مدارس الفكر السكندرية

لوحة فنية عن مكتبة الإسكندرية استناداً إلى شواهد أثرية
لوحة فنية عن مكتبة الإسكندرية استناداً إلى شواهد أثرية
TT

مدارس الفكر السكندرية

لوحة فنية عن مكتبة الإسكندرية استناداً إلى شواهد أثرية
لوحة فنية عن مكتبة الإسكندرية استناداً إلى شواهد أثرية

في الإسكندرية، سيداعبك الهواء النقي وأنت تتأملها من أعلى نقاطها، فيمتد البحر أمامك لأقصى مرمى يدركه بصرك، فيحل جمالها عليك، ويحتويك عمقها التاريخي، وستغشيك الروح الثقافية أغلب الظن لو تذكرت تاريخها الثقافي والفكري، فلقد كانت الإسكندرية، منذ أن أسسها «الإسكندر الأكبر» عام 322 ق. م. حتى نهاية القرن الخامس الميلادي، مدينة الفكر والثقافة والفنون والخيال في العالم كله، مستغلة في ذلك مركزها الجغرافي العظيم وسط حضارات الشرق، فلم تكن فقط أهم مدينة تجارية، ولكنها صارت نقطة تلاقي الفكر والفلسفة والعلوم، فلقد آثر «بطليموس سوتر» استبدال الإسكندرية بأثينا، لتكون المركز العلمي والفكري الدولي، فجذب إليها العلماء والمفكرين من كل اتجاه، وتشير المصادر التاريخية إلى أنه أنشأ مدرسة «الموزيوم» (Mousiem) لتكون أول مدرسة فكرية بها، والنواة لهذا الغرض، فقدم لها كل التسهيلات، وكفل كل القادمين من العلماء والمفكرين والفلاسفة، ليبدعوا فيخلقوا من الإسكندرية مع مرور الوقت المركز الفكري والثقافي المنشود، فرصد لها التمويل والبيئة لكي تصبح ليس فقط أداة نقل للثقافة اليونانية، بل لتتفاعل التيارات الفكرية المختلفة فيها، فتصبح مركزاً لصناعة الثقافة والفكر الدوليين، وتكون مرجعية الفكر في العالم المتحضر، وهو ما استتبع إنشاء مكتبة الإسكندرية العظيمة التي جمعت في طياتها ما يقرب من سبعمائة ألف كتاب ومخطوط دولي. ولم يقتصر رواد المدرسة على اليونانيين فقط، بل إنها كانت مدرسة شاملة، فجاءها أمثال «أوكليديوس» و«أرخميدس»، وغيرهما، إضافة إلى الفلاسفة والمفكرين.
ومع الزمن، سلمت هذه المدرسة ذلك المصباح العلمي والفكري لمدرسة أخرى معروفة باسم «السرابيوم» التي حملت اللواء نفسه، وفيها تجلت حركة الفكر والمعرفة، خصوصاً بحلول القرن الأول الميلادي، فقد احتضنت هذه المدرسة أهم التيارات الفكرية والفلسفية في ذلك الوقت، وعلى رأسها المدرسة «الرواقية» و«الأفلاطونية» و«المشائية»، وغيرها، ومعها ختم تزويج الفكر اليوناني والثقافات الشرقية المنتشرة، من المصرية إلى البابلية والآشورية، وغيرها، وتلاحمت هذه الأفكار مع الديانات المختلفة، خصوصاً الوثنية السائدة منها، بل إنها جذبت إليها مفكرين يهود جمعوا بين الفلسفة واليهودية، وعلى رأسهم «فيلون السكندري» الذي ساهم بشكل كبير في تطوير الفكر اليهودي خارج النطاق اللاهوتي التقليدي، ولم تتأثر هذه الحركة الفكرية المتوهجة بالحريق الأول لمكتبة الإسكندرية، أو الاحتلال الروماني لمصر عام 30م، فسرعان ما استردت «السرابيوم» رونقها الفكري، ولكنها بدأت تواجه منافسة جديدة متمثلة في «المدرسة اللاهوتية المسيحية» (Catechetical School) التي كان لها أكبر الأثر في التطور الفكري والعقائدي للمسيحية ذاتها.
وواقع الأمر أن تاريخ إنشاء هذه المدرسة مُختلف عليه بين المؤرخين، فالبعض يؤكد نسبتها للقديس «ماري مرقس» الذي أدخل المسيحية مصر في حدود عام 44م، بينما يذهب آخرون لتاريخ لاحق. وقد أصبحت هذه المدرسة محورية في نشر الديانة المسيحية، متأثرة بالثقافة والفكر السائدين في ذلك الوقت، لتقريب المسيحية لهما، ومواجهة سهام وانتقادات الوثنيين للديانة الجديدة، وهو ما جعلها في حاجة ماسة إلى الفلسفة والثقافة للتقرب لقلوب وروح العصر، وكانت هذه هي أول مدرسة لاهوتية مسيحية في العالم، مما جعل الإسكندرية مع مرور الوقت القلعة القوية التي رسخت العقيدة المسيحية في فترات اضطرابها الفكري والعقائدي لمدة قاربت القرون الأربعة. وحقيقة الأمر أن الكنيسة، رغم اعتمادها على هذه المدرسة، وتأسيسها لتكون منبراً دعوياً، فإنها كانت حريصة كل الحرص، على الأقل في القرون الأولى، على الفصل التدريجي بين السلطة الروحية للكنيسة، ممثلة في بطريرك الإسكندرية وسلكه الإيكليريوسي من ناحية، والمدرسة من ناحية أخرى، رغم تبعيتها لها، فلقد آثر البطاركة مع الوقت جعل هذه المدرسة أول معهد علمي لاهوتي للمسيحية، وهو ما أدي إلى اعتلاء «كليمنت السكندري» (Clement) رئاستها، فكان عظيم الأثر، حيث فتح المدرسة للمناهج المختلفة كافة، وعلى رأسها الفلسفة والأخلاق والمنطق والفلك والجدل... إلخ، مؤكداً الحاجة الماسة للفكر والفلسفة من أجل حماية المسيحية، مساهماً بشكل كبير في خلق القاعدة العلمية لما عُرف بعد ذلك بـ«مدرسة المدافعين» (Schola Apologetica) عن المسيحية، مؤمناً بمبدأ الانتقاء الفلسفي، بحيث يكون الهدف هو أخذ كل الأفكار المثبتة فكرياً، وتعتلي عرش الفكر، لتكون أساساً للفهم والدفاع عن المسيحية، وقد لعبت هذه المدرسة دوراً مهماً في التوفيق العملي بين مدرسة النقل والعقل داخل المسيحية ذاتها، خصوصاً أن كثيراً من أركان المسيحية كانت في حاجة إلى الفلسفة للدفاع عن أسسها، وقد استمر هذا النهج حتى رؤي أهمية قصرها على البعد اللاهوتي فقط، فخسرت المسيحية، ومعها كنيسة الإسكندرية، الكثير من قوتها الناعمة مع الوقت. وبانطفاء هذه المدرسة، انتهي معها الرونق الفكري السكندري، ولكن ليس قبل أن تنجب هذه المدرسة أعظم فلاسفتها على الإطلاق في القرن الثالث الميلادي، وهو «أوريجين»، ولهذا حديث آخر. وهكذا، ساهمت الإسكندرية بمدارسها في صناعة التاريخ الفكري، وبدرجات أقل السياسي، فليس بالقوة العسكرية والرخاء الاقتصادي وحدهما تُبنى الدول، فالفكر صناعة، والثقافة سلعة، وكلاهما قوة قد لا تقل وزناً.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!