روبرت داوني لـ«الشرق الأوسط»: لم أستوعب فكرة البطولة الجماعية في بادئ الأمر

الممثل الأميركي يناقش تجربته في مرحلة ما بعد سلسلة «ذا أفنجرز»

روبرت داوني جونيور
روبرت داوني جونيور
TT

روبرت داوني لـ«الشرق الأوسط»: لم أستوعب فكرة البطولة الجماعية في بادئ الأمر

روبرت داوني جونيور
روبرت داوني جونيور

عندما تم دمج شخصية «راي ستارك - آيرون مان» مع شخصيات «كابتن أميركا» و«سبايدر مان» و«هوكاي» و«بلاك ويدو» و«ذا هالك» و«آنت - مان»، وسواها، بدا كما لو أن روبرت داوني جونيور سيكتفي بفيلم واحد مع هذا اللفيف قبل أن يطلب من صانعي أفلامه العودة إلى إطار البطل المنفرد في الأجزاء الثلاثة من «آيرون مان».
تحت المجهر لم يبد روبرت داوني مرتاحاً. الانتقال من فردية الحدث، ومن البطولة المطلقة، إلى المشاركة وسط مجموعة ضمت سواه ممن لم يسعفهم الحظ سابقاً لتحقيق نجاح كالذي حققه داوني في أفلامه الثلاثة لم يكن سهلاً، ولو أن الحيز الممنوح له بقي كبيراً.
لاحقاً غاص داوني أكثر وأكثر في وسط المجموعة، وترك لسواه أن يقود الأفلام على نحو متساوٍ، وبدا أكثر راحةً وأقل توتراً، إذا ما كان هذا الوصف دقيقاً.
روبرت داوني يتطرق هنا إلى هذا الوضع، ويتحدث كذلك عن كيف سيوجه اهتمامه إلى مشروعات مستقبلية، ربما تكون أصغر، يعود خلالها إلى «أشكال الفنون والهوايات» التي لم يستطع إيفاءها القدر الكافي من الاهتمام بسبب المسلسلات التي قام بتمثيلها من «كابتن أميركا» إلى «ذا أفنجرز» مروراً بـ«سبايدر مان» أيضاً.
> يوحي «ذا أفنجرز: إندغيم» بأن حلقات هذا المسلسل آزفة على الانتهاء. الانتصار الكبير على الشرير الذي يمثله جوش برولِن واستعادة فريق «أفنجرز» لقوّته هو بمثابة وداع أخير. هل هذا صحيح؟
- كنت في الأربعينات عندما مثلت شخصية «آيرون مان»، والآن أنا في خمسينات العمر. ومثل هذه المسلسلات تأتي وتذهب كذلك من يعمل فيها أمام الكاميرا أو خارجها. هذا طبيعي لكن لا يعني أن النهاية مغلقة. في أي وقت قد يعود بعض أفراد الفريق معاً، أو قد يعود واحد منهم. قبل قليل لاحظت جون (جون فافريو مخرج الفيلم) وهو يجري مقابلات مماثلة، وشعرت ببعض الحزن، لأنه مثل أب أودع أولاده المدرسة. سيترك السلسلة معنا ويمضي لمشروعات أخرى، وهذا هو حالنا… سنتركها ونمضي لمشروعات أخرى، وقد نعود، وقد لا نعود.
> كيف ترى المخرج فافريو من وجهة نظرك كممثل؟
- أنظر إليه بدهشة وبإعجاب. لقد فعل الكثير من أجل أن ينجز الفيلم على نحو خالد. يستطيع الجيل المقبل العودة إليه في أي وقت. وهذا يعني الكثير بالنسبة إليّ.
> هل كنت تعلم قبل التصوير أن الفيلم في نهايته سيسدل الستارة على هذه الشخصيات؟
- مرّة أخرى، من يعرف حكايات «مافل» (المؤسسة التي ابتدعت شخصيات الكوميكس، وبينها «آيرون مان» التي يؤديها داوني جونيور) يعرف تماماً أن النهاية هي النهاية، إلا إذا كانت نهاية خادعة. كلنا كممثلين كنا نشعر بأن هذه النهاية باتت قريبة. اختلطنا بصانعي أفلام «ذا أفنجرز» طويلاً ما أتاح لنا هذا الإدراك، وبصورة طبيعية.
> لكن حكايات مارفل لا تنتهي عادة؟
- صحيح. هذا صحيح. من يعرف مارفل يعرف هذه الحقيقة. من ناحية أخرى لا أشعر بالإعجاب حيال أي فيلم يتعامل مع نفسه على أساس جاد جداً. وربما يكون هذا هو المدخل لعودة لاحقة.
> ماذا من بعد «آيرون مان» بالنسبة إليك إذن؟
- هناك جانبان للرد على سؤالك: الأول تستطيع أن تخطط، لكن الله يعلم فقط ما سيتحقق. والثانية بعض الناس يعتقد أنه يستطيع أن يكون دقيقاً في تحديد ما سيقوم به. ربما يستطيع البعض ذلك، لكني لست منهم. أحب مارفل وديزني، وأود أن نعمل في المزيد من المشروعات، لكني أيضاً أفكر في مشروعات أخرى ربما بعيداً عنهما.
من وحي شكسبير
> ما تقوله يعني، على الأرجح، أننا سنراك في أفلام لا علاقة لها بـ«السوبر هيرو». هل هذا ممكن؟
- تعلم لأنني أذكر لقاءنا السابق أنني مثلت فيلم «القاضي» مع روبرت دوفال، وهذا تم في وسط أفلامي الكبيرة الأخرى. وهو فيلم أحبه وأقدره كثيراً. الحقيقة هي أن لديَّ اهتمامات كثيرة، منها الموسيقى وأنواع الفنون عموماً. للأسف سنوات العمل في أفلام «آيرون مان» و«ذا أفنجرز» وسواها لم تمكني من الانصراف إلى تلك الهوايات الأخرى، أو إلى البحث عن أفلام شخصية أكثر.
> هل تفكر بالإخراج؟
- ليس على نحو متواصل. لكن قبل حين التقيت (الممثل) أوسكار أيزاك الذي أخذ يحدثني عن مشروعات ممكن لنا أن أقوم بها، أو نقوم بها معاً، تنقلني من شخصية «السوبر هيرو» إلى شخصيات شكسبير. راقت لي الفكرة كثيراً، وأعتقد أنني أفكر حالياً في أن أجمع عدداً من الممثلين والممثلات الجيدين، وأصنع فيلماً من وحي شكسبير، أو ربما يكون نقلاً عن إحدى مسرحياته.
> هل لديك استعداد ذاتي لمثل هذا الانتقال؟
- أعتقد، لكن أتعلم شيئاً؟ قد أحب العمل وراء الكاميرا أو قد أكرهه… لا أعلم. قد أصرخ خلال التصوير مخاطباً الممثلين: «يا إلهي لماذا لا أدير الكاميرا لناحيتي وأريكم كيف تمثلون».
> المخرج الراحل روبرت التمن وصفك بأنك أفضل ممثل أميركي. وأنت مثلت معه فيلمين. هل تذكرهما؟
- سعيد بأنك طرحت هذا السؤال. طبعاً أذكرهما «شورت كتس» و«ذا جنجربرد مان». كان يقول لي عند نهاية كل يوم عمل، وقبل مغادرة مكان التصوير، «تأكد من أنك لن تحفظ حوارك غداً» (يضحك). كان بوب مخرجاً أميركياً رائعاً وفناناً كبيراً.
> هو من جيل والدك روبرت أيضاً…
- صحيح. هو من جيل والدي وأقاربي الذين ترعرعت في كنفهم. هذا فصل من الحياة انطوى ونحن في فصل جديد وهذه هي الحياة.
> في «ذا أفنجرز: إندغيم» تبدو نحيفاً… هل هو شغل المؤثرات، أو أنك خسرت بعض الوزن فعلاً؟
- في الخمسينات من عمر الرجل الحريص على إنقاص وزنه يمر بحالة غريبة. تعتقد أنك تمارس برنامج غذاء ناجحاً، وأن وزنك ينقص، لكنك تتوهم ذلك (يضحك). أو أن وزنك ينقص قليلاً ثم يستعيد ما خسره قبل أن تشعر.
«أشاهد أفلامي»
> هل لديك فيلم معين تفضله على سواه من بين ما قمت بتمثيله؟
- ما أفضله اليوم غير ما كنت أفضله بالأمس، وقد أقوم غداً بتفضيل الفيلم الذي فضلته بالأمس. إنها مسألة مرحلية. مؤخراً استرجعت أحد الأفلام الصغيرة التي مثلتها منذ سنوات بعيدة، وهو «ديو دايت»Due Date) ) الذي كان عن شابين في سيارة. لم يكن فيلماً جيداً، لكنه كان من النوع الحميمي الذي تعود إليه، فيفجر في ذاتك الرغبة في البحث عن مشروعات صغيرة كهذه.
> قصدت أفلاماً بالمطلق، وليس تلك التي قمت بتمثيلها…؟
- أوه… أنا أفكر بنفسي طوال الوقت، ولا أشاهد إلا أفلامي (يضحك…)، نعم هناك الكثير مما يجب أن أشاهده.
> في «آيرون مان» الأول والثاني والثالث كنت الممثل الرئيسي الوحيد، ثم اندمجت مع فريق «ذا أفنجرز»، وأصبحت واحداً من كل هذه الشخصيات. ما الذي اختلف لديك تبعاً لهذا؟
- الفارق هو كما ذكرت تماماً. كنت مركز الأفلام، ثم أصبحت من الشخصيات المتعددة، لكن هذا لم يعن سريعاً أنني اندمجت. كان لا بد من تكرار الأفلام التي جمعتنا معاً، وهذا ما حدث بالفعل من قبل أن أتخلى عن ذاتيتي، وأقبل فكرة أنني واحد من المجموعة. وأعتقد أن ما خرجت به من هذه التجربة هو أنني نضجت أكثر، وأصبحت أقل رغبة في أن أكون النقطة المركزية في العمل. في البداية ربما لم أستوعب الفكرة التي تنص على توزيع القيادة بين أكثر من ممثل. لكني لاحقاً تخليت عن هذا المنظور. أصبحت أكثر تواضعاً وقبولاً.
> هل لديك غرفة سينما في منزلك؟
- نعم.
> أي أفلام تشاهدها فيها؟
- الفكرة كانت أن أختلي بنفسي، وأشاهد ما أريد مشاهدته من أفلام. لكن الأولاد سطوا عليها في عطلة نهاية الأسبوع، فبت لا أستخدمها. الاثنين أذهب إلى عملي حتى نهاية الأسبوع. باختصار بنيت الصالة لنفسي، والآن هي لأولادي، لكني أتسلل إليها من حين لآخر.
> تحدثت قبل قليل عن جون فافريو، ماذا عن الأخوين أنطوني وجو روسو. مثلت في فيلمهما «كابتن أميركا»؟
- نعم. لقائي الأول بهما لا أنسه. هنا شخصان جاءا بعربة غولف في الاستديو، واقتربا مني، وأحدهما قال: «أنا جو وهذا أخي أنطوني»، كنت منشغلاً في تحضير المشهد التالي، فألقيت عليهما تحية عابرة وانصرفت. بعد ذلك ها هما اليوم من المخرجين المميزين في سينما المسلسلات الكبيرة. طبعاً كنت أستطيع أن أقول لهما: «أشعر بأننا سوف نعمل معاً»، لكن هذا كان سيبدو في غير محله. سيبدو غريباً. فجأة هما من أفضل المخرجين على الأرض.


مقالات ذات صلة

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)