما وافق على المزيد من التنازلات الذاتية.
«أنا ممثل فقط...» ردد كثيراً لنفسه وللآخرين محاولاً الفصل بين كيف يرى نفسه وكيف يريدونه أن يكون. لكن الفاصل كان يضيق كلما اضطر للخضوع حتى بات الفاصل بينه وبين مصيره مجرد وجهي نزاع في شخص واحد يسرع لاحتلال مواقع الرفض الأخيرة فيه.
واللعبة كانت لصالحه أو هكذا اعتقد. في البداية تم تعيينه مديراً للمسرح الذي كان يعمل فيه. هذا بعث في ذاته الكثير من الأمل بأنه سيستطيع الحفاظ على قدر من الاستقلالية. لا يريد أن يكون بيدقاً في يد النازيين لكنه لا يريد مناوأتهم أيضاً. أراد تحقيق هذا بالتأكيد على أن ما يقوم به هو في سبيل الفن أولاً وأنه سيستخدم منصبه الجديد لتقديم الأعمال التي يريدها وممارسة موهبته وفنه بعيداً عن أي علاقة بينه وبين السياسة. ما يحدث لاحقاً، هو أن هندريك يخسر كل شيء، بدءاً بالمسرح الذي أعطي له ثم سحب منه، وانتهاءً بذاته وحرية فنه. وفي مشهد أخير معبر تماماً عن نتيجة الصراع الذي خاضه وأخفق فيه، يقف في ساحة الأولمبيك، حيث سيقدم «هاملت» التي سعى إليها لسنين (إنما تحت راية ورعاية النازية الآن) ليردد في مرارة: «لكني أنا ممثل فقط... ماذا تريدون مني؟».
سؤال المخرج ستيفان شابو هو إذا ما كان على بطله أن يربح نفسه أو يخسرها لكن بطله أضعف من أن يتحمل تبعات هذا السؤال ويقرر الإقدام على مزيد من التنازلات.
- حكاية صحافي
بالعودة إلى إنتاجات أحدث يطالعنا الفيلم الروسي «دوفلاتوف» للمخرج أليكسي جرمان جونيور (والده مخرج أيضاً) وهو، بدوره من نوع السيرة كما حال «ما وراء الصورة» و«غراب أبيض»، إذ يدور حول الصحافي والروائي الروسي سيرغي دوفلاتوف الذي ولد لأم أرمنية وأب يهودي سنة 1941 وتوفي في نيويورك (بعدما هاجر إليها مع والدته في أواخر السبعينات) سنة 1990. امتهن الكتابة بعد الخدمة العسكرية ونشر مقالاته في عدد من الصحف داخل وخارج روسيا.
حسب فيلم جرمان وغالباً عن مصادر موثوقة، طرد دوفلاتوف من الصحيفة التي كان يعمل فيها بسبب مقالاته التي لم ترض الجهاز الأمني للنظام الشيوعي آنذاك. تقع الأحداث ذاتها في ستة أيام فقط (سنة 1971) نرى فيها دوفلاتوف ينتقل من صراع إلى آخر رافضاً أن تكون كتاباته بوقاً رسمياً. يتخذ المخرج جرمان بطله كمرآة للفترة الزمنية التي كانت فيها البلاد الروسية ما زالت تحت إبهام التعاليم الستالينية حتى بعد رحيله. دوفلاتوف، كما يؤديه جيداً الممثل الصربي ميران ماريتش، هو المشهد الأمامي وفي الخلفية أحوال يساريين غير شيوعيين لا يستطيعون فتح أفواههم خوفاً من المخابرات ومن يفعل يُـساق إلى الاعتقال وقد يموت على الطريق.
ينجز الفيلم نقداً يتعرض فيه لما كان يحدث لفئة واحدة من المواطنين عوض أن يوسع دائرته لتشمل كل الفئات الأخرى إذ كان التعسف والرفض والسجن مشاعاً بين فئات وطوائف متعددة. عدا هذه النقطة التي تبقى دخيلة، «دوفلاتوف» فيلم جيد السياق فيه لمسات شعرية، لكن لبنة الفيلم هي تقديم شخص فعلي رافض للهيمنة كحال فيلم البولندي أندريه فايدا الأخير Afterimage سنة 2016. ما سبق، وهو قليل من كثير، يوزع النهايات على أكثر من نحو.
بطلا «حرب باردة» يعاصران وجهاً الحياة على مدى سنوات طويلة وينتهيان معاً إنما بعد معاناة لا ينتصر فيها مبدأ على آخر بل يحل الزمن وحده الوضع السياسي حولهما.
«غراب أبيض» يختار الانتصار لحرية الفنان على النظام مستلهماً بذلك الواقع الذي شهدته حياة بطله. وفي حين يخسر بطل «مفيستو» نفسه لأنه كان أضعف من أن يقاوم النازيين، ينتصر «ما وراء الصورة» لبطله الرسّام المناوئ الذي يرفض التنازلات. أما حال الصحافي دوفلاتوف فتعبر عن الحل الوحيد الذي بقي أمامه وهو الهجرة. بذلك ربح نفسه من دون أن يخسر النظام ماء الوجه.


مقالات ذات صلة

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».