71 مليون إنسان بالعالم خارج بيوتهم في العام الماضي

ثلثا اللاجئين يأتون من 5 دول هي سوريا وأفغانستان وجنوب السودان وميانمار والصومال

اطفال سوريون في مخيم للنازحين في سهل البقاع اللبناني (غيتي)
اطفال سوريون في مخيم للنازحين في سهل البقاع اللبناني (غيتي)
TT

71 مليون إنسان بالعالم خارج بيوتهم في العام الماضي

اطفال سوريون في مخيم للنازحين في سهل البقاع اللبناني (غيتي)
اطفال سوريون في مخيم للنازحين في سهل البقاع اللبناني (غيتي)

أعلنت الأمم المتحدة، أمس، أنه تم تسجيل أكثر من 70 مليون لاجئ أو مهاجر في 2018، وهو رقم قياسي لكنه أقل من العدد الفعلي للأشخاص الذين نزحوا من ديارهم أو طالبي اللجوء.
ووصفت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في تقرير سنوي حول اللاجئين عدد 70.8 مليون بأنه «متحفظ»، وخصوصا لأن الأشخاص الذين فروا من الأزمة الخانقة في فنزويلا لم يتم إحصاؤهم بالكامل. وأوضح التقرير أن أكثر من ثلثي اللاجئين في العالم يأتون من خمس دول هي سوريا وأفغانستان وجنوب السودان وميانمار والصومال.
وفي نهاية 2017 بلغ عدد الذين أجبروا على النزوح من ديارهم بسبب العنف أو الاضطهاد 68.5 مليون شخص.
ونسبت المفوضية تزايد العدد لاستمرار النزوح في إثيوبيا بسبب النزاعات العرقية، وفي فنزويلا حيث يفر الآلاف كل يوم وسط انهيار اقتصادي تسبب في نقص المواد الغذائية والدواء.
وتقدر الأمم المتحدة عدد الأشخاص الذين فروا من فنزويلا منذ مطلع 2016 بنحو 3.3 مليون شخص.
وقال رئيس المفوضية فيليبو غراندي للصحافيين في جنيف إن العدد 70.8 مليون يشمل فقط الفنزويليين الذين تقدموا رسميا بطلب لجوء، وهم نحو نصف مليون شخص. وفي الإجمال فإن عدد النازحين في العالم ازداد بمقدار الضعف في السنوات العشرين الماضية، ويتخطى حاليا عدد سكان تايلاند. وهذا التوجه، حسب غراندي، يواصل «مساره الخاطئ».
بحسب تعريف منظمة العفو الدولية فإن اللاجئ هو الشخص الذي يفر من بلده الأم ولا يستطيع العودة إليه أو لا يعود بسبب النزاع أو خشية تعرضه للاضطهاد.
ويذكر التقرير 41.3 مليون شخص نزحوا داخل بلدانهم و25.9 مليون لاجئ و3.5 مليون طالب لجوء، هم الذين ينتظرون البت في طلب حصولهم رسميا على وضع لاجئ بحاجة للحماية.
والدولتان اللتان لديهما أكبر عدد من النازحين، أي فروا داخل بلدهم، هما سوريا التي ترزح تحت نزاع منذ 2011 وكولومبيا التي تعصف بها أعمال عنف منذ عقود، وفق مفوضية اللاجئين.
وتشمل مجموعة اللاجئين، بحسب التقرير، 5.5 مليون فلسطيني يقيمون في عدد من الدول وخصوصا لبنان والأردن.
والحل الأفضل للاجئ هو العودة إلى دياره عندما يهدأ الوضع في بلده، لكن غراندي لفت إلى أن 20 في المائة منهم يقيمون في المنفى منذ أكثر عقدين.
وقال رئيس المفوضية: «نكاد نصبح غير قادرين على صنع السلام». وأضاف: «صحيح أن هناك نزاعات جديدة وأوضاعا جديدة تنتج لاجئين (... لكن) النزاعات القديمة لا يتم حلها». وتابع: «متى كان النزاع الأخير الذي تذكرون أنه تمت تسويته».
وسعت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أحيانا إلى التصدي لعبارة «أزمة المهاجرين» وخصوصا لأنها ارتبطت بموجة تدفق المهاجرين إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
وقالت المفوضية إنه فيما الهجرة الجماعية تمثل تحديات خطيرة، لكن بالإمكان إدارتها، وخصوصا من جانب دول أغنى. وأشاد غراندي بألمانيا لاستقبالها مهاجرين ولجهودها نحو «إزالة الغموض» عن الفكرة القائلة إن الهجرة لا يمكن ضبطها «حتى عندما تكون الأرقام كبيرة جدا».
وقال غراندي في جنيف قبيل إصدار التقرير في برلين «عادة لا أحب أن أشيد وأنتقد لكن أعتقد أن هذه هي الحالة، أود أن أشيد بألمانيا لما فعلته».
ولفت إلى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دفعت «ثمنا باهظا» سياسيا لانفتاحها على الهجرة، مضيفا أن ذلك أضفى على أفعالها «جرأة أكبر». ودعا وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى مساعدة اللاجئين ليس فقط في الاتحاد الأوروبي، بل أيضا في الدول النامية والصاعدة. وكتب ماس الأربعاء على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «إنهم يحتاجون أيضا إلى دعمنا... إنهم بحاجة إلى منظور جديد للحياة، لأن كرامة الإنسان غير قابلة للمصادرة».
ورحب ماس بنشر تقرير المفوضية هذا العام في برلين، وقال: «هذا بالنسبة لي اعتراف كبير بالإسهام المهم الذي قدمته ألمانيا لحماية اللاجئين على مستوى العالم»، مضيفا أن ألمانيا استقبلت كثيرا من اللاجئين الذين عايشوا المعاناة والحرب.
وكان من الوعود الرئيسية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقليص الهجرة غير المشروعة على امتداد الحدود مع المكسيك. وقال غراندي إن من حق مواطني أميركا الوسطى الواصلين إلى الولايات المتحدة هربا من العنف أو الاضطهاد في غواتيمالا وهندوراس والسلفادور أن يتقدموا بطلبات للجوء. وأضاف أن على الولايات المتحدة أن تتيح لهؤلاء فرصة عادلة لعرض حالاتهم وألا تفصل الأبناء عن الآباء، موضحا أن المفوضية على استعداد لمساعدة السلطات الأميركية في التعامل مع هذا التحدي.
وذكر التقرير أن الولايات المتحدة جاءت على رأس الدول المستقبلة لطلبات اللجوء في العام الماضي بعدد 254300 طلب لجوء في عام 2018.
لكن غراندي قال إن الولايات المتحدة لديها عدد هائل متراكم من الحالات التي يتعين البت فيها يبلغ 800 ألف حالة وإن المفوضية تساعد المكسيك أيضا في تدعيم قدراتها على التعامل من طلبات اللجوء.
وسئل غراندي إن كانت سياسات ترمب قد زادت من صعوبة عمل المفوضية، فقال: «ليس في الولايات المتحدة فقط بل في أوروبا وفي أستراليا أيضا». وقال: «هذه هي أزمة التضامن التي تحدثت عنها. وتكمن في التعرف على اللاجئين والمهاجرين الذين لديهم مشكلة بدلا من الذين يهربون من مشكلة».
وأضاف أن المشكلة أخذت طابعا سياسيا شديدا في أوروبا الأمر الذي جعل بعض الحكومات «ترتعب» من الالتزام باستقبال من تم إنقاذهم من البحر بعد الهرب من ليبيا أو مناطق صراع أخرى. وتابع: «ولذا فالنداء الذي أوجهه، الآن بعد أن أصبحنا في وضع تجاوزنا فيه انتخابات (البرلمان) الأوروبي، هو التوقف عن هذا التهييج الانتخابي. فمن الممكن بكل صراحة استيعاب الأعداد القادمة إلى أوروبا».
الروهينغا
ودعا ائتلاف لأقلية الروهينغا الأربعاء إلى استقالة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد أن خلص تحقيق للأمم المتحدة إلى «إخفاق منهجي» في سلوك المنظمة في ميانمار.
وخلص التقرير، الذي أعده وزير خارجية غواتيمالا السابق جيرت روزنتال وتم إصداره الاثنين، إلى أن هناك «أخطاء جسيمة قد ارتكبت وهناك فرص قد ضاعت» قبل إجراءات عسكرية صارمة اتخذها الجيش في عام 2017 وأدت إلى فرار مئات الآلاف من مسلمي الروهينغا من البلاد.
ودعا «ائتلاف الروهينغا الحر» اليوم الأربعاء إلى استقالة «كبار قادة الأمم المتحدة الذين تقع بين أيديهم مسؤولية إدارة نظام الأمم المتحدة بالكامل» بعد أن «خذلت» قيادتهم وإدارتهم «الآلاف من الروهينغا الذين تم ذبحهم جماعيا أو تشويههم أو اغتصابهم أو ترحيلهم بعنف».
ووصف روزنتال في تقريره انعدام الاستعداد داخل مكتب الأمم المتحدة في ميانمار للرد على اضطهاد الحكومة للروهينغا في ولاية راخين. وأكد التقرير الاتهامات بأن ريناتا لوك - ديسالين، المنسقة المقيمة السابقة للأمم المتحدة في ميانمار: «تعمدت إخفاء الصفة الدرامية للأحداث في تقاريرها» من أجل تجنب تهديد علاقة مكتبها مع الجيش.
ومع ذلك، خلص جيرت روزنتال إلى أن المسؤولية عن ذلك مسؤولية جماعية، ولم يشر إلى مسؤولية أي فرد على أداء المكتب «الذي اتسم بالخلل الوظيفي بشكل واضح».
وقال ائتلاف الروهينغا الحر في بيان: «يشير أي تقرير يتعلق بالتقييم الداخلي إلى إخفاقات منهجية مع عدم توزيع المسؤولية... يتجنب تماما مواجهة قضية المساءلة والإفلات من العقاب فيما يتعلق بسلوك مسؤولي الأمم المتحدة».
وتابع البيان أنه «ينبغي محاسبة الأمين العام ونوابه الإداريين على الإخفاقات التي شجعت حتى الآن استمرار ميانمار في الاضطهاد والإبادة الجماعية للروهينغا».
ووفقا لائتلاف الروهينغا الحر، يتحمل غوتيريش مسؤولية شخصية عن الفظائع التي ترتكب ضد الروهينغا؛ لأنه بصفته المفوض السامي لشؤون اللاجئين في عام 2012 التقى رئيس ميانمار آنذاك ثين سين، الذي أطلع غوتيريش بشأن خطط لحبس المدنيين الروهينغا في مخيمات منفصلة وطلب مساعدة الأمم المتحدة في نقل الروهينغا إلى بلد ثالث.
ورغم أن مكتب غوتيريش في ذلك الوقت رفض الطلب، يقول ائتلاف الروهينغا إنه كان ينبغي عليه فعل المزيد لمنع نقل الروهينغا.
وجاء في بيان الائتلاف أنه «بناء على ذلك فإن نية ميانمار لارتكاب جرائم دولية قد وضحت على أعلى المستويات في الأمم المتحدة، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء».
ووجه فيل روبرتسون، نائب مدير قسم آسيا في منظمة هيومن رايتس ووتش، انتقادات مماثلة لما جاء في تقرير روزنتال، قائلا لوكالة الأنباء الألمانية: «بالنظر إلى حجم الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة ضد الروهينغا في ولاية راخين، والتي أنشأت أكبر مخيم للاجئين في العالم في بنغلاديش في غضون أسابيع، لا يمكن وصف هذا التقرير إلا بأنه انتقاد لاذع كئيب وخيبة أمل كاملة».
وقال: «كان ينبغي فصل أشخاص بسبب هذه الإخفاقات، بدءا من ريناتا لوك - ديسالين، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة (سابقا) التي ترأست هذه الفوضى وقللت باستمرار من حدة الأزمة حتى فوات الأوان».
وأضاف: «يبدو التقرير الآن بشكل متزايد وكأنه تمرين تمهيدي من جانب غوتيريش، بهدف إظهار الالتزام بالمساءلة، بينما في الواقع يحدث عكس ذلك تماما». وقال إن «شعب ميانمار يستحق تفسيرا أفضل بكثير من هذا من الأمم المتحدة».


مقالات ذات صلة

لازاريني: متمسكون بالأمل ونتطلع لاستئناف الدعم الأميركي لـ«الأونروا»

المشرق العربي أكد لازاريني أن «الأونروا» تحظى بدعم مالي وسياسي قوي من السعودية (صور الأمم المتحدة) play-circle 01:02

لازاريني: متمسكون بالأمل ونتطلع لاستئناف الدعم الأميركي لـ«الأونروا»

تواجه وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحديات غير مسبوقة، مع اقتراب موعد تنفيذ قرار الاحتلال الإسرائيلي منع عملها في الأراضي…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
المشرق العربي المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن يتحدث عبر دائرة تلفزيونية مغلقة من جنيف لأعضاء مجلس الأمن في نيويورك (الأمم المتحدة)

مسؤولان أمميان ينقلان المخاوف السورية إلى مجلس الأمن

نقل مسؤولان أمميان هواجس السوريين إلى مجلس الأمن بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد وشدّدا على التمسك بمقتضيات القرار «2254» رغم تحفظات السلطات المؤقتة

علي بردى (واشنطن)
أوروبا جانب من الدمار جراء الغارات الروسية على مدينة تشيرنيف الأوكرانية (رويترز)

مقتل أكثر من 12300 مدني منذ بدء الحرب في أوكرانيا

قالت مسؤولة في الأمم المتحدة، اليوم (الأربعاء)، إن أكثر من 12300 مدني قُتلوا في الحرب الأوكرانية منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا قبل نحو ثلاث سنوات.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
المشرق العربي نازحون لبنانيون من قرى حدودية مع إسرائيل في إحدى مدارس مدينة صور (أرشيفية - الشرق الأوسط)

نداء أممي لجمع 370 مليون دولار لمساعدة المتضررين من الحرب في لبنان

أطلقت الأمم المتّحدة والحكومة اللبنانية، الثلاثا،ء نداء جديدا لجمع تبرّعات بقيمة 371.4 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للسكّان المتضرّرين.

«الشرق الأوسط» (الأمم المتّحدة)
خاص الرئيس اليمني رشاد العليمي خلال استقبال سابق للسفيرة عبدة شريف (سبأ)

خاص سفيرة بريطانيا في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»: مؤتمر دولي مرتقب بنيويورك لدعم اليمن

تكشف السفيرة البريطانية لدى اليمن، عبدة شريف، عن تحضيرات لعقد «مؤتمر دولي في نيويورك مطلع العام الحالي لحشد الدعم سياسياً واقتصادياً للحكومة اليمنية ومؤسساتها».

عبد الهادي حبتور (الرياض)

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.