مثل أميرة جميلة في واحدة من حكايات الرحالة العرب القدامى، تقف أوزبكستان في آسيا الوسطى على طريق الحرير التجاري. تُتحف ضيوفها والمارة بكنوز تاريخية ومعمارية وأدبية. تحكي تاريخ إمبراطوريات كانت لها أمجاد في الزمن الغابر على تلك البقعة من الأرض التي أغوت الإسكندر المقدوني الذي احتلها وتزوج فيها من واحدة من أميراتها في عام 327 قبل الميلاد. سحرت أيضاً الفاتحين العرب، وهو ما تشهد عليه آثار فن العمارة الإسلامية التي خلّفوها، وأدهشت كلاً من الرحالة الجغرافي والأديب والشاعر ياقوت الحموي، والرحالة ابن بطوطة.
كانت أوزبكستان ولا تزال لؤلؤة آسيا الوسطى، تشع حقولها وبساتينها نضارة، تغذيها مياه نهرَي سير داريا من الشرق وآمور داريا من الغرب، لذلك أطلق عليها الفاتحون العرب «بلاد ما وراء النهر». إلى جانب خضارها وفاكهتها اللذيذة، تشتهر بحكايتها القادمة من عمق تاريخ الشرق القديم، في بخارى وسمرقند، ومدن أخرى. وبكل تأكيد لا يجوز أن يفوتك إن زرت أوزبكستان أن تتذوق فيها الـ«بلوف»، وجبتها القومية الشهيرة عالمياً، وهي وصفة عمرها أكثر من ألفي عام.
سمرقند «قلعة الأرض»
تعد سمرقند واحدة من أقدم المدن في العالم، تأسست في القرن الثامن قبل الميلاد. تقاطعت عندها الحضارات عبر التاريخ، نظراً إلى موقعها المهم بين الهند وبلاد فارس والصين، حيث كانت نقطة رئيسية على طريق الحرير العظيم. تتمتع المدينة بتاريخ طويل ومثير. سمرقند التي يعني اسمها «قلعة الأرض»، كانت مركز ولايات سوقديانا المعروفة في المراجع العربية باسم «بلاد الصغد»، احتلها الإسكندر المقدوني عام 329 قبل الميلاد. وعبر العصور تعاقب عليها الغزاة، ونشأت فيها أكثر من حضارة. في عهد الحكم الإسلامي ازدهرت سمرقند وشهدت تطوراً عمرانياً كبيراً، إلا أن الغزو المغولي للمدينة عام 1220 ميلادي، بقيادة جنكيز خان، دمَّر كل تلك الآثار، وأحرق المدينة ونكّل بأهلها.
بعد سنوات اعتنق المغول الإسلام وبدأوا يشيّدون المساجد والقصور والكثير من المعالم العمرانية التي تُصنّف ضمن فن العمارة الإسلامية. لاحقاً اتخذ القائد الأوزبكي تيمور لنك من سمرقند عاصمة لملكه، وقام بنقل الصناع وأرباب الحرف إليها، ما ساعد في نهضتها فنياً وعمرانياً وثقافياً. ويعود إلى ذلك العهد عدد كبير من المعالم التاريخية الباقية حتى يومنا هذا. ذكرها الرحالة ابن بطوطة في مؤلفاته، وقال عنها: «من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً. مبنية على شاطئ وادٍ يُعرف بوادي القصارين، عليه النواعير تسقي البساتين. وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج. ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها، ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات. وكانت على شاطئه قصور عظيمة، وعمارة تنبئ عن علو همم أهلها».
أهم آثار ومعالم سمرقند
اشتهرت «سمرقند» بكثرة القصور التي شيّدها «تيمورلنك»، ولعل أهمها ساحة ريجستان وسط المدينة والتي تعني تسميتها «ساحة الرمل». وهي ساحة عامة كانت تُنفّذ فيها عمليات الإعدام، ويجتمع الناس فيها للاستماع إلى قرارات الحاكم. تحيط بها ثلاث مدارس تتميز بأسلوب العمارة الإسلامي، وبالقرب منها ضريح تيمور لنك. وتتميز كل واحدة من تلك المدارس بديكور خاص في داخلها، إلا أنها متشابهة في واجهاتها الخارجية، حيث البوابات المرتفعة على شكل أقواس مزخرفة، وعلى الجانبين مآذن ترتفع عالياً كأنها تعانق السماء، وأشكال زخرفية مصنوعة من الحجر والرخام وأنواع من الخشب، فضلاً عن زينة جميلة من مختلف الأحجار عند البوابات وعلى جدران تلك المدارس.
وتم استخدام نوع من الآجُرّ المخبوز ومواد أخرى في تصميم وبناء قببها الفيروزية، وأبدع الصناع المهرة في تزيين واجهات تلك المدارس بنقش كتابات بما في ذلك آيات من القرآن الكريم، فضلاً عن لوحات فسيفسائية لازوردية وذهبية، تتألق دوماً تحت أشعة الشمس. ولا تزال ريجستان حتى يومنا هذا مركزاً اجتماعياً، وفضلاً عن أهميتها التاريخية وتدفق آلاف السياح إليها، تستضيف الساحة سنوياً مهرجانات موسيقية وفنية تشارك فيها فرق من جميع أنحاء آسيا.
وفي سمرقند أيضاً مجموعة كبيرة من المساجد التي شُيدت في القرن الخامس عشر، لعل أكثرها شهرة مسجد «بيبي خانوم»، شرق ساحة ريجستان، ويطلق عليه «جوهرة سمرقند» وهو أكبر مسجد في البلاد. وهناك بالطبع مجموعة مميزة من القصور، لعل أهمها قصر دلكشا أو (القصر الصيفي)، الذي يتميز بمدخله المرتفع المزدان بالآجرّ الأزرق والمُذَهّب، وقصر باغ بهشت أي (روضة الجنة)، الذي شيِّد كاملاً من الرخام الأبيض المجلوب من «تبريز» فوق ربوة عالية، وكان يحيط به خندق عميق ملئ بالماء، وعليه قناطر تصل بينه وبين المتنزه. وقصر باغ جناران (روضة الحور)، عُرف هذا القصر بهذا الاسم لأنه كانت تحوطه طرق جميلة يقوم شجر الحور على جوانبها، وكان ذا تخطيط متقاطع متعامد. وفي أطراف سمرقند يقف مرصد فلكي شيده أولوغبيك، حفيد تيمور لنك ووريثه في الحكم على تل كوخاك، وكان معروفاً عنه ولهه بعلم الفلك وفي عهده حصلت سمرقند على شهرة واسعة عالمياً في علوم الفلك.
بخارى... المدينة المتحف
لا تقل مدينة بخارى أهمية عن جارتها سمرقند من الناحية التاريخية، وهي تقع كذلك على طريق الحرير التجاري، وتعد من أقدم المدن في آسيا الوسطى، وتشير الحفريات إلى أن المدينة نشأت منذ القرن الرابع قبل الميلاد. بخارى، مدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، حالها حال سمرقند وخوارزم وعدد آخر من المدن الأوزبكية. ينتشر في هذه المدينة القديمة قدم التاريخ نحو 140 معلماً أثرياً، لذلك حصلت بجدارة على لقب «المدينة المتحف»، ما يجعل الجولة فيها مثل جولة داخل متحف كبير. وتبدو ساحة ريجستان في بخارى بمثابة مركز ذلك المتحف، إذ يقع هناك مجمع «بيو - كاليان» المعماري التاريخي الرئيسي، ويضم ثلاثة مبانٍ تعود إلى القرنين الثاني عشر والسادس عشر، هي: مسجد «كاليان»، ومئذنة «كاليان»، ومدرسة ميري العربية. وتعد المئذنة من أقدم المعالم في الساحة، ويبلغ عمرها حول 9 قرون. بُنيت من الطوب عام 1127، وما زالت تحافظ على جمالها على الرغم من أنها لم تخضع لأي عمليات ترميم حتى الآن. وترتبط المئذنة عبر جسر بمسجد «كاليان» الذي شُيد عام 1514 وهو ثاني أكبر مسجد في أوزبكستان، بعد مسجد «بيبي خانوم» في سمرقند، ويتسع في آن واحد لأكثر من 12 ألف مصلٍّ. وتم تشييده وفق نمط العمارة في حكم سلالة تيمور لنك. مبنى مستطيل بأربع ساحات، مع بوابة فسيفسائية كبيرة، وقبب مغطاة برسومات فسيفسائية زرقاء وسماوية اللون. قبالة المسجد تقف مدرسة «ميري» العربية التي شُيّدت خلال عامي 1535 – 1536، ويقال إن رجل الدين الذي موّل بناء المدرسة اضطر إلى بيع 3 آلاف أسير فارسي ليوفر التمويل الضروري. وهي ثاني أكبر مدرسة في أوزبكستان، وتواصل عملها كمدرسة دينية حتى يومنا هذا.
وإلى جانب العدد الكبير من المدارس والقصور التي شُيدت في عهد حكم تيمور لنك وسلالته، هناك معالم تاريخية في بخارى تعود إلى مراحل قديمة من التاريخ، منها حصن آرك، الذي تشير الحفريات إلى أن أُسسه وُضعت في الفترة ما بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد. وهناك الكثير من الأساطير حول ذلك الحصن، واحدة منها تقول إن أميراً وقع في غرام فتاة جميلة شاهدها صدفة في السوق، إلا أن والدها حاكم إحدى الولايات اشترط عليه لتزويجها له أن يشيّد حصناً على جلدة ثور واحد. لم يستسلم الأمير لهذا الطلب التعجيزي، وقام باصطياد ثور كبير، قطع جلده على شكل حبال قام بمدها على الأرض، وشكّلت معاً الخطوط الهندسية الرئيسية لتصميم الحصن، ومن ثم بدأ بتشييد الحصن على تلك الحبال، وهكذا تمكن من الفوز بحبيبته. عالم الحكاية الشرقية يتكرر في معظم المدن الأوزبكية، وكما هي الحال في سمرقند وبخارى، تنتشر الآثار في مدن أخرى مثل خوارزم وكوكاند وأنديجان وشهريسباز، وبالطبع في العاصمة طشقند التي تتقاطع عندها مختلف مراحل تاريخ نشأة أوزبكستان.
الإقامة في تلك المدن لن تكون مشكلة، إذ تتوفر الفنادق التي تلبي مختلف الأذواق والمستويات وبأسعار مقبولة في معظم الأحيان.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخدمات الأخرى الضرورية للسائح. في كل المدن الأوزبكية تنتشر مطاعم ومقاهٍ تقدم وجبات مختلفة، إلا أنها تتميز بوجبة قومية هي الـ«بلوف» التي عرفتها شعوب أوزبكستان منذ آلاف السنين، ووحدهم يتقنون إعدادها بطريقة لذيذة للغاية.
فرغم معرفة مكوناتها، الأرز واللحم والبصل والزبيب، وبساطة إعدادها على نيران الحطب في قِدْر معدني بجدران سميكة، لن تكون هذه الوجبة بنفس الطعم واللذة في أي مكان آخر. ففي مجموع أوزبكستان ينتشر الطهاة المتخصصين في هذا الطبق.
تجدهم أحياناً في مناطق التجمعات وفي الساحات كما في البيوت، كونها الوجبة التي تقدَّم للضيوف في المناسبات الاجتماعية، وخلال الاحتفالات العامة.
وينتشر باعة الـ«بلوف» في شوارع المدن الأوزبكية يبيعونه أحياناً على شكل وجبة سريعة تقتنصها وأنت في طريقك لاستكشاف مكان جديد.