{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

انهيار «داعش» يعطي دفعة قوية لنشاط الإرهابيين عبر شبكة الإنترنت

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

{نداء كرايستشيرش» الطريق إلى مكافحة التطرف

شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش  حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)
شرطي نيوزيلندي وباقات من الورود أمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش حيث ارتكب أسترالي متطرف مذبحة بقتل 51 مصلياً مارس الماضي (أ.ف.ب)

تركت مذبحة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا التي جرت بها المقادير مؤخراً عدة أسئلة مثيرة للقلق وداعية للبحث والتأمل في وضعية وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي المقدمة منها الإنترنت، وهل بات يصنع صيفاً أم شتاء، يلهم العالم طريق الصواب أم يفتح واسعاً دروب الغواية والعماية، يجمع على البر والتقوى، أم يساعد على الإثم والعدوان؟

على أن المذبحة سيئة السمعة سالفة الذكر لم تكن بمفردها السبب الرئيسي وراء إعادة النظر في الدور الذي تقوم به تلك الأدوات العصرانية في الاتصال بين البشر، فقد كان لانهيار تنظيم «داعش» الإرهابي أثر هائل على دفع التطرف والإرهاب عبر شبكة الإنترنت دفعة قوية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة، شهدنا تحولاً واضحاً وملحوظاً عند الجماعات الإرهابية؛ فمن فكر القيادة الهيراركية التراتبية، حيث القيادة منوطة بدرجات وشخصيات قادرة على تحمل زمام المبادرة، والقيام بما يلزم، لا سيما التكليفات بالعمليات، إلى نوع آخر من الأداء الإرهابي، حيث تسند المسؤوليات إلى نواة أصغر يتمّ فيها تولي زمام المبادرة من خلال خليط من الجهات الفاعلة الصغيرة غير المنسقة، التي تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تنظيم متراجع، ما الذي تعنيه السطور المتقدمة؟
باختصار غير مخلّ، أضحى الإرهاب والتطرف المعولمان خطراً داهماً حول العالم، سواء كان إرهاباً مؤدلجاً بآيديولوجيات وقناعات سياسية يمينية، أو عنف وتطرف مختبئ في أردية وأثواب دينية وإيمانية.
لم يقتصر الإرهاب على أتباع دين بعينه، فقد نفذ متطرفون بيض هجمات على مسجدين في نيوزيلندا، وضد كنيس شجرة الحياة في بيتسبرغ بأميركا، ولا يزال من غير الواضح الدافع من وراء مذبحة لاس فيغاس، عام 2017، التي نفَّذها شخص واحد، وكانت الأشدَّ فتكاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
لعل المشترك الأكبر والأخطر هو نشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كشف محققون، مرات ومرات، عندما بحثوا في خلفيات قتلة من نوعية الذئاب المنفردة، أو تنظيمات إرهابية، عن وجود أوكار أو مواقع إلكترونية، تجمع بين محرضين على الكراهية من الذين ينسجون أوهاماً وأكاذيب تعشعش في عقول شخصيات ضعيفة ومنعزلة. وليس تقليد الجرائم جديداً على عالم الجريمة، ولكن سطوة وسائل الإعلام الاجتماعي هي التي ساعدت في انتشار مثل ذلك الوهم بسرعة هائلة.
وفي مواجهة الخطر الداهم، كان اللقاء الذي شهدته العاصمة الفرنسية باريس بمبادرة خلاقة من رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، الذي عُرِف بـ«نداء كرايستشيرش» للبحث في طرق مكافحة الإرهاب عبر شبكة المعلومات والتواصل الإنساني الحديث.
جمعت باريس، وبرعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قادة من قارات الأرض الست، عطفاً على أبرز مسؤولي شركات التكنولوجيا، لبحث إطلاق مبادرات جديدة وواعدة تهدف إلى مكافحة التطرف السيبراني، إن جاز التعبير.
وكان ولا يزال القلق الرئيسي لدى كل المشاركين في «نداء كرايستشيرش» متمثلاً في كيفية مطالبة الدول وكبريات الشركات الرقمية بالتحرك ضد الإرهاب والتطرف العنيف على الإنترنت، ومن ثم طلَبِ المشاركين، من ممثلي قادة العالم، ومسؤولي الشركات عابرة القارات، تعهدات لوقف المضمون الإرهابي والعنيف، الذي تحفل به المنصات الإلكترونية. هل أضحت تلك الشركات قولاً وفعلاً مُتهَمة بالترويج للإرهاب والتطرف، وإن بغير قصد أو نية؟
الشاهد أن ذلك كذلك، لا سيما أن «فيسبوك» بنوع خاص قد واجهَتْ انتقادات شديدة بعد التأخر في حذف الفيديو الخاص بمذبحة نيوزيلاندا، الذي انتشر بسرعة على وسائل التواصل، وهو ما أكدته رئيسة الوزراء النيوزيلاندية، حين أشارت إلى أن تلك المأساة أثارت صدمة، لأن الهجوم «أُعِد لكي ينتشر بسرعة»، وذلك في مقابلة لها مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، وتابعت قائلة إن «(فيسبوك) التي استخدمت كمنصة لبثه مباشرة حاولت حذف الفيديو، لقد تم حذفه 1. 5 مليون مرة».
نداء «كرايستشيرش» كان السبب وراء السؤال التالي: «كيف نوقف الجريمة المقبلة»؟! وصاحبته هي السيدة أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا نفسها، التي شهد لها العالم بحسن تعاطيها السياسي والدبلوماسي والإعلامي مع الإشكالية المؤلمة.
انطلقت أرديرن من عند الهجوم الذي جرى في بلادها، والذي كان يهدف في الأصل إلى بث موجة من الرعب لكي تنتشر حول العالم، وتنشر فظائعها على الإنترنت.
واستمر البث المباشر للحادث الإرهابي مدة 16 دقيقة و55 ثانية، وشاهد اللقطات الأصلية نحو 4000 متابع قبل أن تُحذف، وتم نسخها خلال 24 ساعة، وتم تحميلها مليوناً ونصف المليون مرة، قبل أن تُحذف من «فيسبوك». كان مستوى الفيديو مرعباً ومذهلاً، وقد رآه كثير من الناس على محركهم الآلي، دونما معرفة بماهيته، وبات السؤال: كيف يُسمَح بتداول شيء شائن كهذا؟
المقطوع به أنه يمكن تحديد المدى الذي وصل إليه هذا الفعل الإرهابي على الإنترنت وتلك هي الحادثة، لكننا لا نستطيع بحال من الأحوال قياس تأثيراته المستقبلية على الذين شاهدوه؛ فمنهم (على حد تعبير السيدة أردرين) مَن اتصلوا بخطوط الهاتف المتخصصة بالمساعدة النفسية، وربما هناك من نظروا إلى المشهد لتقليده مستقبلاً، ولإحداث أكبر أثر، ولو سلبيّاً، وسط الجماهير العريضة حول الأرض كلها.
وسط فعاليات «نداء كرايستشيرش» باتت «فيسبوك» بنوع خاص في دائرة الاتهام، لا سيما أن هناك ما يُعرف بـ«الصفحات الخلفية» أو «السوداء» حيث عوالم الجريمة المنظمة، سواء المتعلقة منها بالاتجار في الأسلحة أو المخدرات، وربما تهريب البشر، والعلاقة العضوية بين هؤلاء والإرهاب وعالمه وثيقة ولصيقة الصلة.
وفي أواخر أبريل (نيسان) الماضي، وقبل «نداء كرايستشيرش»، قالت «فيسبوك» في منشور على مدونة للشركة إنه تمت إزالة «الغالبية العظمى» من بين 1.9 مليون محتوى متطرف، بينما تم وضع علامات تحذير على نسبة صغيرة من هذه المحتويات، لأنه يتم تبادلها من أجل أغراض معلوماتية أو أغراض مكافحة التطرف. ذهبت «فيسبوك» إلى أنها تعرّف الإرهاب على أنه أي منظمة غير حكومية تشارك في أعمال عنف متعهّدة ضد أشخاص أو ممتلكات لترهيب مدنيين أو حكومة أو منظمة دولية من أجل تحقيق هدف سياسي أو ديني أو آيديولوجي. وأشارت إلى أن هذا التعريف «محايد آيديولوجياً»، إذ يشمل جماعات مختلفة مثل الجماعات المتطرفة دينياً، والجماعات العنصرية البيضاء، وغلاة المدافعين عن البيئة.
والمعروف أن «فيسبوك» تستخدم حالياً برنامجاً آلياً، مثل مطابقة الصور، للكشف عن بعض المواد المتعلقة بالتطرف.
غير أن قائلاً يقول: «هل ستكون معركة المجتمع المدني والقيادات السياسية التنويرية حول العالم سهلة ويسيرة في إجبار الشركات المعلوماتية الهائلة على ترتيب أوراقها، ومحاربة التطرف من دون تذرع الأخيرة بإشكالية حرية الرأي والتعبير»؟
عدة ملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الإطار، وأولها أن المادة الخام الأكثر نفعاً في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الذهب ولا الفضة، وبالقدر نفسه ليست هي النفط أو الغاز، وإنما المعلومات، تلك المادة التي ستدير شؤون الكون، ومن يتحكم فيها سيقدر له توجيه دفة البشرية يميناً أو يساراً كيفما يشاء.
في هذا النطاق هناك مخاوف من المحاججة بأن استباق التوقعات يتعارض مع حرية الرأي والتعبير، وهي حقوق مقدسة لدى الغرب لا يمكن التنازل عنها، وبات الجميع وكأن المعركة الآن، التي احتدمت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، تشتعل من جديد «أيّهما يجب أن يتقدم على الآخر؛ الأمن على الحرية الشخصية أم الأخيرة على الأول»؟
هنا يكاد المشهد ينحو النحو نفسه؛ هل تبقى صفحات «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها فضاء مستباحاً لأي صحاب دعوة، حتى وإن كانت إرهابية؟ أم قطع الطريق عليه استباقيّاً، وإن كان هذا يتطلب جهداً كبيراً جداً، وبلا شك تكاليف مالية مرهقة، تُختصم من الأرباح الهائلة التي توفرها الشركة لحملة أسهمها؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك بالفعل إجراءات على الأرض جرت وتجري؛ فعلى سبيل المثال، وفي الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) الحالي، قالت شركة «فيسبوك» إنها ستجعل من منصتها «بيئة معادية للإرهابيين، وإنه لا يوجد مكان للمحتوى المتطرّف على موقعها»، مضيفة أنها أوقفت في النصف الثاني من العام الماضي نحو 400 ألف حساب، كما أعلنت عن تشديد القيود على خدمة البث المباشر، لمنع التشارك الواسع لتسجيلات عنيفة.
وسيتم تطبيق سياسة «ضربة واحدة» في خدمة «فيسبوك لايف» على مجموعة أوسع من المخالفات، وسيُمنع الذي ينتهكون سياسات خطيرة من استخدام هذه الخاصية بعد مخالفة واحدة، وستتضمن تلك المخالفات تشارك رابط، إلى بيان جماعة إرهابية، من دون كلام.
أفضل ما توقفت عنده رئيسة وزراء نيوزيلندا أرديرن، في دفاعها عن «نداء كرايستشيرش» ذاك الذي لا يتقاطع مع «التشارع»، أو يتنازع مع حرية التعبير الشخصية، قولها إنها تستخدم «فيسبوك» و«إنستغرام» وأحياناً «تويتر»، ولا أحد ينكر قوتها وأهميتها، فهي الوسائل ذاتها التي استخدمها تلاميذ المدارس الذين فقدوا زملاء لهم في الهجوم لتنظيم تجمعات في المتنزهات العامة بـ«كرايستشيرش» المكلومة عينها؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تربط الناس، ويجب التأكد من أن حرية التعبير مصونة، في الوقت الذي نقوم فيه بمنع استخدام المنابر الاجتماعية لإيذاء الآخرين، وهذا الحق لا يشمل حق نشر جريمة جماعية.
وأضحت مواجهة خطابات الكراهية مطلباً أممياً وأميركياً أيضاً، بعد أن بدا أن الإنترنت أصبح منطقة ينعدم فيها القانون وخارجة عن السيطرة رغم توفر تقنية التعرف بسرعة على أي محتوى عن التطرف وإزالته، غير أن شركات التكنولوجيا أخفقت في تطبيق هذه التقنية بشفافية وعلى نطاق واسع من تلقاء نفسها، ما يفرض الحاجة إلى تدخل حكومات العالم ليتحمل هؤلاء التنفيذيون مسؤولية أفعالهم. هل ستشهد المنطقة العربية الأيام المقبلة متابعة لإنقاذ العالم من براثن الإرهاب الإنترنتي، إن جاز التعبير؟
هذا بالفعل ما أعلن عنه الرئيس ماكرون، حين أشار إلى أن الأردن سوف يشهد لقاء لمتابعة أعمال «نداء كرايستشيرش»، من أجل القضاء على جميع أشكال العنف والإرهاب والكراهية والتطرف على منصات الإنترنت.
قبل فترة زمنية قال البعض إن «الإنترنت» بجميع فروعه وتفصيلاته هو الوحش الذي تتحدث عنه رؤى الإسكاتولوجيا عند اليمين الغربي أو فرانكشتاين في طبعته الجديدة، التي تسود العالم الآن، وأغلب الظن أن الصراع سوف يبقى محتدماً إلى حين.


مقالات ذات صلة

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

الولايات المتحدة​ أحمد الشرع مجتمعاً مع رئيس حكومة تسيير الأعمال محمد الجلالي في أقصى اليسار ومحمد البشير المرشح لرئاسة «الانتقالية» في أقصى اليمين (تلغرام)

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

وجهت الإدارة الأميركية رسائل سريّة الى المعارضة السورية، وسط تلميحات من واشنطن بأنها يمكن أن تعترف بحكومة سورية جديدة تنبذ الإرهاب وتحمي حقوق الأقليات والنساء.

علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا تدخل منبج (إعلام تركي)

عملية للمخابرات التركية في القامشلي... وتدخل أميركي لوقف نار في منبج

يبحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تركيا الجمعة التطورات في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي مواطنون من عفرين نزحوا مرة أخرى من قرى تل رفعت ومخيمات الشهباء إلى مراكز إيواء في بلدة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة (الشرق الأوسط)

ممثلة «مسد» في واشنطن: «هيئة تحرير الشام» «مختلفة» ولا تخضع لإملاءات تركيا

تقول سنام محمد، ممثلة مكتب مجلس سوريا الديمقراطي في واشنطن، بصفتنا أكراداً كنا أساسيين في سقوط نظام الأسد، لكن مرحلة ما بعد الأسد تطرح أسئلة.

إيلي يوسف (واشنطن)
المشرق العربي مقاتلون من المعارضة في حمص يتجمعون بعد أن أبلغت قيادة الجيش السوري الضباط يوم الأحد أن حكم بشار الأسد انتهى (رويترز)

«داعش» يعدم 54 عنصراً من القوات السورية أثناء فرارهم

أعدم تنظيم «داعش» 54 عنصراً من القوات الحكومية في أثناء فرارهم في بادية حمص وسط سوريا، تزامناً مع سقوط الرئيس بشار الأسد.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي عنصر من المعارضة السورية المسلحة في حمص يحتفل بدخول العاصمة دمشق (إ.ب.أ)

الأردن ومخاوف من خلط أوراق المنطقة والخشية من فوضى سوريا

يبدي أمنيون أردنيون مخاوفهم من عودة الفوضى لمناطق سورية بعد الخروج المفاجئ للأسد إلى موسكو، وان احتمالات الفوضى ربما تكون واردة جراء التنازع المحتمل على السلطة.

محمد خير الرواشدة (عمّان)

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.