علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

في أعقاب تفعيل سلسلة إجراءات للتضييق على اللاجئين

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء
TT

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

علاقات لبنان مع سلطات دمشق تتأرجح على حبال ملف اللجوء

أرخت التطوّرات الأخيرة التي شهدها لبنان، المرتبطة بملف اللجوء السوري، بظلالها على العلاقات اللبنانية - السورية.
وبات واضحاً وجود سياسة جديدة تنتهجها الدولة اللبنانية في التعاطي مع الملف، بعد نحو 8 سنوات من «العشوائية» في معالجة هذه الأزمة، نتيجة الخلافات والانقسامات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية التي فعلت فعلها، ولا تزال، معلّقة موضوع العودة إلى أجل غير مسمى.

السياسة اللبنانية الجديدة حيال اللاجئين السوريين اتضحت مما أشيع عن خروج الوفد السوري من قاعة مؤتمر العمل الدولي عام 2019، الذي انعقد في جنيف بسويسرا، أثناء إلقاء وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان كلمته. وفي تلك الكلمة، قال أبو سليمان إنها «تتضمّن موقف لبنان الرسمي»، وإنه «سبق أن أطلع رئيس الجمهوريّة عليها، وأجرى بعض التعديلات الطفيفة مع سفير لبنان لدى المنظمات الدوليّة في جنيف». وبدا أن النظام السوري ليس ممتناً من الموقف اللبناني الرسمي المستجَد، الذي يُحمِّل اللاجئين مسؤولية كل المشكلات والأزمات اللبنانية، ويدفع باتجاه الضغط عليهم للعودة.
المندوب الدائم لدمشق لدى الأمم المتحدة في جنيف، السفير حسام الدين آلا حاول أن يناقض الرواية التي تقدم بها الوفد اللبناني بخصوص موضوع الانسحاب، فقال لوكالة «سانا» السورية الحكومية إن الوفد السوري إلى الدورة الـ108 لمؤتمر العمل الدولي، برئاسة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ريمة قادري، لم يكن داخل قاعة المؤتمر إبان إلقاء أبو سليمان كلمته، لأن قادري كانت تعقد اجتماعات ثنائية مع نظرائها على هامش الجلسة الصباحية.
وتحدث آلا عن «لغط حاولت بعض الأطراف اللبنانية افتعاله حول مزاعم خروج الوفد السوري من قاعة الاجتماعات، إلا أن أبو سليمان أكد أن الوفد السوري كان جالساً في الصفّ الأول، وحين بدأ يتحدث عن ملف النازحين السوريين بدأ أفراده بالانسحاب، الواحد بعد الآخر... في تكرار لما حصل في عيد العمّال، حين انسحب السفير السوري عند إلقاء كلمتي في الاتحاد العمالي العام».
مصادر في قوى «8 آذار»، المؤيدة للنظام السوري داخل لبنان، وهي مطلعة على الموقف السوري، ذكرت «أن ما أزعج وفد دمشق ليس موقف لبنان من ملف النزوح، إنما أبو سليمان نفسه ومحاولته وحزب (القوات اللبنانية) الذي ينتمي إليه تصوير أن الدولة السورية هي التي ترفض عودة مواطنيها إلى بلدهم». وأكدت المصادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن دمشق «تعتبر موقف بيروت ممتازاً فيما يتعلق بقضية النزوح (اللجوء)، ولا ترى أي مشكلة في الإجراءات المتخذة أخيراً، من منطلق أن ما يعنيها تحقيق العودة من دون أن تتدخل بشؤون لبنان، والتدابير التي يتخذها لتحقيق مصلحته العليا».
من جانب آخر، اللافت أن كلمة أبو سليمان التي وزّعتها «الوكالة الوطنية» في لبنان لم تحمل أي جديد فيما يتعلق بموقف لبنان، يستدعي استنفاراً سورياً، إذ قال وزير العمل اللبناني إنه «لم يعد خافياً على أحد أن أهم التحديات التي يواجهها لبنان، يكمن في العدد غير المسبوق للنازحين (اللاجئين) السوريين منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، ما يجعل لبنان البلد الأول في العالم من حيث حجم النازحين (اللاجئين) نسبة إلى عدد مواطنيه»، مشيراً إلى أن عددهم بات يعادل ثلث عدد المواطنين في لبنان، من دون احتساب أعداد اللاجئين من جنسيات أخرى.

«مسار» لبناني جديد

من جهة ثانية، تُرجح مصادر سياسية لبنانية ألا يكون موقف أبو سليمان ما أزعج وفد دمشق، بل المسار الجديد الذي سلكته الدولة اللبنانية في معالجة ملف اللجوء، وإن كانت الحكومة اللبنانية حتى الساعة لم تبدأ بدراسة الخطة، التي من المفترض أن يعرضها وزير الدولة لشؤون النازحين قريباً على طاولة مجلس الوزراء.
أما أبرز الإجراءات التي اتخذت بالفعل أخيراً، والتي توحي بأن الأمور سلكت طريق اللاعودة في هذا الملف، فجاءت نتيجة قرارات اتخذها أخيراً المجلس الأعلى للدفاع، وأخرى جرى تضمينها مشروع الموازنة. ومن هذه التدابير...
- الترحيل الفوري للداخلين خلسة.
- مكافحة التهريب من خلال المعابر غير الشرعية.
- تغريم المشغّل اللبناني لكل أجنبي لا يحوز إجازة عمل، وهذا ما لحظته الموازنة، بالإضافة إلى مطالبات إلى الجهات المعنية (البلديات - المخاتير- المحافظين - القائمقامين) بإقفال المؤسسات غير الشرعية.
- فرض رسم على عائلة الأجنبي المقيمة في لبنان.
ولم تقف الإجراءات الجديدة المتخذة عند هذا الحد، بل أمهل الجيش اللبناني اللاجئين السوريين والجهات المعنية هدم البيوت الإسمنتية، التي شيّدت بشكل أساسي في بلدة عرسال، وهو قرار اتخذه المجلس الأعلى للدفاع. ورأى ناشطون في المجتمع المدني في لبنان أن الإجراءات الأخيرة التي تطال اللاجئين السوريين تعكس بشكل واضح وجود استراتيجية للضغط عليهم وترحيلهم، واعتبر الناشطون أنها تؤدي جميعها إلى خلق بيئة غير مرحِّبة بهم، والضغط عليهم، عبر إجراءات غير مكتوبة، بدل معالجة هذه القضية بطريقة هادئة.
في المقابل، تؤكد مصادر رسمية لبنانية أن ما يحصل «هو انتقال من مرحلة عدم تطبيق القوانين المرعية الإجراء، إلى تطبيقها بحزم للحد من التداعيات السلبية» للّجوء، على كل القطاعات اللبنانية، «ما سيؤدي في حال ظلت الأمور على ما هي عليه إلى صدام لبناني - سوري، مؤكد في مرحلة قريبة مقبلة».
هذا التناقض نبّهت عليه وزيرة الداخلية والبلديات ريّا الحسن أخيراً، واعتبرت ما وصفته باقتلاع اللاجئين من خيمهم، له انعكاسات خطيرة، وذلك في إشارة إلى قرار بلدية دير الأحمر، في شمال البقاع، بهدم مخيّم للنازحين بعد اعتداء شبان على عناصر الدفاع المدني الأسبوع الماضي.

مواقف عون وباسيل

المعروف أن بعض المسؤولين اللبنانيين، على رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ووزير الخارجية جبران باسيل، يواصلون زيادة الضغوط على المجتمع الدولي لحثّه على المساهمة بإعادة اللاجئين. كما أن المواقف المتتالية الصادرة عن عون أخيراً، التي لوّح فيها صراحة بالاتصال والتنسيق مع حكومة النظام في دمشق لإعادة اللاجئين في حال استمرار «لا مبالاة» المجتمع الدولي في التعامل مع الملف، أثارت جملة تساؤلات حول خلفية هذه المواقف وماهية الخطوات التي قد يتخذها لبنان الرسمي لتسريع عودة هؤلاء.
عون قال أمام مسؤولين غربيين، التقاهم أخيراً، إن لبنان يتطلع لتغيير الموقف الأوروبي من عودة اللاجئين، «لئلا تشتد تداعيات هذا اللجوء على الأوضاع كافة في لبنان، ويجبر على اتخاذ خطوات لتنظيم العودة مع الحكومة السورية». أما باسيل فلا ينفك يتهم «إرادة خارجية واضحة بإبقاء النازحين (اللاجئين) على أرضنا»، وقد حذّر أخيراً خلال زيارته إسبانيا من أن «مدة بقاء السوريين في لبنان في ظل أوضاعهم السيئة، لن تطول، وهم إما سيتجهون نحو أوروبا وإما نحو سوريا... والأفضل لأوروبا أن يعودوا إلى سوريا».

... ونصر الله وقانصو

كذلك انضم أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله إلى الحملة، التي يقودها عون وباسيل، فتحدث في إحدى إطلالاته الأخيرة عن وجود «إصرار أميركي - غربي - خليجي على رفض عودة النازحين (اللاجئين) السوريين إلى بلدهم». وادّعى نصر الله أن الرئيس بشار الأسد سبق أن أكد له خلال لقاء بينهما رغبته أن يعود جميع اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان إلى بلادهم.
وهذا أيضاً ما قاله لـ«الشرق الأوسط» الأمين القطري السابق لحزب «البعث» عاصم قانصو عن أن سلطات دمشق «راغبة بعودة مواطنيها إلى أرضهم بأسرع وقت ممكن، للمساهمة بإعادة الإعمار، خاصة أن 90 في المائة من الأراضي باتت آمنة»، حسب قوله. وأضاف قانصو أن «العدد الفعلي الذي يتوجب العمل على إعادته إلى سوريا هو نحو 800 ألف، باعتبار أن هناك 500 ألف سوري لطالما وُجدوا في لبنان للعمل»، مضيفاً: «الدولة في سوريا لم تتعاط يوماً مع النازحين (اللاجئين) كثقالات ترغب في إلقائهم في بلدان النزوح. بالعكس تماماً، هناك من السياسيين في لبنان وخارج لبنان من يستخدمون ورقة النزوح للضغط على الحكومة في سوريا».
وإذ يستهجن قانصو تحميل بعض المسؤولين اللبنانيين اللاجئين مسؤولية كل الأزمات التي يرزح تحتها لبنان، سواء أزمة الكهرباء أو المياه أو التلوث... يتساءل: «ألم تكن هذه الأزمات موجودة قبل العام 2011؟».

دور البلديات

وبالتزامن مع وضع وزير الدولة لشؤون النازحين - المحسوب على دمشق وقوى «8 آذار» - اللمسات الأخيرة على خطته لعودة اللاجئين، التي نسقها مع دمشق، انتهت وزارة الخارجية في لبنان من تحديث خطة، كانت قد أعدتها عام 2014، تقوم بشكل أساسي - كما تقول - على «تحقيق العودة الآمنة والممرحلة وفق خط زمني محدد»، وعلى أساس تقسيم اللاجئين إلى فئات.
وبعد التصويب بشكل أساسي على موضوع العمالة السورية «غير الشرعية» في لبنان، سواء من قبل «التيار الوطني الحر» (الذي أسّسه الرئيس عون، ويرأسه الوزير باسيل) أو وزارة العمل، ما أدى إلى إقفال عدد كبير من المحال التجارية، التي يعمل فيها سوريون، أوضحت مستشارة وزير الخارجية والمغتربين لشؤون النازحين، الدكتورة علا بطرس (وهي محسوبة على التيار نفسه)، أنه سيجري في المرحلة المقبلة «تفعيل دور البلديات بتطبيق القوانين على كل من لا يحوز إجازة عمل وإقامة، وإقفال المحلات والمؤسسات غير الشرعية، بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة المعنية، ومنها الأمن العام».
ولفتت بطرس إلى أن «البلدية في النهاية ضابطة عدلية، وبالتالي عليها أن تحدد من يمتلكون صفة (نازح) بإبراز بطاقة النزوح الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومن هم عمّال دخلوا خلسة أو بشكل شرعي، ولم تعد إقامتهم صالحة... وهنا يجب أن يقوموا بتسوية أوضاعهم من خلال الحصول على إقامة من الأمن العام، وإجازة من وزارة العمل في القطاعات المسموح لهم أن يعملوا فيها، وفق القانون».
وتابعت بطرس، في تصريح أدلت به لـ«الشرق الأوسط»: «كل ما نقوم به في هذا المجال يهدف إلى تنظيم واقع النزوح (اللجوء) السوري، ضمن آلية متكاملة، ومنها تطبيق القوانين على المخالفين، بالتكامل مع قرار المجلس الأعلى للدفاع بالترحيل لكل من يدخل خلسة، مع التشديد على احترام لبنان لالتزاماته تجاه القانون الدولي بعدم الإعادة القسرية».

مصاعب تواجه اللاجئين

حسب سجلات الأمن العام اللبناني، عاد أكثر من 200 لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا منذ العام 2017، سواء عبر الرحلات التي ينظمها الأمن العام، أو من خلال مبادرات فردية خاصة.
وتحدّث التقرير السنوي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» المتعلق بلبنان عن أكثر من مليون لاجئ سوري مسجّل لدى «المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» (المفوضية) في لبنان، في حين تقدّر الحكومة اللبنانية أن عدد السوريين الفعلي في البلاد هو 1.5 مليون.
وبحسب المنظمة الدولية، فإن سياسات الإقامة في لبنان تصعّب على السوريين المحافظة على الصفة القانونية، ما يعرّضهم لتزايد خطر الاستغلال والإساءة، كما أنها تحدّ من قدرتهم على الوصول إلى العمل والتعليم والرعاية الصحية. وكشفت المنظمة أن 74 في المائة من السوريين في لبنان يفتقرون إلى الإقامة القانونية، ويواجهون خطر الاعتقال بسبب وجودهم غير الشرعي في البلاد، موضحة أنه في مارس (آذار) 2018 ألغى لبنان بعض القيود المفروضة على الإقامة للأطفال السوريين اللاجئين، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 سنة.
ونقلت «هيومن رايتس ووتش» عن عدد من اللاجئين في لبنان أنهم يعودون بسبب السياسات القاسية والظروف المتدهورة في لبنان، وليس لأنهم يظنون أن الوضع في سوريا آمن، مشيرة إلى أن «هناك بلديات في لبنان أجلت قسراً آلاف اللاجئين، في إطار عمليات طرد جماعي من دون أساس قانوني أو مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة. ولا يزال عشرات الآلاف عرضة للإجلاء».
وعلى صعيد متصل، كشف المسح الإقليمي الخامس، الذي أجرته «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين»، حول تصورات ونوايا اللاجئين السوريين المتعلقة بالعودة إلى سوريا لشهر مارس 2019، أنّ نسبة 75.2 في المائة من اللاجئين السوريين يأملون في العودة «يوماً ما» إلى بلادهم. وأوضح المسح الذي شمل كلاً من مصر والعراق ولبنان والأردن، والذي أُجري خلال الفترة الممتدة بين أكتوبر (تشرين الأول) وفبراير (شباط) الفائتين، أنّ نسبة 69.3 في المائة من هؤلاء لا ينوون العودة إلى سوريا خلال الأشهر الـ12 المقبلة. كذلك بيّن أنّ نسبة السوريين الذين ينوون العودة خلال الأشهر الـ12 المقبلة بلغت 5.9 في المائة، في حين قُدّرت نسبة اللاجئين الذين لم يتخذوا قرارهم بعد بـ5.5 في المائة، ونسبة الذين لا يأملون في العودة بـ19.3 في المائة.
أما أبرز الأسباب التي تؤخر العودة، لـ19.3 في المائة، فهي؛ الوضع الأمني السيئ، فرص العمل السيئة، نقص المأوى، الخدمة العسكرية، الخدمات الأساسية المحدودة، الخوف من الاعتقال، تدهور التعليم، تعذر التوصل إلى حل سياسي، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
وعلى مستوى لبنان، كشف مشروع «اللاجئون شركاء» أنّ 84 في المائة من العمالة السورية في لبنان تقتصر على قطاعي الزراعة والبناء، وهي قطاعات مسموح بها، بموجب قانون العمل اللبناني.
كذلك بيّن المشروع أنّ اللاجئين الأكثر ضعفاً هم الذين يحصلون على المساعدات المالية التي بالكاد تغطي احتياجاتهم؛ علماً بأن 90 في المائة منهم يقترضون المال لدفع تكاليف الإيجار والغذاء والرعاية الصحية؛ حيث إن 9 من أصل 10 عائلات سورية نازحة في لبنان تراكمت عليها ديون في العام 2018.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.