الشرق الأوسط و«الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية

من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
TT

الشرق الأوسط و«الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية

من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017

تناقش صفحة قضايا موضوع الصعود الصيني السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية، وانعكاس ذلك على المنافسة الواضحة مع القوة الأميركية في كثير من الساحات والمجالات، ومنها ما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط. ويلقي الخبير الأميركي ديفيد بولوك ضوءاً على تأثير التوترات التجارية بين أميركا والصين على الشرق الأوسط، من ناحية تقليص نمو معظم اقتصادات المنطقة.
ناحية أخرى يتناولها الخبيران في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن دان أربيل وديفيد غوردون تتناول انعكاسات التعاون المتقدم بين إسرائيل والصين في المجالات التقنية والتجارية على العلاقات الإسرائيلية - الأميركية.

لا يعتبر الخلاف الاقتصادي الكبير المشتعل اليوم بين الولايات المتحدة والصين حرباً بالمعنى الحقيقي، ولا حتى حرباً اقتصادية، وإنما يمثل بصورة جوهرية تصعيداً لسلسلة من التعريفات العقابية، أو الضرائب التي بدأت كل دولة في فرضها على الواردات القادمة من الأخرى. وكانت خطوة البداية من نصيب الولايات المتحدة، والتي فرضت تعريفات جديدة وصلت إلى 25 في المائة على واردات صينية شتى بقيمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وبعد ذلك، انتقمت الصين بالأسلوب نفسه. واليوم يهدد الجانبان باتخاذ مزيد من الخطوات في هذه الدائرة المفرغة.
بصورة عامة، يلحق هذا النوع من المنافسة السلبية الضرر باقتصاد كلا الطرفين، لأن الضرائب الجديدة تجعل الواردات أعلى سعراً، وبالتالي يضطر المستهلكون لسداد أسعار أعلى وشراء سلع أقل. ويترتب على ذلك تراجع في مجمل الحركة التجارية، ويتراجع معها النمو الاقتصادي في كلا البلدين. ولذلك يقول الكثير من الخبراء إن الحروب التجارية ليس فيها طرف فائز، وإنما خاسرون فقط ـ وإن كان من الممكن أن يتكبد أحد الطرفين خسارة أفدح عن الآخر. مثلاً، تعاني بالفعل الصادرات الزراعية الأميركية للصين، إحدى السلع الكبرى، بالفعل من ضرر بالغ جراء ما يدور بين البلدين. وبسبب ذلك وجد الرئيس ترمب نفسه مضطراً لتخصيص مليارات إضافية من الموازنة الحكومية لـ«إنقاذ» المزارعين المتضررين من موجة الزيادات الأخيرة في التعريفات المتبادلة بين البلدين.
لماذا أقدم ترمب إذن على هذه الحرب التجارية مع الصين؟ في الجزء الأكبر منها، يبدو ذلك محاولة لممارسة ضغوط على الصين لإصلاح بعض سياساتها الاقتصادية المهمة: التجسس الصناعي وسرقة الملكية الفكرية والنقل القسري للتكنولوجيا والإعانات الحكومية الضخمة لصناعات منتقاة وفرض قيود صارمة على الشركات الأجنبية في قطاعات جوهرية بعينها... وغيرها. ويتفق الكثير من المراقبين الأميركيين، ومن بينهم حتى بعض أقسى منتقدي ترمب من الليبراليين، أمثال الكاتب الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، على أن الصين تغش في التزاماتها في هذه المجالات أمام منظمة التجارة الدولية التي انضمت إليها منذ نحو عشرين عاماً.
ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه التعريفات الجديدة ستكون فعالة في تحسين سجل الصين. إلا أنه حتى ولو لم تكن فعالة، تبقى هناك فرصة معقولة أن تتوقف الولايات المتحدة عن تصعيد هذه الدائرة لمستوى أكبر، كي تتجنب وقوع أضرار اقتصادية متبادلة أكبر. في الواقع ينصح بعض كبار صانعي السياسات الأميركيين الآن بالتحلي بحذر أكبر في هذا الشأن. وأعتقد أن الولايات المتحدة والصين ستتوصلان قريباً إلى سبل للتوصل لاتفاقات، بدلاً من الاستمرار في التصعيد ومواجهة تكاليف أكبر وأطول أمداً.
ما تنبغي الإشارة إليه هنا أن أي رئيس أميركي يملك سلطة قانونية وعملية كبيرة لفرض تعريفات وسياسات تجارية دولية أخرى. وتعتمد هذه السلطة الشخصية للرئيس على القوانين الأميركية القائمة، مثل قانون السلطات الاقتصادية الدولية الطارئة والعديد من القوانين المشابهة الأخرى. ويتمثل الاختلاف الموجود اليوم في أن ترمب يبدو حريصاً للغاية على ممارسة هذه السلطة على نحو قوي ومفاجئ. وخلال مناقشات جرت بيني وبين مسؤولين وخبراء صينيين حول هذا الأمر، سواء في الصين أو واشنطن أو الشرق الأوسط، فوجئت باهتمامهم الشديد بأسلوب صنع القرار الذي يتبعه الرئيس الأميركي الحالي والذي يتسم بالقوة ويتعذر التنبؤ به ـ بما في ذلك حقيقة أنه أحياناً يغير رأيه فجأة، حتى بخصوص القضايا الحساسة والمثيرة للجدل.
الآن ولأن الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم (وإن كانت الولايات المتحدة لا تزال أكبر بكثير، وأكثر ثراءً بكثير بالنسبة للفرد)، ولأنهما شريكان تجاريان مهمان لبعضهما البعض، فإن انكماش التجارة بينهما لن يضر اقتصاد البلدين فقط، وإنما الاقتصاد العالمي ككل. ولذلك تميل أسواق الأسهم حول العالم، على سبيل المثال، إلى التراجع لدى ورود أنباء عن مزيد من التوترات التجارية الأميركية ـ الصينية، وترتفع عندما تهدأ التوترات.
وينقلنا هذا أخيراً لتأثير هذه التوترات التجارية على الشرق الأوسط. إذا استمرت «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين، وتسببت بالتالي في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي أو حتى حالة ركود عالمي، فإن هذا سيؤدي بصورة شبه مؤكدة إلى تقليص نمو معظم اقتصاديات الشرق الأوسط هي الأخرى. من أبرز الأسباب وراء ذلك أن أسعار النفط تميل في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية. وعندما تنكمش هذه الإمكانات، تميل أسعار النفط نحو الانخفاض هي الأخرى ـ ويعتمد الكثير من اقتصاديات الشرق الأوسط على عائدات النفط، وبالتالي ستتعرض لأضرار مضاعفة. ومن المحتمل أن يشكل ذلك النتيجة الأهم على المنطقة لما يجري من مد وجزر في العلاقات الاقتصادية الأميركية - الصينية.
ومن المحتمل أن تتعرض المنطقة لبعض التداعيات الأخرى، حتى وإن كانت بصورة غير مباشرة. وربما تبدأ الولايات المتحدة والصين في التطلع نحو مناطق أخرى بخلاف بعضهما البعض بحثاً عن أسواق جديدة ومداخلات اقتصادية وفرص استثمارية. وإلى حد معين، من الممكن أن يؤدي ذلك لإعادة توجيه بعض النشاطات الاقتصادية الأجنبية نحو عدد من المواقع المختارة في الشرق الأوسط. مثلاً، يمكن أن تزيد الصين بدرجة كبيرة من نشاطات البناء وعدد من النشاطات الاقتصادية الأخرى في دول عربية تتسم بعدد كبير من السكان وأسعار منخفضة نسبياً، مثل مصر. وربما تتحرك شركات أميركية في اتجاهات مشابهة.
في هذا الإطار، تتمثل نقطة بالغة الأهمية في أن دول الشرق الأوسط لن تضطر في معظم الأحوال إلى الاختيار بين بناء روابط قوية مع إما الصين أو الولايات المتحدة ـ على خلاف الحال مثلاً فيما يتعلق بالعقوبات الحالية التي تجبرها على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران. وبالتالي فإن ازدياد الاهتمام الصيني والأميركي بالفرص التجارية في الشرق الأوسط ربما يقلص الأضرار الاقتصادية الأوسع الناجمة عن «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية. ومع ذلك تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين على دول الشرق الأوسط خلالها الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في التردي. من بين هذه المجالات القطاع الأمني وما يرتبط به من تجارة واستثمارات ـ سواء أسلحة أو تكنولوجيا سيبرية أو مواد خام حساسة. ومن بين الأمثلة في هذا الجانب الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة «هواوي» الصينية، وبيع معدات عسكرية أميركية متقاعدة. وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة، وحرمان الأخرى منها. في هذه الحالة، ستتعرض دول الشرق الأوسط لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية، التي تتميز بطابع جيوسياسي لا يقل أهمية عن الطابع الاقتصادي لها.
وبذلك فإنه بصورة عامة من المحتمل أن تترك «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية تأثيراً محدوداً أو غير مباشر على الشرق الأوسط. ويتعين على صانعي السياسات في الشرق الأوسط البحث عن تسوية ما لهذه التوترات التجارية القائمة بين العملاقين الاقتصاديين البعيدين. ومن شأن ذلك خدمة مصالح اقتصاديات الشرق الأوسط، بجانب الاقتصادين الأميركي والصيني.

* خبير في معهد واشنطن
لسياسات الشرق الأدنى



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».