النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

بعد قيادة كيكل «حزب الحرية» إلى الصدارة في الانتخابات العامة

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
TT

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة. إذ تصدّر نتائج الانتخابات بنهاية سبتمبر (أيلول) المنصرم حزب الحرية، الذي أسّسه في منتصف الخمسينات ضابط سابق في قوات الأمن الخاصة النازية (إس إس)، وغدت هذه المرة الأولى التي يتبوأ فيها حزب يميني متطرف واجهة المشهد الانتخابي في النمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من جهة ثانية، مع أنه سبق لحزب الحرية هذا أن تمثّل في حكومات سابقة كشريك في الائتلاف الحاكم، فإنه لم يرأس أياً من تلك الحكومات، وقد يتكرر هذا «السيناريو» اليوم مجدّداً رغم فوزه بالانتخابات. إذ ربما يبقى خارج السلطة كلياً بعد رفض كل الأحزاب الأخرى التحالف معه، خصوصاً بوجود زعيمه هيربرت كيكل. وفي المقابل، يرفض الحزب المتطرف دخول أي حكومة ائتلافية لا يرأسها كيكل شخصياً. وهكذا، زجّت هذه النتائج غير المسبوقة النمسا في حالة غموض، بعد تردّد الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن في تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، كما جرت العادة. فإثر مشاورات أجراها فان دير بيلن مع الأحزاب الرئيسية، دعا الرئيس قادة هذه الأحزاب إلى التشاور في ما بينها حول الائتلافات المحتملة، قبل تقرير مَن سيُكلف تشكيل الحكومة. ولكن في مطلق الأحوال، حتى في حال اتفاق الأحزاب على إبقاء حزب الحرية خارج السلطة، فإن فوزه الانتخابي يؤشر - وفق وصف استخدمه زعيم الحزب - إلى «عهد جديد، ليس في النمسا فقط، بل في كل أوروبا».

خلال 5 سنوات فقط، نجح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف في رفع شعبيته بشكل كبير، رابحاً 13 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات العامة عام 2019، حين حصل على 16 فى المائة فقط من الأصوات. إذ رفع الحزب نسبة تأييده هذه المرة إلى ما يقارب 29 فى المائة.

المهرجان الانتخابي الختامي لحزب الحرية في العاصمة النمساوية فيينا (رويترز)

كثيرون يعيدون سبب «نهوض» حزب الحرية بعد سلسلة فضائح أحاطت به في السنوات الماضية إلى زعيمه الحالي هيربرت كيكل. ذلك أنه بعد سنوات على ما عُرف بـ«فضيحة إيبيزا» التي أخرجت الحزب من الحكومة عام 2019، وتسبّبت بالدعوة لانتخابات مبكّرة، بدأ كيكل مسيرته بعيداً عن الفضائح، ونجح باستعادة شعبية الحزب والبناء عليها لتحقيق ما هو أكثر.

تداعيات «فضيحة إيبيزا»

الفضيحة، آنذاك، تورط فيها زعيم الحزب السابق هاينز- كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار، ومعه نائبه في الحزب يوهان غونيدوس. إذ ظهر الرجلان يومها في شريط فيديو مسرّب يعود إلى عام 2017، وهما يجلسان في شقة بجزيرة إيبيزا الإسبانية مع سيدة روسية، قالت إنها أليونا ماكاروفا حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر. وادّعي في حينه أن الرجلين كانا يناقشان مع ماكاروفا كيف يمكن للحزب مساعدة جدّها على الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل مساعدتهما بتغطية إعلامية إيجابية. وحقاً، كشف ذلك الشريط عن حجم الفساد داخل الحزب وسوء استخدامه دوره في الحكومة لبيع عقود حكومية مقابل خدمات خاصة.

الرئيس النمساوي فون دير بيلن (رويترز)

كيكل، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية، ظل بعيداً عن الفضيحة. ومن ثم، نجح خلال السنوات التالية بالارتقاء داخل الحزب المتطرف مستفيداً من عدة عوامل ساعدت على بناء شعبيته وانتخابه زعيماً لحزبه مطلع عام 2021. من هذه العوامل أنه إبان جائحة «كوفيد 19»، صار كيكل أحد أعلى الأصوات انتقاداً لإجراءات تقييد التجمعات التي اتخذتها الحكومة. وكان هذا السبب الأول في بدء بناء شعبيته، وأضاف إليه لاحقاً موقفه العدائي المتشدّد من المهاجرين واللاجئين، وانتقاده سياسة الحكومة المؤيدة للحرب في أوكرانيا، واتهامه إياها بالتسبب في التضخّم.

كيكل ... «تلميذ» يورغ هايدر

في الواقع، يُعد كيكل من أكثر زعماء حزب الحرية تطرفاً. وهو يعدّ يورغ هايدر، الزعيم الأسبق للحزب الذي قتل بحادث سير عام 2008، مثاله الأعلى. ويذكر أن هايدر كان شخصية مثيرة للجدل وتسبّب بانقسامات كبيرة داخل حزبه بسبب آرائه وتصريحاته اليمينية المتطرفة. ثم إن والدَي هايدر كانا عضوين فاعلين في الحزب النازي، وهو نفسه دافع مراراً عن تاريخ النمسا النازي وتاريخ عائلته.

أما عن كيكل، فكان لفترة كاتباً لخطابات هايدر وكان مسؤولاً عن عدد من التصريحات المثيرة للجدل التي خرجت عن الزعيم الأسبق الراحل. وأيضاً كان كيكل صاحب شعار حملة الحزب عام 2010، الذي أثار كثيراً من الجدل والانتقادات، وهو «دم فيينا - كثرة الأغراب ليست جيدة لأحد». وهو أيضاً كان مَن كتب في أحد خطابات هايدر منتقداً رئيس الجالية اليهودية في فيينا، آرييل موزكانت، قائلاً: «كيف يمكن لأحد اسمه آرييل أن تكون يداه ملطختين بالقذارة لهذه الدرجة؟»... ولعب كيكل في هذا التصريح على الصور النمطية العنصرية عن اليهود بأنهم قذرون.

واحتفظ كيكل بآرائه المناهضة للمهاجرين في النمسا والرافضة للتنوع عندما أصبح وزيراً للداخلية عام 2017. وخلال فترة توليه الوزارة، تسبّبت تصريحاته غير مرة بجدل واسع، واتهم بأنه يستخدم مقارنات وتعابير نازية. ومن جهة ثانية، أدت سياسته إزاء اللاجئين وإشارته مراراً إلى خطوات تعارض القوانين الأوروبية حول حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، إلى توتير علاقته مع الرئيس النمساوي (آنذاك)، الذي كان فان دير بيلن نفسه، والذي لم يتردّد يومذاك بانتقاد كيكل وتحذيره من تخطي القوانين الأوروبية. وهو ما قد يفسّر اليوم تلكؤ الرئيس في تكليفه تشكيل الحكومة بشكل تلقائي كالعادة، بعد إحراز حزب ما المرتبة الأولى في الانتخابات.

جدير بالذكر أن كيكل مع حركة «أيدانتيتارين»، أو حركة «الهوياتية»، وهي حركة قومية متطرفة ترتكز على «عرقية» الشعوب الأوروبية في مواجهة التنوّع الثقافي والهجرة والإسلام. وكان زعيم الحركة في النمسا، مارتن سيلنر، قد شارك في اجتماع سرّي عقد في ألمانيا نهاية العام الماضي، حضره أعضاء من حزب «البديل لألمانيا» الألماني اليميني المتطرف. وطرح سيلنر، حقاً، خلال ذلك الاجتماع خطة لترحيل ملايين المهاجرين واللاجئين من ألمانيا بمن فيهم من يحملون جوازات ألمانية. ولقد فجّر ذلك الاجتماع سخطاً شديداً واستنهض أصداء اجتماع النازيين قبل محرقة «الهولوكست» الذي ناقش «الحل النهائي» الذي كان تمهيداً لتلك المحرقة.

تبنّي أفكار «أيدانتيتارين»... وتأييد موسكو

في العام الماضي، قال كيكل إنه لا يرى مبرّراً لحظر حركة «أيدانتيتارين»، بل بالعكس، روّج لدعم حزب الحرية تلك الحركة، عبر موافقة الحزب على «المشروع السياسي» الذي تقترحه. ثم إنه لا كيكل ولا حزبه يخفيان مثل هذه الأفكار. إذ يشير الموقع الانتخابي لحزب الحرية إلى أن زعيمه يؤيد «إعادة الأجانب غير المدعوين»، وأنه يريد أن يجعل النمسا «ليس دولة غير إنسانية ... بل غير مريحة» للأجانب وطالبي اللجوء، وأنه يريد أن تكون «النمسا محصنة».

وبالفعل، ساعدت هذا المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين. وأكثر من هذا، أسهمت آراء كيكل حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير. فحزب الحرية معروف أصلاً بقربه من الحكم الروسي، لكن انتقادات زعيمه لدعم الحكومة النمساوية الحرب الأوكرانية، واتهامه إياها بالتسبب بالأزمة الاقتصادية بعد الحرب، لاقت أصداء إيجابية لدى الناخبين المتعبين من استمرار ارتفاع الأسعار منذ بدء تلك الحرب.

إذ عارض كيكل العقوبات الأوروبية التي فُرِضت على روسيا واستمرار التسليح الغربي لسلطات كييف، وهو يدعو بشكل مستمر وعلني لأن تحافظ النمسا على «حياديتها» في التعامل مع الأزمة الأوكرانية الروسية. كذلك وجّه انتقادات حادة للرئيس النمساوي فان دير بيلن بعد زيارة الأخير إلى كييف العام الماضي، وفيها وصف روسيا بأنها «قوة استعمارية». وقال الزعيم المتطرف إن الرئيس بات يشكل «تهديداً للدولة لأنه يعرّض هوية النمسا الحيادية للخطر».

ساعدت المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين... وأسهمت آراؤه حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير

التطرف على اختلاف وجوهه وأشكاله

هذا، وكما سبقت الإشارة، قبل الحرب في أوكرانيا، كان كيكل قد بدأ يجتذب تأييداً متزايداً برفضه التقيد بإجراءات «كوفيد 19»، ورفضه الصريح وضع قناع وقائي داخل البرلمان. كذلك كان من المشاركين الدائمين في المظاهرات التي خرجت لأشهر ضد قرارات حكومية لتقييد التجمّعات منعاً لانتقال العدوى، واتهم الحكومة في حينه بـ«تقييد الحريات».

ثم إنه رفض الاعتراف بفاعلية اللقاحات ضد الفيروس، وروّج للامتناع عن أخذه مقابل توصيته، بدلاً من اللقاح، بتناول عقار «إيفرميكتين» لمعالجة الفطريات، رغم تحذير الأطباء من ذلك، ومن إمكانية تسببه بحالات تسمم، وهذا ما حصل بالفعل.

هذه الآراء المتطرفة دفعت بكل الأحزاب السياسية الأخرى إلى رفض التحالف معه في حكومة ائتلافية، مع أن الرفض لا يمتد إلى التحالف مع حزبه بالضرورة. وهذا يعني أن الأحزاب الأخرى قد تكون قادرة على تشكيل حكومة من دون حزب الحرية، في حال بقي الحزب مصراً على أن يتسلم كيكل الحكومة أو يشارك فيها.

ويمكن في «سيناريو» كهذا أن يبقى حزب الشعب (اليميني الوسطي)، الذي يرأس الحكومة حالياً، على رأس الحكومة. إذ حلّ ثانياً بـ26 فى المائة من التأييد، مقابل 37 فى المائة في الانتخابات الماضية. وحلّ ثالثاً الحزب الديمقراطي الاشتراكي (يسار الوسط) بحصوله على 21 فى المائة، وهي النسبة ذاتها تقريباً التي نالها عام 2019. وفي المقابل، انهارت شعبية حزب «الخضر» (المشارك في الحكومة الائتلافية حالياً) وتراجع تأييده بأكثر من 11 نقطة، مكتفياً بـ8 فى المائة من التأييد في الانتخابات الحالية، مقارنة مع 14 فى المائة في الانتخابات الماضية.


مقالات ذات صلة

غضب ودعوات إلى مواجهة «إرهاب المستوطنين» في الضفة الغربية

شؤون إقليمية جنازة الفلسطيني الأميركي سيف الدين مصلط الذي قتله مستوطنون ضرباً حتى الموت قرب رام الله (وفا)

غضب ودعوات إلى مواجهة «إرهاب المستوطنين» في الضفة الغربية

دعا مسؤولون في السلطة الفلسطينية إلى انتفاضة في وجه المستوطنين والتصدي لهم بعد قتلهم شابَيْن فلسطينيين بدم بارد قرب رام الله في الضفة الغربية.

كفاح زبون (رام الله)
شؤون إقليمية مستوطن إسرائيلي يرعى قطيعاً من الدواب في بؤرة استيطانية قريبة من مستوطنة في الضفة الغربية المحتلة يوم الأحد الماضي (أ.ف.ب) play-circle

«شباب التلال» و«نيتساح يهودا»... ماذا نعرف عن تنظيمات المتطرفين الإسرائيليين؟

تعهَّد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بإنهاء ظاهرة عنف المستوطنين ضد جنود الجيش وقوات الشرطة، والتي باتت متكررة خلال الفترة الأخيرة... فما حكاية هؤلاء؟

كفاح زبون (رام الله)
شؤون إقليمية بنيامين نتنياهو خلال جلسة البرلمان الإسرائيلي يوم الأربعاء (أ.ب) play-circle

كيف نجا نتنياهو من تصويت «حل الكنيست»؟

فشلت المعارضة الإسرائيلية، في تمرير مشروع قانون عُرض على الهيئة العامة للبرلمان (الكنيست) للتصويت على حل نفسه، بعد اتصالات ناجحة لنتنياهو لإحباط مساعي إطاحته

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس 29 أبريل الماضي (أ.ب)

نتنياهو يرمي بثقله لتعطيل التصويت على حل الكنيست

نتنياهو يستغل الربع ساعة الأخير من أجل منع التصويت التمهيدي على حل الكنيست الأربعاء. ويستخدم إيران والوضع الأمني لإقناع الأطراف

كفاح زبون (رام الله)
شؤون إقليمية جانب من حريق الكنيس اليهودي التابع للأب الروحي لحزب «شاس» الإسرائيلي المتطرف (وسائل إعلام عبرية نقلاً عن الشرطة الإسرائيلية) play-circle

هل يلقي حريق كنيس يهودي بظلاله على أزمة تجنيد الحريديم؟

أقدم مجهولون على إحراق كنيس يهودي يتبع الأب الروحي لحزب «شاس» الإسرائيلي المتطرف، وسط أزمة تتعلق بتجنيد المتطرفين يخوضها الحزب ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

«الشرق الأوسط» (غزة)

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
TT

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)

في خضم تصاعد غير مسبوق للتوترات الجيوسياسية وتزايد المخاوف الأمنية، تجد القارة الأوروبية نفسها أمام تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف أسس منظومتها الدفاعية. فبعد سنوات من الاعتماد على مظلّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدعم الأميركي، دفعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتكررة حول إمكانية انسحاب الولايات المتحدة من الحلف، القادة الأوروبيين إلى استشعار الخطر الداهم. هذه التهديدات لم تعُد مجرد مناورات دبلوماسية، بل تحولت هاجساً استراتيجياً يدفع العواصم الأوروبية نحو سباق محموم لضمان أمنها القومي والجماعي، في مسعى حثيث نحو استقلالية دفاعية طال انتظارها.

منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949، لعبت الولايات المتحدة دور القائد الفعلي للحلف، ليس فقط من خلال المساهمة المالية والعسكرية الضخمة، بل من خلال توفير المظلة النووية والقيادة الاستراتيجية.

على مدى عقود، تحمَّلت واشنطن نحو 70 في المائة من إجمالي الإنفاق الدفاعي للحلف؛ ما جعلها القوة المهيمنة في صنع القرارات الأمنية الأوروبية. وحقاً، إبان الحرب الباردة، كانت المساهمة الأميركية واضحة وحاسمة؛ إذ نشرت واشنطن مئات الآلاف من جنودها في أوروبا، وأنشأت قواعد عسكرية استراتيجية في كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، ووفّرت أنظمة دفاع صاروخي متطورة.

هذا الحضور العسكري الكثيف ما كان مجرد التزام دفاعي، بل كان أداة لضمان النفوذ الأميركي في القارة الأوروبية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن الولايات المتحدة تنفق سنوياً نحو 750 مليار دولار على الدفاع، أي ما يمثل 3.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط 1.6 في المائة للدول الأوروبية الأعضاء في «ناتو». وبالتالي، منح هذا التفاوت الصارخ في الإنفاق واشنطن نفوذاً هائلاً في تحديد أولويات الحلف واستراتيجياته. بيد أن الأمر لا يقتصر على الأرقام المطلقة. ذلك أن الولايات المتحدة تساهم بنحو 22 في المائة من الميزانية التشغيلية لـ«ناتو»، بينما تغطي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة نحو 35 في المائة فقط؛ ما جعل هذا التوزيع غير المتكافئ للأعباء المالية محور انتقادات مستمرة من الإدارات الأميركية المتعاقبة.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع مارك روته أمين عام «ناتو» (آ ب)

من الحماية إلى المطالبة

منذ تولي دونالد ترمب سدّة الحكم في واشنطن فإنه لم يتأخر في توجيه سهام النقد لحلفائه الأوروبيين، متهماً إياهم بالتقاعس عن الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه «ناتو»، والاعتماد المفرط على الحماية الأميركية، بل والتطفل عليها، وفق تعبيره الصريح خلال حملته الانتخابية لعام 2024.

ثم مع عودته إلى البيت الأبيض، تصاعدت لهجته بشكل لافت، مطالباً الأوروبيين برفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو سقف غير مسبوق يتجاوز حتى الإنفاق الأميركي نفسه. ولعل أبرز ما قاله ترمب في هذا السياق كان خلال تجمّع انتخابي في ولاية أوهايو تساءل فيه: «لماذا ندافع عن بلدان لا تدفع ما عليها؟ إذا لم يدفعوا، فليحموا أنفسهم!». وبدت هذه العبارة إعلاناً غير مباشر «لانقلاب» في عقيدة الأمن الأطلسي.

مطالب ترمب، وإن بدت مبالَغاً فيها، أثارت قلقاً عميقاً في العواصم الأوروبية، خاصةً في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وازدياد التهديدات الروسية؛ الأمر الذي أعاد إلى الواجهة السؤال القديم: هل تستطيع أوروبا أن تحمي نفسها بنفسها؟

لعل أبرز دليل على هذا التحوّل كان كلام كبار المسؤولين الأوروبيين الذي يدعم «الاستقلالية الاستراتيجية». وفي لقاءات ومؤتمرات صحافية، غدت هذه العبارة تتصدر الأجندات السياسية لتشكل محور النقاشات حول مستقبل الأمن الأوروبي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال في حوار مع صحيفة الـ«فاينانشال تايمز»: «إن المبادرة التي اتخذها الرئيس ترمب وقراره بفصل أوروبا عن المظلة الأميركية، يمثلان صدمة كهربائية إيجابية تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تسريع تحوله نحو مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية... ما يقوله ترمب لأوروبا هو عليكم تحمل العبء بأنفسكم وأنا أقول فلنتحمل المسؤولية».

اللهجة نفسها اعتمدها المستشار الألماني أولاف شولتس بقوله خلال زيارته لباريس يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2025: «واضح أن رئاسة ترمب ستكون تحدياً تجب مواجهته، أوروبا لن تتراجع ولن تختبئ، بل ستكون شريكاً بنّاءً واثقاً من نفسه».

وفي المؤتمر الصحافي الذي نظمته أورسولا فو دير لاين بمناسبة مرور 100 يوم على توليّها رئاسة المفوضية الأوروبية، أقّرت هذه الاخيرة بأن «على أوروبا أن تؤدي واجبها وتتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها من دون الاعتماد على واشنطن. ثمة مطلب متكرر من ترمب... أن نكون حلفاء لا يعني أن يكون هناك اختلال في المسؤوليات أو الأعباء المشتركة».

مبادرات وطنية ... لتعزيز القوة

أمام هذا الواقع الجديد، سارعت الدول الأوروبية، كلاً على حدة، إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل غير مسبوق، مع السعي المتزامن لتنسيق الجهود على المستوى القاري.

فرنسا، مثلاً، تواصل بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، دفع خطتها الطموح للتحديث العسكري بقيمة 413 مليار يورو حتى عام 2030. وتركّز هذه الخطة على تطوير القدرات النووية، والدفاع السيبراني، والصناعات العسكرية المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري. أيضاً، تقود باريس مشاريع كبرى مثل الطائرة القتالية الأوروبية المستقبلية «سكاف» (SCAF) والدبابة القتالية الرئيسة الجديدة «إم جي سي إس» (MGCS) بالتعاون مع ألمانيا. وفي خطوة لافتة، أعلنت فرنسا أخيراً خططاً لتعزيز وحدات الدفاع الجوي والصاروخي لديها، وذلك في ضوء الدروس المستفادة من الصراع في أوكرانيا.

أما ألمانيا، فقد خصصت مبلغ 100 مليار يورو لصندوق تحديث الجيش الألماني (البوندسفير)، مع استثمارات كبيرة في أنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى التسلح الحديث والمشاركة الفاعلة في المشاريع الأوروبية المشتركة. والملاحظ أن برلين باشرت بالفعل تسريع وتيرة الإنفاق الدفاعي بعد سنوات من التقشف.

من جهة أخرى، اتجهت بولندا ودول البلطيق، التي تشعر بتهديد مباشر من روسيا، إلى إعادة التسلح بشكل مكثف. إذ عقدت بولندا صفقات ضخمة لشراء أنظمة أميركية متطوّرة، بما في ذلك دبابات «أبرامز» وطائرات «إف - 35» وصواريخ «باتريوت»، بالإضافة إلى استثمارها في تعزيز الدفاعات الحدودية والبنية التحتية العسكرية؛ تحسباً لأي طارئ. وفي السياق عينه، تهتم كل من إيطاليا وإسبانيا والدول الإسكندينافية بتحديث قواتها البحرية والجوية، والمشاركة في برامج أوروبية متعددة كالطائرات من دون طيار (Eurodrone) وتطوير القدرات السيبرانية. وأخيراً لا آخراً، تحاول دول أخرى كفنلندا والسويد تسريع عملية اندماجهما في «ناتو» بعد تخلٍ تاريخي عن الحياد، وبالعكس، تبدي دول كالمجر والنمسا تحفظاً عن التضامن الأوروبي الكامل؛ ما يعكس تبايناً في الرؤى داخل الاتحاد.

شراكات أمنية جديدة

في خضم هذه التحوّلات وعلى ضوء توتر العلاقات الأميركية، ظهر تقارب واضح بين الاتحاد الأوروبي وكندا قائم على رؤية مشتركة لأمن متعدد الأطراف. وغدا من مصلحة أوروبا وكندا توحيد صفوفهما لمواجهة التأثير المستمر لسياسات الرئيس ترمب. وفي هذا الإطار، وقّع الطرفان في مايو (أيار) 2025 «خطة العمل الأوروبية - الكندية للتعاون الأمني والدفاعي»، وهي تنصّ على تعزيز التدريبات العسكرية المشتركة، وتطوير نظم مراقبة الساحل الأطلسي، وتنسيق الجهود في مكافحة التهديدات السيبرانية. وقال رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني خلال مؤتمر أمني مشترك في بروكسل: «نحن شركاء طبيعيون. كندا تؤمن بأن أمن أوروبا هو أيضاً من أمن شمال الأطلسي، ونرفض ترك حلفائنا أمام مصيرهم».

أما على صعيد العلاقة مع بريطانيا، التي غادرت الاتحاد الأوروبي لكنها لم تغادر جغرافيا القارة، بل شهدت العلاقات الدفاعية طفرة جديدة بعد التوتّرات الطويلة التي أعقبت «بريكست». ففي مارس (آذار) 2025، أعلنت كل من لندن وبروكسل عن تأسيس «مجلس أوروبي - بريطاني للأمن والدفاع» لتنسيق السياسات الأمنية بشكل منتظم. وأكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: «قد نكون غادرنا الاتحاد، لكننا لم نغادر أوروبا. التحديات الأمنية الراهنة تُحتّم علينا الوقوف معاً... بريطانيا ستظل قوة موازنة في القارة».