بروفايل: سوزانا شابوتوفا... «حارسة البيئة» ترفع شعار مكافحة الفساد

رياح التغيير تحمل المحامية العنيدة إلى رئاسة سلوفاكيا

بروفايل: سوزانا شابوتوفا... «حارسة البيئة» ترفع شعار مكافحة الفساد
TT

بروفايل: سوزانا شابوتوفا... «حارسة البيئة» ترفع شعار مكافحة الفساد

بروفايل: سوزانا شابوتوفا... «حارسة البيئة» ترفع شعار مكافحة الفساد

قبل عام واحد، لم يكن يدور في خلد المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان، سوزانا شابوتوفا، أنها ستغدو رئيسة لبلدها سلوفاكيا. كانت أحلامها تقتصر على حياة آمنة في مدينة صغيرة لعبت دوراً كبيراً في حمايتها من التلوث البيئي. كان يكفيها عملها نائبةً لرئيس بلدية بيزينوك التي وُلدت فيها، في ضواحي العاصمة براتيسلافا. لكن عناد الناشطة الحقوقية، التي كانت قد خاضت معركة قضائية لمدة 14 سنة ضد الفساد الحكومي ونفوذ «حيتان المال» المرتبطين، كما تقول روايات، بـ«المافيا الإيطالية»، لعب دوراً أساسياً في دخولها معترك السياسة العليا راكبة موجة المطالبة بالتغيير، بعدما شهدت الجمهورية الصغيرة الهادئة تقليدياً في شرق أوروبا منعطفاً سياسياً حاداً عكسَ تصاعد مزاج النقمة على الفساد المستشري والرغبة في دخول عهد جديد.

قال أحد الخبراء الروس البارزين تعليقاً على فوز شابوتوفا، في الانتخابات لتغدو أول امرأة سلوفاكية تجلس على مقعد الرئاسة في تاريخ البلاد، إن «ظاهرة شابوتوفا شكلت استجابة للرغبة في التغيير والعدالة، ووجهة جديدة في السياسة، أتت ليس من أعلى، وليس من أسفل، ولكن من حيث يوجد الدليل على أن العدالة تمتلك مقومات لحماية ذاتها».
غدت سوزانا شابوتوفا خامس رئيس للجمهورية السلوفاكية وأول امرأة تُنتخب لهذا المنصب منذ إعلان الاستقلال في عام 1993. وتبدو نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الجولة الانتخابية التي جرت أخيراً كبيرة، بالمقارنة مع الاستحقاقات المماثلة عادة في أوروبا، فهي حصدت أصوات 58 في المائة من الناخبين، متقدمة بشكل واضح على خصمها الدبلوماسي، وعضو المفوضية الأوروبية ماروس شيفتشوفيتش الذي أقر بالهزيمة، وأرسل باقة من الزهور إلى السيدة التي غدت تحمل اللقب الرئاسي. ومع كونها أول سيدة تحصل على المنصب، فهي تُعدّ حالياً أصغر رئيس في تاريخ البلاد، إذ احتفلت في 21 يونيو (حزيران) الحالي، ببلوغها 46 سنة.
وقد تكون الكلمات الأولى التي قالتها شابوتوفا بعد أداء القسم الدستوري أفضل تعبير عن قناعاتها ورؤيتها لدورها في المنصب الجديد، فضلاً عن الانسجام مع مسيرة حياتها التي قضت الجزء الأعظم منها في مدينتها الصغيرة. فهي أعربت عن سعادتها «ليس فقط بالنتيجة التي حصلت عليها، ولكن أيضاً بظهور فرصة لعدم الخضوع للشعوبية، ولرفع الصوت بالحديث عن الحقيقة وجذب الانتباه إلى القضايا العادلة، والتخلي عن لغة العدوان».
تلخص الإشارة إلى هزيمة التيار الشعوبي في سلوفاكيا منطلقاً مهماً لتقييم رؤية المحامية السلوفاكية للمسار الذي يجب أن تسلكه بلادها، فهي تشير هنا إلى المحافظة على الاتحاد الأوروبي وسياسة الاندماج، على العكس من المزاج القومي الذي برز في كثير من الدول الأوروبية، بما في ذلك في المجر (هنغاريا) وبولندا والنمسا. عملياً، يبدو نجاح شابوتوفا نجاحاً للتيار المتمسك بالقيم المشتركة للاتحاد الأوروبي وبالمصالح المشتركة في منطقة اليورو، ودفعة إضافية للمطالبين بمزيد من التكامل.

- المحامية العنيدة حارسة البيئة
لا يمكن بطبيعة الحال المبالغة في التوقعات السياسية، خصوصاً لأن سلوفاكيا تُعدّ جمهورية برلمانية. ورغم امتلاك الرئيس صلاحيات كثيرة، لكن القوة الرئيسية تتركز في أيدي رئيس الوزراء. ورغم ذلك، يرى كثيرون أهمية خاصة لهذا الصعود الكبير لنجم المحامية التي بالكاد كانت الأوساط السياسية في بلدها ترشحها لدخول المعترك الرئاسي قبل عام واحد. ومع أنها كانت ناشطة اجتماعية ومدافعة نشطة عن البيئة النظيفة، فإن نشاطها السياسي كان فقيراً، واقتصر على كونها عضواً في الحزب الليبرالي «سلوفاكيا التقدمية» الذي تم تسجيله رسمياً في نهاية عام 2017. ولم يحظَ بتمثيل بعد في البرلمان، كما لم يحقق وزناً سياسياً في البلاد، وبات معلوماً بعد انتخابها أن شابوتوفا تنوي الانسحاب من الحزب حتى تحافظ على مسافة واحدة مع كل القوى السياسية في البلاد.
ولا تخفي الرئيسة الجديدة افتقارها للخبرة السياسية العملية، إذ اقتصر نشاطها السياسي على عملها نائبةً لرئيس إدارة مدينة بيزينوك.
لكن هذه البلدة الصغيرة في الجنوب الغربي من البلاد التي لا يزيد عدد سكانها على 20 ألف نسمة، كان لها الدور الحاسم في رسم ملامح شخصية المحامية وبلورة أهدافها العملية، فهي نشأت هناك في أسرة عاملة، وفيها درست، وخاضت تجربة زواج خرجت منها بابنتين تبلغان من العمر 15 و18 عاماً. ورغم طلاقها من زوجها لكنها فضلت الاحتفاظ باسم عائلته شابوتوف.
حصلت الرئيسة الجديدة على شهادة في القانون من جامعة كومينيوس في براتيسلافا. وهي ذكرت في مقابلة صحافية أخيراً، أنه عندما بدأ زملاء الدراسة في اليوم الأول من الدراسة في مناقشة سبب اختيار كل منهم للقانون كمهنة للمستقبل، اتضح أنه لم يكن لدى أي من الطلاب الثلاثين في الفصل دوافع مالية. لم تكن شابوتوفا مهتمة أيضاً بالجانب المادي، وهو أمر برز خلال حياتها العملية لاحقاً، إذ ناضلت من أجل حقوق النساء والأطفال، وعملت لمدة 16 عاماً في قطاع غير ربحي ناشطة في جمعية مدنية عملت في مجال حماية حقوق الإنسان وتطوير الديمقراطية وتحسين نوعية حياة المواطنين وحماية الطبيعة والبيئة عبر الوسائل القانونية.
خلال عملها في هذه المؤسسة برزت «قضية عمرها» التي حولتها إلى مناضلة للحفاظ على البيئة، إذ واجهت قراراً بإنشاء مكبّ للنفايات بالقرب من مبان سكنية في مسقط رأسها، وخاضت معركة قضائية استمرت لمدة 14 عاماً وانتهت بفوزها بإلغاء القرار بعدما حشدت تأييداً شعبياً واسعاً، وأوصلت القضية إلى المحكمة الأوروبية العليا.
وقالت في وقت لاحق إنها واجهت محاولة لإنشاء مكب ضخم للنفايات يصل حجمه إلى نحو 12 ملعباً لكرة القدم، على بعد 280 متراً من المباني السكنية. واللافت في الموضوع أن شابوتوفا المحامية قادت احتجاجات شعبية وشكاوى قضائية في وجه أحد أبرز «حيتان المال» في بلادها، وهو رجل الأعمال ماريان كوشنر، الذي ارتبط اسمه بالجريمة المنظمة، وهي اعترفت في وقت لاحق بعد حسم المعركة لصالحها بأنها كانت خائفة على حياتها وعلى حياة ابنتيها، ولفترات طويلة لم تكن تسمح لهما بالتجول أو القيام بنزهات من دون مرافقة دقيقة.
في عام 2016 تم تقييم عمل شابوتوفا، إذ حصلت على جائزة «غولدمان»، وهي الجائزة الأهم التي تُمنح للناشطين في مجال حماية البيئة، وغالباً ما يُطلق عليها «نوبل الخضراء».
أهمية المواجهة مع ماريان كوشنر أن اسمه عاد إلى الواجهة مع الأحداث التي شهدتها البلاد خلال العام الأخير، وربما تكون هذه المصادفة لعبت دوراً أساسياً في اتخاذها قرار خوض المعترك الانتخابي.
ففي مارس (آذار) الماضي، اتُّهم كوشنر بالتورط في جريمة اغتيال الصحافي الاستقصائي يان كوتسيك الذي كان معروفاً بتحقيقاته التي تواجه الفساد، وقُتل مع خطيبته مارتينا كوشنيروفا العام الماضي. وأثار الحادث موجة سخط واسعة النطاق في البلاد، خصوصاً بعدما برزت محاولات للتواطؤ وإغلاق ملف الجريمة من جانب السلطات. في تلك الفترة أعلنت شابوتوفا نيتها خوض معترك السياسة، وقالت لصحافيين: «يجب أن تشهد البلاد تغييراً، وأريد أن أشارك في حدوث هذا التغيير».

- رياح التغيير
بدأت الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد، وغيّرت مسار حياة شابوتوفا تماماً، قبل عام كامل. بعد وقت قصير من العثور على الصحافي يان كوتسيك مقتولاً في منزل بالقرب من براتيسلافا. لم يكن لدى الشرطة أو الجمهور أي شك في أن جريمة الاغتيال مدبَّرة، وأن هياكل الجريمة المنظمة تقف وراءها. كان كوتسيك البالغ من العمر 27 عاماً أجرى سلسلة تحقيقات استقصائية في ملف الاحتيال المالي، وأبرز تهرباً واسعاً من دفع الضرائب لدى شخصيات بارزة ورموز النخبة السياسية في البلاد، بما في ذلك رئيس الوزراء روبرت فيكو. في المقال الأخير المنشور للصحافي، أكد كوتسيك أن فيكو مرتبط بهياكل الجريمة المنظمة في إيطاليا.
كانت هذه أول جريمة اغتيال سياسي صاخبة في الجمهورية الهادئة والمسالمة، وقد هزّت المجتمع بقوة. خرج نحو 25 ألف شخص إلى شوارع براتيسلافا، مطالبين باستقالة فيكو على الفور. وسرعان ما اندلعت مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء البلاد. لم يُشهَد هذا التضامن في شوارع سلوفاكيا منذ أحداث عام 1989 التي أدت إلى انتقال تشيكوسلوفاكيا في ذلك الحين إلى المعسكر الغربي. وأكد فيكو عدم وجود صلة له بعملية الاغتيال، في حين اتجهت أصابع الاتهام إلى رجل الأعمال الموقوف ماريان، لكن رئيس الوزراء سرعان ما اضطر لتقديم استقالته تحت ضغط الحراك في الشارع، وأعلن حل الحكومة في منتصف مارس (آذار).
في هذه الأجواء من عدم الثقة بالسلطات، كان ينبغي أن يظهر شخص ما من شأنه أن يتحدى النخبة الحاكمة، وأصبحت شابوتوفا هذا الشخص، داعية المواطنين إلى «التمرد على الشر». أعلنت قرارها الترشح للرئاسة بعد أسبوعين من استقالة فيكو، وقالت إن مكافحة الفساد الهدف الرئيسي لبرنامجها. بالإضافة إلى ذلك، استطاعت أن تجمع حولها معارضة غير ممثلة في البرلمان ذات توجه ليبرالي تمثل مختلف الجماعات العرقية والاجتماعية. وعدت شابوتوفا أيضاً بدعم حق المرأة في الإجهاض، وأيّدت حقوق المثليين.

- إيرين بروكوفيتش... السلوفاكية
سرعان ما تحولت السياسية الصاعدة إلى رمز للتغيير، وعقدت وسائل الإعلام مقارنات بين مسيرتها ومسيرة المحامية الأميركية والناشطة في مجال حماية البيئة إيرين بروكوفيتش، التي تحولت سيرتها الذاتية إلى فيلم سينمائي قدمته جوليا روبرتس. كان التشابه كبيراً إلى حد لافت: محامية تربّي طفلين بعد الطلاق، عارضت بناء مكب نفايات في مسقط رأسها، وبعد أربعة عشر عاماً من المواجهة كسبت المعركة. وهناك ناشطة بيئية ومحامية خاضت معركة كبرى أيضاً، واشتهرت بسبب قضيتها ضد شركة «باسيفيك» للغاز والكهرباء في ولاية كاليفورنيا، عام 1993.
ثمة إشارات بالطبع إلى أن مهمة الرئيسة الجديدة لن تكون سهلة. ويقول بعضهم إن شابوتوفا ستناضل من أجل العدالة منذ لحظة أداء القسم الدستوري على الجانب الآخر من المتاريس، أي من داخل السلطة. ويُتوقع أن تعمل على تنفيذ النقاط الرئيسية في برنامجها الانتخابي في خصوص حماية البيئة، لا سيما وعدها بوقف إزالة الغابات. وخلال حملتها الانتخابية أيضاً، وعدت شابوتوفا بالقضاء على الفساد، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وإصلاح النظام القضائي.
شابوتوفا تشاطر وجهات النظر الحديثة حول مؤسسة الأسرة، وتدافع عن حماية حقوق المرأة في الإجهاض، لكن دعمها لمجتمع المثليين أثار الكنيسة ضدها، وقال رئيس أساقفة ترنافا الحالي، يان أوروش، إن التصويت لشابوتوفا سيكون «خطيئة خطيرة». وقد ردت ناشطة حقوق الإنسان عليه، خلال حملتها الانتخابية، بشكل دبلوماسي، وقالت في إحدى خطبها: «يمكنك أن تتدخل في السياسة برأيك الخاص، من دون أن تكون عرضة للشعبوية. يمكنك أن تكون قوياً وواثقاً من دون الخطب العدوانية والهجمات الشخصية».

- حوار مع روسيا ومقارنات مع أوكرانيا
حددت شابوتوفا ملامح خطواتها الأولى السياسية بعد أداء اليمين الدستورية. فهي مع تمسكها ببرامجها الداخلية أكدت على مواصلة سياسة الاندماج مع الاتحاد الأوروبي والدفاع عن سياساته، وهي في الوقت ذاته أبدت انفتاحاً على الحوار مع روسيا التي بات هاجس تدخلها في الاستحقاقات الانتخابية في الغرب مصدر قلق للسياسيين الغربيين. قالت شابوتوفا إنها ترى ضرورة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، وأيدت موقف الكرملين المعارض لممارسة ضغوط عبر فرض سياسات العقوبات. هذه العبارات تلقفتها موسكو بحماسة، وتناقلتها وسائل الإعلام الروسية بقوة.
في الوقت ذاته، يعقد كثيرون في روسيا مقارنات لافتة بين نتائج الانتخابات الرئاسية أخيراً، في سلوفاكيا، التي فازت بها شابوتوفا، والاستحقاق الانتخابي الرئاسي قبل ذلك في أوكرانيا الذي حمل إلى مقعد الرئاسة الممثل الهزلي فلاديمير زيلينسكي. وبالفعل فإن بين الحدثين عناصر متشابهة كثيرة. في الحالين جاء الرئيس من خارج النخب السياسية وبشكل مفاجئ قلب توقعات المراقبين. وفيهما برز شعار مكافحة الفساد ومواجهة تحكم بعض «حيتان المال» في مفاتيح القرار. وفي البلدين أظهرت النتائج انقلاب الناخبين على التيارات الشعبوية والقومية لصالح خطط الإصلاح الليبرالي. وفي البلدين كان مزاج التغيير والرغبة في دخول عهد جديد العنصر الأهم الذي حمل مرشحاً عديم الخبرة تقريباً بالسياسة إلى مقعد الرئاسة. يبقى أن تأثير شابوتوفا على سياسات الكرملين محدود، بينما تراقب موسكو بحذر شديد كل خطوة يقوم بها الرئيس الأوكراني الجديد.


مقالات ذات صلة

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

حصاد الأسبوع الدمار في غزة (أ ب)

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع كاثلين هيكس (آب)

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي

«الشرق الأوسط» (اشنطن)
حصاد الأسبوع العلم السويدي يخفق وسط الشرطة والمدنيين (د ب آ)

السويد... عقد من الترحيب ينتهي بقيود صارمة على الهجرة

في مشهد سياسي أوروبي متحول، تقف السويد اليوم شاهدة على أحد أكثر التحولات الجذرية في سياسات الهجرة واللجوء. فالبلد الذي فتح أبواب الهجرة لأكثر من 160 ألف طالب

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع علم "المجلس النوردي" (المجلس النوردي)

تحذيرات في أوساط الاقتصاديين والحقوقيين

> يحتفي الائتلاف الحاكم في السويد بما يعتبره «إنجازاً» في تراجع أعداد طالبي اللجوء، بعدما سجل عام 2024 أدنى مستوى له منذ عام 1985، بواقع 6250 طلباً فقط.


كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.