أحدث وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض سنة 2017 زلزالاً في العلاقات الدولية وفي صورة القيادة الأميركية. رئيس لا يعمد إلى المهادنة ولبس القفازات في مواجهة القضايا الساخنة، مع الحلفاء أو الخصوم. لا يقيم وزناً للتحالفات التقليدية التي ربطت واشنطن بحلفائها الأوروبيين وبجيرانها لسنوات مديدة. وكيفما كان قياس حسابات الربح والخسارة في سياسة ترمب، فإن الأكيد أن هاجسه الأساسي هو قاعدته الانتخابية داخل الولايات المتحدة، وهي القاعدة التي يدغدغها بشعارات مثل «أميركا أولا» أو «أميركا عظمى من جديد»، في انتقاد لا يتضمن أي التباس لسياسات أسلافه، التي يعتبر أن مهمته الأساسية هي إصلاحها، ووضع الولايات المتحدة من جديد على الطريق الصحيح، كما يراه.
مع إعلان دونالد ترمب ترشحه لولاية ثانية، وبدء التنافس بين الديمقراطيين على اختيار المرشح الذي يرون أنه الأفضل لكسب السباق، نفتح في هذه الصفحة ملف رئاسة ترمب من ثلاث زوايا: سياسته الخارجية، وعلاقاته الصعبة مع الحلفاء الأوروبيين، والصراع بين الديمقراطيين على اختيار من يستطيع منافسته.
في 15 يوليو (تموز) من العام الماضي، وبلغة استفزازية، في مقابلة مع شبكة «سي بي إس»، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب رؤيته «العميقة» للاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد هو في نظره «العدو الرئيسي» للولايات المتحدة، وهو بذلك يكون أخطر من روسيا والصين اللتين وصفهما ترمب أيضا بأنهما عدوتان. ولمزيد من الإيضاح، فقد وصف ترمب الاتحاد الأوروبي بأنه «صعب المراس والمنافس الأول لأميركا في العالم اليوم». ولا يأخذ الرئيس الأميركي على الأوروبيين فقط أنهم لا يساهمون بما يتوجب عليهم للحلف الأطلسي (2 في المائة من الدخل القومي الخام) بل إنهم يمولون روسيا التي يطلبون منه حمايتهم منها. والدليل على ذلك مساهمة ألمانيا في مشروع الغاز الروسي الجديد. رؤية ترمب التبسيطية للسياسة الدولية تفضي إلى ما يلي: «يطلب منا أن ندافع عن جهة (أوروبا) وهذه الجهة تدفع المليارات لطرف آخر (روسيا) التي يريدون منا أن ندرأ شرها عنهم». برأيه، فإن أمرا كهذا «مثير للسخرية».
ثمة إجماع بين الأوروبيين أن أيا من رؤساء الولايات المتحدة لم يقل في أوروبا ما قاله ساكن البيت الأبيض، وأن العلاقات بين ضفتي الأطلسي لم تكن أبدا إلى هذا الحد رهينة «مزاجية» رئيس يمارس الدبلوماسية على طريقة التغريدات الصباحية بعد ليلة يقضيها مشاهداً «فوكس نيوز». ولا يبدو أن الأشهر الـ12 التي انقضت منذ المقابلة التي أجرتها معه «سي بي إس» قد غيرت الكثير في علاقات الرئيس الأميركي مع القارة القديمة أو رؤيته لها. ومؤخرا لم يتردد في القول إن أوروبا «لا تهمه» وإن بلاده سخية للغاية معها إذ أنها تهتم بها وتصرف الكثير عليها في إطار الحلف الأطلسي ومع ذلك فإن الأوروبيين «يستفيدون منا ومنذ زمن طويل في علاقاتنا التجارية»، ما يعني بالنسبة إليه أن هناك خطأ ما يتعين تصحيحه.
هذه المقاربة الترمبية تربك الأوروبيين. وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطالب نظيره الأميركي، في حديث إلى مجلة «نيو يوركر» هذا الأسبوع بأن «يوضح موقفه» من الاتحاد الأوروبي بعد الذي قاله في مسألة «بركسيت» ودعوته بريطانيا إلى قطيعة مع شركائها الأوروبيين. ولم يتردد ترمب في التدخل المباشر والفاضح، خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا، في شؤونها وشؤون الاتحاد الداخلية. وبحسب ماكرون، ثمة «مناطق مبهمة» في مقاربة ترمب تحتاج لجلاء غموضها. وهل يمكن أن ينسى ماكرون السهام التي وجهها ترمب إليه عندما دعا، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى قيام «جيش أوروبي حقيقي» حتى تخفف أوروبا من الاعتماد في دفاعها على الشريك الأميركي وعلى الحلف الأطلسي. وكان رد ترمب صاعقا إذ ذكّر ماكرون بأنه «لولا تدخل القوات الأميركية (في الحرب العالمية الثانية) لكان الفرنسيون يدرسون الألمانية» في إشارة إلى احتلال القوات النازية لفرنسا.
حقيقة الأمر أن الملفات الخلافية بين ترمب وأوروبا عديدة. فالصداقة التقليدية بين الطرفين أصيبت في الصميم. الرئيس الأميركي غاضب من المستشارة الألمانية التي كرسها باراك أوباما «زعيمة العالم الحر والمدافعة عنه» قبل رحيله عن البيت الأبيض. وعلاقات ترمب مع ماكرون مزاجية وتتأرجح بين نقيضين: البرودة الشديدة والحرارة الخانقة. أما رئيسة الوزراء البريطانية التي حاولت التقرب منه فقد لفظها بفظاظة عندما اعتبر أن بوريس جونسون، خليفتها المحتمل، سيكون أقدر على إخراج بريطانيا من الاتحاد لا بل إنه لم يتردد في الاجتماع بزعيم اليمين البريطاني المتطرف نايجل فراج الذي وصفه بأنه «صديق». وفيما خص الزعماء الأوروبيين الآخرين فحدث ولا حرج...
لقد وصلت حالة انعدام الثقة بين الأوروبيين والإدارة الأميركية الحالية إلى درجة أن مصادر دبلوماسية فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن أفضل ما يتمنونه من قمة بياريتز (جنوب غربي فرنسا) لمجموعة البلدان السبع التي ستلتئم في نهاية أغسطس (آب) برئاسة فرنسا هي أن «تمر بخير»، بمعنى ألا يعمد ترمب إلى تغريدات قاتلة أو أن يرفض بيانا تم التحضير له لأسابيع بعد أن يركب طائرته عائدا لبلاده. وتضيف هذه المصادر أنه يتعين على الأوروبيين أن «يتأقلموا» في تعاملهم مع ترمب. فالأخير «ما زال أمامه 18 شهرا في البيت الأبيض ثم من يدري؟ ربما علينا أن نزيد أربع سنوات إضافية» في حال نجح في ولاية ثانية.
يتوقع الأوروبيون أن تتواصل حالة التجاذب مع ترمب للسنوات القادمة. فالأخير اختصر «فلسفته» السياسية بشعاره الرئيسي «أميركا أولا» وهو يطبقه عمليا من خلال سياسة «أحادية» ترفض جذريا الإدارة الجماعية لشؤون العالم. والأدلة على ذلك لا تحصى: فالرئيس الأميركي باشر ولايته بالخروج من اتفاقية المناخ المسماة «اتفاقية باريس» المبرمة نهاية العام 2015 مستندا إلى نظرية أن النشاطات الإنسانية لا علاقة لها بزيادة حرارة الأرض وأن الدراسات العلمية التي تتوقع ارتفاع الحرارة وذوبان جبال الجليد وارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات لا أساس لها. وأتبع ذلك بالخروج من منظمة اليونيسكو وبإطلاق حرب تجارية تنسف الأسس التي تقوم عليها منظمة التجارة الدولية ولا تستهدف فقط الصين بل أقرب المقربين إلى بلاده مثل كندا والمكسيك والدول الأوروبية. كذلك هدد ترمب بالانسحاب من الحلف الأطلسي وتوسل في سياساته اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية العابرة للحدود بفعل قوة الاقتصاد الأميركي وعملته الدولار.
ما يحرج الأوروبيين في سياسة ترمب الخارجية عدم القدرة على توقعها واستباقها. ففي ملف كوريا الشمالية النووي، احتار الأوروبيون بين رئيس يملك «زرا نوويا» أقوى من الزر الكوري وهو قادر على «محو» كوريا الشمالية عن الخريطة. وفي اليوم التالي لقاء فعناق ورسائل غرام مع كيم جونغ أون. وفي الملف الفلسطيني، وأد ترمب عشرات السنوات من سياسة واشنطن التقليدية الرافضة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كذلك غض النظر عن الاستيطان الإسرائيلي وحل الدولتين. وبما أن ذلك لم يكف، فقد «منح» الجولان الذي لا يملكه إلى إسرائيل التي تحتله. وفي الملف الإيراني، وفي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية، سحب ترمب توقيع بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وها هي أميركا وإيران تلعبان على حافة الهاوية في منطقة استراتيجية للعالم أجمع بفضل مخزونها من النفط والغاز ومضائقها. وفي سوريا، يجهد الأوروبيون لفك رموز سياسة البيت الأبيض كما يجهدون لمعرفة كيف ستتطور علاقاته مع روسيا.
إزاء هذه الملفات، ثمة تناقض عمودي بين مواقف ترمب ومواقف شركائه الأوروبيين. ومفاجأة هؤلاء حلت عندما أعلن ترمب أنه سينسحب دون تشاور مسبق من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفياتي في التسعينات. والحال أن هذه الصواريخ تهم الأوروبيين ومصيرهم بالدرجة الأولى وبالتالي يريدون أن تكون لهم كلمتهم بشأنها.
هكذا، تمضي الأمور بين طرفين تربطهما مبدئيا علاقات تحالف تاريخية وقيم أساسية مشتركة. وربما يكون حلم ترمب أن يجر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دولا أخرى، بحيث يتهاوى الاتحاد وعملته (اليورو) ويكون بإمكانه عندها إبرام اتفاقات مع كل طرف على حدة، تكون بطبيعة الحال لصالح الولايات المتحدة.