قباد طالباني.. هل يخلف الأب الغائب؟

التوازنات السياسية في كردستان تدفع ابن الرئيس إلى القمة

قباد طالباني.. هل يخلف الأب الغائب؟
TT

قباد طالباني.. هل يخلف الأب الغائب؟

قباد طالباني.. هل يخلف الأب الغائب؟

مع اقتراب انتهاء المشاورات التي يجريها نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني نيجيرفان بارزاني لتشكيل الحكومة الثامنة التي كلف برئاستها في إقليم كردستان العراق، يبدو أن قيادة الاتحاد الوطني وعبر مكتبه السياسي استقرت على ترشيح قباد طالباني، نجل الرئيس العراقي جلال طالباني، نائبا لرئيس الحكومة المقبلة.
ويأتي ذلك رغم أن ملامح التشكيلة المقبلة لم تتضح بعد، وأن هناك خلافات عميقة بين الاتحاد الوطني، الذي ينتمي إليه قباد، وحركة التغيير الكردية المعارضة بقيادة نوشيروان مصطفى، حول احتلال هذا المنصب في التشكيلة الحكومية المقبلة، مما وضع المكلف برئاسة الحكومة في موقف حرج للغاية بسبب عجزه عن التوفيق بين الطرفين، خاصة أن الطرفين يتمسكان بهذا المنصب المهم وليسا مستعدين للتنازل عنه تحت أي ظرف كان. وحتى الحلول الوسط لم تعد تنفع بإقناع الطرفين على تقديم بعض المرونة لكي لا يتأخر تشكيل الحكومة أكثر من ذلك، إذ مضت أكثر من أربعة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية دون ولادة الحكومة المرتقبة.
ومن بين الحلول التوفيقية تعيين ثلاثة نواب لرئيس الحكومة، يكون أحدهم قباد طالباني والثاني من حركة التغيير والثالث يكون وزير الموارد الطبيعية، آشتي هورامي. لكن هذا المقترح بدوره يلقى اعتراضا شديدا من الطرفين (الاتحاد والتغيير) على حد سواء.
ويقول قيادي في حزب الاتحاد الوطني، الذي يقوده الرئيس العراقي جلال طالباني، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الاتحاد الوطني ليس مستعدا للتنازل عن منصب نائب الرئيس، فالمرسوم الرئاسي الذي سيصدر من رئاسة الإقليم بتكليف نيجيرفان بارزاني بشكل رسمي بتشكيل الحكومة سيضم أيضا اسم مرشح الاتحاد الوطني لمنصب نائب الرئيس كما هو معتاد، أي أن التكليف سيصدر باسمي الرئيس المكلف ونائبه، وهذا له تأثير معنوي كبير على الاتحاد الوطني، إذ سيظهره طرفا أساسيا في إدارة السلطة والحكومة ويطمئن أعضاءه وأنصاره بأنه ما زال محتفظا بقوته، وأنه ما زال داخل السلطة، ولذلك فإن مجرد التنازل عن هذا المنصب يعني أن الاتحاد الوطني خرج تماما من معادلة السلطة، ومن الصعب جدا على الاتحاد أن يتحول إلى حزب معارض، أو أن يستعيد دوره السياسي خصوصا في هذا الوضع الصعب بعد الهزيمة الانتخابية التي مني بها، لذلك فإن الاتحاد يشدد دائما على الاحتفاظ بثقله السياسي، ويسعى للتعامل معه على أساس هذا الثقل وليس على أساس عدد مقاعده». يذكر أنه منذ مرض جلال طالباني ومغادرته العراق إلى ألمانيا في ديسمبر (كانون الأول) 2012، هناك مخاوف على مستقبل الاتحاد وقوته.
بدوره، يشدد قيادي في حركة التغيير على التمسك بهذا المنصب، ويخالف القيادي بحزب الاتحاد بالقول «إنه على جميع الأطراف أن تحترم إرادة الناخبين، وأن تلتزم بالنتائج التي تمخضت عن تلك الانتخابات، وإلا فما فائدة تنظيم الانتخابات واللجوء إلى الشعب لانتخاب من يرونه مناسبا لتمثيلهم بالسلطة». ويضيف «نحن حصلنا على المرتبة الثانية في الانتخابات ولنا استحقاقات، وعلى الطرف الآخر أن يعترف بهذه الحقيقة وأن يعطينا ما أعطاه سابقا للاتحاد الوطني كقوة ثانية بالإقليم، بمعنى أننا سننتزع جميع الاستحقاقات التي حصل عليها الاتحاد الوطني باعتباره القوة الثانية في كردستان، وعليه فإن من حقنا أن نتسلم منصب نائب رئيس الحكومة». وحول مقترح تعيين ثلاثة نواب لرئيس الحكومة قال القيادي بحركة التغيير «هذا أمر مرفوض، لأن الهدف منه هو تهميشنا، فكما علمنا من مصادرنا فإنهم يريدون النائب الأول من الاتحاد الوطني والثاني منا، وفي العادة فإنه في منطقتنا لا يمتلك نائب الرئيس أي صلاحيات مهمة، فكيف ستمنح الصلاحيات للنائبين الثاني والثالث؟ لذلك نحن نرفض هذا الحل التوفيقي، ونصر على حصولنا على منصب نائب الرئيس بشرط أن يكون واحدا فقط».
وبانتظار أن تحسم الأطراف المفاوضة هذا الأمر، يبقى قباد طالباني هو المرشح الأقوى للمنصب.
فمن هو قباد طالباني؟
إنه النجل الأصغر للرئيس العراقي والأمين العام للاتحاد الوطني، ولولادته مفارقة غريبة يرويها لـ«الشرق الأوسط» القيادي الكردي عادل مراد، وهو عضو مؤسس للاتحاد الوطني الكردستاني وأحد اقرب المقريين من الرئيس جلال طالباني. يقول مراد «كنت مسؤولا عن إدارة مكتب الاتحاد الوطني في بيروت عندما جاء مام جلال وزوجته السيدة هيرو وكانت حاملا في قباد، ودخلت المستشفى لوضع الوليد، وفي هذه الأثناء كانت هناك اتصالات مكثفة بيننا وبعض الإخوة بتنظيم كردي في تركيا من أجل إدخال مام جلال إلى كردستان العراق، إذ إنه بعد إعلان تأسيس الاتحاد الوطني في دمشق وإرسال أولى المفارز المسلحة إلى كردستان العراق وإعلان الثورة الجديدة بقيادة الاتحاد الوطني لم يكن مام جلال قد زار كردستان، وكانت هناك طلبات ملحة من قوات البيشمركة ومن أنصار حزبنا بالداخل بضرورة الإسراع بوصوله إلى جبال كردستان ليتسلم مهام قيادة الثورة كزعيم لها، لكن الظروف الإقليمية لم تكن تسمح بذلك إلى أن أبدى الرفاق بتنظيم (ddkd) الكردي السري استعدادهم لإدخال مام جلال عبر الأراضي التركية إلى كردستان العراق، وهكذا وصل قائد الثورة إلى داخل الأراضي الكردستانية يوم 20-7-1977 وبعد يوم واحد من وصوله إلى كردستان ولد قباد طالباني».
ويستطرد مراد «بعد ثلاث سنوات زار طالباني زوجته، هيرو خان، وولده قباد بمنزل إبراهيم أحمد جد قباد في لندن، وعندما قرع الباب فتح له قباد ورأى رجلا غريبا، فهرب إلى والدته وقال لها (هناك رجل يقف بالباب يطلبك)، ولم يكن يعرف أن الرحل هو أبوه. وبعد أن عرف بذلك سأله ماذا جلب له من الهدايا معتقدا أن أباه جاء بعد جولة، ولم يكن يعرف أنه جاء من كردستان من وسط نيران المدافع وهدير الطائرات».
دخل قباد المدارس البريطانية وأكمل تعليمه الثانوي والجامعي هناك، ولم يكن له أي شأن سياسي أو حزبي طيلة الأعوام التي تلت ولادته إلى حين عام 2000، إذ عين في مكتب الاتحاد الوطني في الولايات المتحدة الذي ترأسه الدكتور برهم صالح. وتعلم قباد في تلك الفترة المهارات الدبلوماسية التي ساعدته على تطوير علاقاته في واشنطن، وبعد انتقال صالح إلى كردستان العراق ليتولى رئاسة حكومة الإقليم التي أعلنها الاتحاد الوطني بمحافظة السليمانية، أصبح قباد رئيسا لمكتب العلاقات هناك. وبعد توحيد الحكومتين في أربيل والسليمانية عام 2005، عين قباد طالباني مديرا لمكتب علاقات حكومة الإقليم وممثلا عنها بواشنطن.
حاول قباد طالباني طوال فترة رئاسته لمكتب العلاقات بواشنطن تأسيس لوبي كردي هناك ليتمكن من خلاله من التأثير على مراكز القرار السياسي بالإدارة الأميركية. وبحسب تقرير أعده محرر صحيفة «واشنطن بوست» راجيف شاندا سيكاران «سعى قباد إلى إقامة لوبي كردي وذلك عن طريق التشاور مع المسؤولين الأميركيين، والشخصيات الأميركية المتنفذة داخل وخارج الإدارة الأميركية حول التطورات الجارية في إقليم كردستان. وحث الأطراف الأميركية على ضرورة البقاء الطويل الأمد في العراق، والتشديد على تطبيق النظام الفيدرالي الذي يساعد الحركات الكردية على الاستقلال في شمال العراق، بما يؤدي على الأقل إلى شبه انفصاله إن لم يكن إلى انفصاله الكامل».
وسعى قباد طالباني أيضا إلى كسب الأصدقاء الأميركيين، وذلك عن طريق ضم المزيد من الأميركيين إلى عضوية اللوبي الكردي والمشاركة في فعالياته، وبناء الروابط التجارية، وذلك عن طريق إقناع رجال الأعمال الأميركيين والشركات الأميركية بالاستثمارات التجارية والنفطية في منطقة كردستان، وحاليا يقوم اللوبي الكردي بالتنسيق مع بعض الشركات الأميركية النفطية الراغبة في الاستثمارات النفطية في شمال العراق، ويصف قباد طالباني العلاقات الكردية - الأميركية في الوقت الراهن (بالوقتية)، مؤكدا على ضرورة تحويلها إلى (دائمة واستراتيجية)، وذلك من خلال مساعدة عدد من جماعات الضغط والشركات الأميركية. ويعتبر قباد طالباني شخصية مقربة من مجلس الشيوخ الأميركي ومن رجال الدولة الأميركية رغم أنه لم يزل شابا في الثلاثينات من العمر.
تزوج قباد من شيري ج. غراهام، التي عملت قبل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 مستشارة لنائب وزير الخارجية، وكانت تشرف على المساعدات الأميركية الخارجية، وهي خريجة كلية القانون وإدارة أعمال وقد أخذت شهادة في العلوم السياسية وركزت في دراستها على الصراعات الدينية والإثنية في الشرق الأوسط.
ومعروف عن قباد طالباني أنه مرح ونادرا ما تفارقه الابتسامة، لكنه أيضا طموح ومصر على إثبات نفسه سياسيا، وهو حاليا يشغل منصب وزير التنسيق والمتابعة في حكومة إقليم كردستان. ويرجح المراقبون السياسيون إن قباد سيكون له الدور البارز في الحزب بعد والده رغم وجود منافس قوي له هو الدكتور برهم صالح الذي بينت استفتاءات واستطلاعات الرأي أنه هو الأقوى من بين جميع قيادات الاتحاد الوطني لاحتلال موقع أمين عام الحزب، ففي استطلاع أجرته صحيفة «روداو» الكردية على موقعها، أظهرت النتائج أن 90 في المائة ممن صوتوا على الإنترنت يعتقدون أن برهم صالح، نائب الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء السابق، هو من أكثر الأشخاص المناسبين لقيادة الحزب.
وكانت زيارة قامت بها هيرو إبرهيم أحمد، زوجة الرئيس العراقي المريض حاليا، إلى طهران والتقت فيها بالقادة هناك، فسرت في حينها بأنها تتعلق بمسألة خلافة طالباني، وبحسب بعض المصادر الخاصة بـ«الشرق الأوسط» فإن إيران مهتمة جدا بوضع الحزب بعد طالباني الذي كان من أقوى حلفاء إيران خلال العقود الأخيرة، ولذلك فإنها تهتم كثيرا بمن سيخلف طالباني في موقعه في قيادة الحزب. وهناك من يؤكد أن زوجة الرئيس طالباني تعمل حاليا على تقديم قباد كوجه جديد داخل قيادة الحزب، وهناك إشارات على هذا التوجه، إذ خرج قباد بالعديد من التصريحات مؤخرا حول تأشير أسباب أزمة حزبه الداخلية، ودافع عن الانتقادات الموجهة إلى قيادة الحزب بسبب انتكاسته الأخيرة في الانتخابات البرلمانية. ففي تصريحات قال قباد طالبان «إن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده والده لن يكون بمقدوره البقاء إذا استمر في العمل وفق نهجه الحالي، وإن نهوض الاتحاد الوطني مشروع طويل الأمد ولن يعالج ذلك في يوم أو اثنين»، داعيا إلى «إجراء مراجعة داخلية قبل أي خطوة أخرى حتى يعود الاتحاد الوطني صانعا للسياسات وليس منفذا لها».
وكان الحزب قد خسر نفوذه في البرلمان بنسبة تقرب من 38 في المائة منذ أن غاب رئيسه جلال طالباني بسبب المرض أواخر عام 2012، إذ أجريت انتخابات برلمانية في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي انتهت بحصول الحزب على 18 مقعدا بعد أن كان يشغل 29 مقعدا في الدورة المنتهية.
ويتوقع أن يرشح قباد طالباني خلال المؤتمر الحزبي القادم عضوا بقيادة الحزب تمهيدا لانتخابه عضوا في المكتب السياسي لتعلن هيرو بعدها الانسحاب من عضوية المكتب السياسي، تاركة مناصبها ونفوذها لابنها قباد طالباني.



النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
TT

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة. إذ تصدّر نتائج الانتخابات بنهاية سبتمبر (أيلول) المنصرم حزب الحرية، الذي أسّسه في منتصف الخمسينات ضابط سابق في قوات الأمن الخاصة النازية (إس إس)، وغدت هذه المرة الأولى التي يتبوأ فيها حزب يميني متطرف واجهة المشهد الانتخابي في النمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من جهة ثانية، مع أنه سبق لحزب الحرية هذا أن تمثّل في حكومات سابقة كشريك في الائتلاف الحاكم، فإنه لم يرأس أياً من تلك الحكومات، وقد يتكرر هذا «السيناريو» اليوم مجدّداً رغم فوزه بالانتخابات. إذ ربما يبقى خارج السلطة كلياً بعد رفض كل الأحزاب الأخرى التحالف معه، خصوصاً بوجود زعيمه هيربرت كيكل. وفي المقابل، يرفض الحزب المتطرف دخول أي حكومة ائتلافية لا يرأسها كيكل شخصياً. وهكذا، زجّت هذه النتائج غير المسبوقة النمسا في حالة غموض، بعد تردّد الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن في تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، كما جرت العادة. فإثر مشاورات أجراها فان دير بيلن مع الأحزاب الرئيسية، دعا الرئيس قادة هذه الأحزاب إلى التشاور في ما بينها حول الائتلافات المحتملة، قبل تقرير مَن سيُكلف تشكيل الحكومة. ولكن في مطلق الأحوال، حتى في حال اتفاق الأحزاب على إبقاء حزب الحرية خارج السلطة، فإن فوزه الانتخابي يؤشر - وفق وصف استخدمه زعيم الحزب - إلى «عهد جديد، ليس في النمسا فقط، بل في كل أوروبا».

خلال 5 سنوات فقط، نجح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف في رفع شعبيته بشكل كبير، رابحاً 13 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات العامة عام 2019، حين حصل على 16 فى المائة فقط من الأصوات. إذ رفع الحزب نسبة تأييده هذه المرة إلى ما يقارب 29 فى المائة.

المهرجان الانتخابي الختامي لحزب الحرية في العاصمة النمساوية فيينا (رويترز)

كثيرون يعيدون سبب «نهوض» حزب الحرية بعد سلسلة فضائح أحاطت به في السنوات الماضية إلى زعيمه الحالي هيربرت كيكل. ذلك أنه بعد سنوات على ما عُرف بـ«فضيحة إيبيزا» التي أخرجت الحزب من الحكومة عام 2019، وتسبّبت بالدعوة لانتخابات مبكّرة، بدأ كيكل مسيرته بعيداً عن الفضائح، ونجح باستعادة شعبية الحزب والبناء عليها لتحقيق ما هو أكثر.

تداعيات «فضيحة إيبيزا»

الفضيحة، آنذاك، تورط فيها زعيم الحزب السابق هاينز- كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار، ومعه نائبه في الحزب يوهان غونيدوس. إذ ظهر الرجلان يومها في شريط فيديو مسرّب يعود إلى عام 2017، وهما يجلسان في شقة بجزيرة إيبيزا الإسبانية مع سيدة روسية، قالت إنها أليونا ماكاروفا حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر. وادّعي في حينه أن الرجلين كانا يناقشان مع ماكاروفا كيف يمكن للحزب مساعدة جدّها على الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل مساعدتهما بتغطية إعلامية إيجابية. وحقاً، كشف ذلك الشريط عن حجم الفساد داخل الحزب وسوء استخدامه دوره في الحكومة لبيع عقود حكومية مقابل خدمات خاصة.

الرئيس النمساوي فون دير بيلن (رويترز)

كيكل، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية، ظل بعيداً عن الفضيحة. ومن ثم، نجح خلال السنوات التالية بالارتقاء داخل الحزب المتطرف مستفيداً من عدة عوامل ساعدت على بناء شعبيته وانتخابه زعيماً لحزبه مطلع عام 2021. من هذه العوامل أنه إبان جائحة «كوفيد 19»، صار كيكل أحد أعلى الأصوات انتقاداً لإجراءات تقييد التجمعات التي اتخذتها الحكومة. وكان هذا السبب الأول في بدء بناء شعبيته، وأضاف إليه لاحقاً موقفه العدائي المتشدّد من المهاجرين واللاجئين، وانتقاده سياسة الحكومة المؤيدة للحرب في أوكرانيا، واتهامه إياها بالتسبب في التضخّم.

كيكل ... «تلميذ» يورغ هايدر

في الواقع، يُعد كيكل من أكثر زعماء حزب الحرية تطرفاً. وهو يعدّ يورغ هايدر، الزعيم الأسبق للحزب الذي قتل بحادث سير عام 2008، مثاله الأعلى. ويذكر أن هايدر كان شخصية مثيرة للجدل وتسبّب بانقسامات كبيرة داخل حزبه بسبب آرائه وتصريحاته اليمينية المتطرفة. ثم إن والدَي هايدر كانا عضوين فاعلين في الحزب النازي، وهو نفسه دافع مراراً عن تاريخ النمسا النازي وتاريخ عائلته.

أما عن كيكل، فكان لفترة كاتباً لخطابات هايدر وكان مسؤولاً عن عدد من التصريحات المثيرة للجدل التي خرجت عن الزعيم الأسبق الراحل. وأيضاً كان كيكل صاحب شعار حملة الحزب عام 2010، الذي أثار كثيراً من الجدل والانتقادات، وهو «دم فيينا - كثرة الأغراب ليست جيدة لأحد». وهو أيضاً كان مَن كتب في أحد خطابات هايدر منتقداً رئيس الجالية اليهودية في فيينا، آرييل موزكانت، قائلاً: «كيف يمكن لأحد اسمه آرييل أن تكون يداه ملطختين بالقذارة لهذه الدرجة؟»... ولعب كيكل في هذا التصريح على الصور النمطية العنصرية عن اليهود بأنهم قذرون.

واحتفظ كيكل بآرائه المناهضة للمهاجرين في النمسا والرافضة للتنوع عندما أصبح وزيراً للداخلية عام 2017. وخلال فترة توليه الوزارة، تسبّبت تصريحاته غير مرة بجدل واسع، واتهم بأنه يستخدم مقارنات وتعابير نازية. ومن جهة ثانية، أدت سياسته إزاء اللاجئين وإشارته مراراً إلى خطوات تعارض القوانين الأوروبية حول حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، إلى توتير علاقته مع الرئيس النمساوي (آنذاك)، الذي كان فان دير بيلن نفسه، والذي لم يتردّد يومذاك بانتقاد كيكل وتحذيره من تخطي القوانين الأوروبية. وهو ما قد يفسّر اليوم تلكؤ الرئيس في تكليفه تشكيل الحكومة بشكل تلقائي كالعادة، بعد إحراز حزب ما المرتبة الأولى في الانتخابات.

جدير بالذكر أن كيكل مع حركة «أيدانتيتارين»، أو حركة «الهوياتية»، وهي حركة قومية متطرفة ترتكز على «عرقية» الشعوب الأوروبية في مواجهة التنوّع الثقافي والهجرة والإسلام. وكان زعيم الحركة في النمسا، مارتن سيلنر، قد شارك في اجتماع سرّي عقد في ألمانيا نهاية العام الماضي، حضره أعضاء من حزب «البديل لألمانيا» الألماني اليميني المتطرف. وطرح سيلنر، حقاً، خلال ذلك الاجتماع خطة لترحيل ملايين المهاجرين واللاجئين من ألمانيا بمن فيهم من يحملون جوازات ألمانية. ولقد فجّر ذلك الاجتماع سخطاً شديداً واستنهض أصداء اجتماع النازيين قبل محرقة «الهولوكست» الذي ناقش «الحل النهائي» الذي كان تمهيداً لتلك المحرقة.

تبنّي أفكار «أيدانتيتارين»... وتأييد موسكو

في العام الماضي، قال كيكل إنه لا يرى مبرّراً لحظر حركة «أيدانتيتارين»، بل بالعكس، روّج لدعم حزب الحرية تلك الحركة، عبر موافقة الحزب على «المشروع السياسي» الذي تقترحه. ثم إنه لا كيكل ولا حزبه يخفيان مثل هذه الأفكار. إذ يشير الموقع الانتخابي لحزب الحرية إلى أن زعيمه يؤيد «إعادة الأجانب غير المدعوين»، وأنه يريد أن يجعل النمسا «ليس دولة غير إنسانية ... بل غير مريحة» للأجانب وطالبي اللجوء، وأنه يريد أن تكون «النمسا محصنة».

وبالفعل، ساعدت هذا المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين. وأكثر من هذا، أسهمت آراء كيكل حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير. فحزب الحرية معروف أصلاً بقربه من الحكم الروسي، لكن انتقادات زعيمه لدعم الحكومة النمساوية الحرب الأوكرانية، واتهامه إياها بالتسبب بالأزمة الاقتصادية بعد الحرب، لاقت أصداء إيجابية لدى الناخبين المتعبين من استمرار ارتفاع الأسعار منذ بدء تلك الحرب.

إذ عارض كيكل العقوبات الأوروبية التي فُرِضت على روسيا واستمرار التسليح الغربي لسلطات كييف، وهو يدعو بشكل مستمر وعلني لأن تحافظ النمسا على «حياديتها» في التعامل مع الأزمة الأوكرانية الروسية. كذلك وجّه انتقادات حادة للرئيس النمساوي فان دير بيلن بعد زيارة الأخير إلى كييف العام الماضي، وفيها وصف روسيا بأنها «قوة استعمارية». وقال الزعيم المتطرف إن الرئيس بات يشكل «تهديداً للدولة لأنه يعرّض هوية النمسا الحيادية للخطر».

ساعدت المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين... وأسهمت آراؤه حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير

التطرف على اختلاف وجوهه وأشكاله

هذا، وكما سبقت الإشارة، قبل الحرب في أوكرانيا، كان كيكل قد بدأ يجتذب تأييداً متزايداً برفضه التقيد بإجراءات «كوفيد 19»، ورفضه الصريح وضع قناع وقائي داخل البرلمان. كذلك كان من المشاركين الدائمين في المظاهرات التي خرجت لأشهر ضد قرارات حكومية لتقييد التجمّعات منعاً لانتقال العدوى، واتهم الحكومة في حينه بـ«تقييد الحريات».

ثم إنه رفض الاعتراف بفاعلية اللقاحات ضد الفيروس، وروّج للامتناع عن أخذه مقابل توصيته، بدلاً من اللقاح، بتناول عقار «إيفرميكتين» لمعالجة الفطريات، رغم تحذير الأطباء من ذلك، ومن إمكانية تسببه بحالات تسمم، وهذا ما حصل بالفعل.

هذه الآراء المتطرفة دفعت بكل الأحزاب السياسية الأخرى إلى رفض التحالف معه في حكومة ائتلافية، مع أن الرفض لا يمتد إلى التحالف مع حزبه بالضرورة. وهذا يعني أن الأحزاب الأخرى قد تكون قادرة على تشكيل حكومة من دون حزب الحرية، في حال بقي الحزب مصراً على أن يتسلم كيكل الحكومة أو يشارك فيها.

ويمكن في «سيناريو» كهذا أن يبقى حزب الشعب (اليميني الوسطي)، الذي يرأس الحكومة حالياً، على رأس الحكومة. إذ حلّ ثانياً بـ26 فى المائة من التأييد، مقابل 37 فى المائة في الانتخابات الماضية. وحلّ ثالثاً الحزب الديمقراطي الاشتراكي (يسار الوسط) بحصوله على 21 فى المائة، وهي النسبة ذاتها تقريباً التي نالها عام 2019. وفي المقابل، انهارت شعبية حزب «الخضر» (المشارك في الحكومة الائتلافية حالياً) وتراجع تأييده بأكثر من 11 نقطة، مكتفياً بـ8 فى المائة من التأييد في الانتخابات الحالية، مقارنة مع 14 فى المائة في الانتخابات الماضية.