سيمين.. الشاعرة التي أعادت صياغة الشعر الفارسي

حققت انطلاقتها الكبيرة بعدما تجاوزت الخمسين

سيمين.. الشاعرة التي أعادت صياغة الشعر الفارسي
TT

سيمين.. الشاعرة التي أعادت صياغة الشعر الفارسي

سيمين.. الشاعرة التي أعادت صياغة الشعر الفارسي

من بين الأساطير المنتشرة في الأروقة الأدبية في جميع أنحاء العالم أسطورة تقول: إن الشعراء يخرجون بأفضل ما لديهم من الأعمال في فترة تتراوح أعمارهم فيها بين السابعة عشرة والثلاثين عاما. وبعبارة أخرى، فإن الشعر هو ثمرة شجرة الشباب. لكن في الحياة الحقيقية، رغم ذلك، يمكن للإلهام الشعري أن يطرق باب من يريد وفي أي عمر يشاء. ولذلك، لم تكن مفاجأة أن يزور ذلك الإلهام السيدة سيمين بهبهاني حينما بلغت الخمسين من عمرها، بل ويرشدها إلى سبيل جديد وعجائب لم تكن منتظرة.
لاقت سيمين بهبهاني، التي وافتها المنية في مدينة طهران الشهر الماضي عن عمر يناهز 87 عاما، إشادة عالمية باعتبارها واحدة من أهم الشعراء الإيرانيين في جيل عمل، عبر ما يربو على ثمانية عقود، على إعادة صياغة وتشكيل الأدب الفارسي. وقد رشحت بهبهاني لنيل جائزة نوبل للآداب، واحتفل بها الكثير من الجامعات والأندية الأدبية في جميع أنحاء العالم، وصار اسمها كذلك من الأسماء المألوفة في مسقط رأسها بإيران، وهي من الدول المعدودة على مستوى العالم التي تتمتع بقاعدة شعرية واسعة النطاق. (لا يكاد يوجد منزل إيراني يخلو من مجموعة واحدة على الأقل من المجموعات الشعرية، وفي كل عام يقدم ما يقرب من عشرة آلاف أعمالهم الشعرية في المهرجان الوطني للشعر).
جذبت مجموعة أشعار سيمين المعنونة «خط السرعة والنار» والمنشورة في عام 1980 القليل من الانتباه في البداية. كانت سيمين شاعرة معروفة ولها جمهورها من المتابعين لأعمالها الشعرية. غير أن أحدا لم يكن يتوقع لها أن تشهد حالة من الولادة الأدبية الجديدة عشية عيد ميلادها الخمسين. ومع ذلك، سرعان ما أعيد اكتشاف مجموعة «خط السرعة والنار» الشعرية باعتبارها من أهم المجموعات الشعرية الفارسية المنشورة منذ سنوات.
وجاءت مجموعة شعرية جديدة عقب مجموعة «خط السرعة والنار» التي شهدت استمرارا لحالة التأمل العميقة التي تحياها الشاعرة سيمين حول القضايا الوجودية الجوهرية. يضم الكتابان ما مجموعه 129 قصيدة من «الغزليات» أو القصائد القصيرة، وسرعان ما اتخذت بعضها تصنيف الكلاسيكيات الحديثة من ذلك النوع من الأشعار. وأظهرت المجموعتان، سويا، أن الشاعرة بهبهاني، وبعد طول انتظار، قد عثرت على صوتها الخاص الفريد، وهو صوت كانت تعمل على تعميقه وصقله إلى درجة الكمال فيما لا يقل عن مائتي غزلية أخرى جرى تأليفها حتى الشهر الأخير من حياتها الطويلة.
ونشرت السيدة سيمين، كما يحلو لها أن يناديها أصدقاؤها والمعجبون بشعرها، أول مجموعاتها من الأعمال الشعرية في طهران في عام 1956. وشهدت حقبة الخمسينات من القرن الماضي انتصار «الشعر الآن» أو الشعر الجديد على الأساليب الشعرية التقليدية التي، في مختلف أنواعها، قد تمتعت برواج طويل عبر أحد عشر قرنا من الزمان.
كان تأثير الشاعر الإيراني نيما يوشيج قد ترسخ أخيرا، وكان هناك عدد قليل من الشعراء الذين سوف يختارون الأسلوب الغزلي كوسيلة للتعبير عن أشعارهم. حتى أولئك الشعراء، مثل الشاعر هوشانج ابتهاج، الذين يصنف شعرهم الغزلي من كلاسيكيات الشعر الفارسي الحديث، سرعان ما هجروا ذلك الأسلوب الشعري للالتحاق بالحركة الشعرية الجديدة. ولمزيد من اليقين، كان هناك شعراء آخرون كتبوا في الغزليات، وكثيرا ما جاء إنتاجهم الشعري ذا جودة عالية للغاية، ومن بينهم نذكر الشاعر أميري فيروزكوهي، والشاعر راهي معيري، والشاعر مهدي حميدي. ولكن، تعذر عليهم جميعا ربط أعمالهم الشعرية بالهموم الإنسانية المعاصرة.
كانت الشاعرة سيمين، التي تخيرت الغزليات في بادئ الأمر، بالتالي، نوعا من الدخلاء بين الشعراء المعاصرين لها. ومع ذلك، وبحلول حقبة الستينات، شعرت بحالة من الاضطرار للمضي قدما نحو «الشعر الجديد» من خلال تبني ما يسمى بالأسلوب «الرباعي» للشعر الفارسي، الذي رحب به الشاعر فريدون توللي، والذي يمثل خطا وسطا بين أسلوب نيما يوشيج والمقاييس التقليدية. هذا وقد مددت سيمين من نطاق الإلهام لديها ليستوعب ما كان يسمى بـ«القضايا الاجتماعية». مما يعني قدرا كبيرا من القصائد التي تدور حول الفقراء والمضطهدين في مجتمع تتصاعد فيه وتيرة التعقيد بصورة سريعة ويسعى لتلمس سبيله خارج حقبة العصور الوسطى. وغالبا ما تناقضت غنائيات الشاعرة سيمين، جيدة التمرين، مع تجارب لها في «الواقعية الاجتماعية».
تبعت غنائيات حقبة الخمسينات وواقعيات حقبة الستينات في شعر السيدة سيمين بانعطافة وجيزة نحو الحركة النسوية من حقبة السبعينات. وقد كانت النسوية دائمة الحضور في قصائد السيدة سيمين وقد منحتها قاعدة ارتكزت عليها في سعيها ليس إلى المزيد من المساواة القانونية للنساء فحسب، بل وأيضا، بمزيد من الأهمية، المساواة الثقافية والمساواة في التعبير الأدبي لهن. تركت العاصفة الثورية المتجمعة في الأفق بصمتها الأكيدة على الحالة الشعرية للسيدة سيمين منذ بداياتها الأولى. وجاءت الحركة النسوية لتعبر عن اهتمام غير ذي صلة تقريبية بالواقع في توقيت شهد إعادة لصياغة مصير أمة بأكملها. وانخرطت السيدة سيمين في جموع المتحمسين المؤيدين للثورة الجديدة، ولفترة من الوقت، وضعت طاقاتها الشعرية في خدمة قضية البلاد. وقدمت عددا من الأغاني الثورية التي رددها الطلاب المتمردون في مختلف جامعات البلاد في عام 1978 وعام 1979. وفي أغنية بعد أغنية، حثت سيمين الثوريين على نبذ كافة التسويات، وعلى الاستمرار في النضال حتى إخضاع الصرح الإمبراطوري بأكمله. والبعض من ثيمات تلك الأغاني الحماسية ليست إلا أدوات جيدة الإعداد للدعاية السياسية. ويظل البعض منها دليلا قائما وحيا على خطأ الشاعرة سيمين، وندمها اللاحق عليه، إثر اعتقادها أن الخميني وحاشيته من الملالي سوف ينتقلون بإيران إلى حياة ديمقراطية زاهرة وسارة.
استغرق الأمر من السيدة سيمين بضعة أشهر فقط لتدرك خطأها في تقدير الأمور. ولم تكن بمفردها في ذلك، فقد خضعت الأروقة الثقافية الإيرانية بأكملها لذات الحالة الخداعية القاسية أو، كما دفع البعض في وقت لاحق، أنهم لم يخدعوا إلا أنفسهم. فقد توقعوا من الخميني ما لم يعد بفعله في بادئ الأمر. فبالنسبة لمعلم ديني يؤمن إيمانا راسخا بأن الحقيقة المطلقة تقبع في عقائده وتعاليمه فلا مجال معه للشك، وكل ذلك أولى الخطوات نحو الحرية. تحول البعض من أعضاء «فاريب - خوردغان» أو (الجيل المخدوع) كما انتهى المثقفون الثوريون إلى تسمية أنفسهم، إلى مناوئين ثوريين من تيار اليسار أو تيار اليمين لمناضلة النظام الثيوقراطي بالبنادق كما يناضلونه بالأقلام.
أما السيدة سيمين، فقد انتهجت مسارا مغايرا. حيث فتحت لها صدمة اكتشاف الخدعة التي تعرضت لها بابا نحو وعي جديد بذاتها وبإيران التعيسة التي تعيش تحت ظل سمائها. حيث تأكدت أن الكثير من اليقين قد يغدو سما قاتلا، وأنه يتحتم على الشعراء ألا تكون لديهم آراء حيال كافة الأمور من حولهم.
وابتعادا منها عن السياسات الحزبية الراهنة، عادت السيدة بهبهاني إلى مهمتها الشعرية الرئيسة.. من الخوض في أغوار ماهية الوجود الإنساني، بكل ما تحتويه من أبعاد نبيلة، ولكنها جدا مأساوية.
جاءت غزليات ما بعد الثورة لديها وليدة ذلك الإدراك الجديد. ولكنها لم تخرج من رحم موضوعات اليأس، والحب، والبحث عن السلام فحسب، ولا تميزت بها وحدها. فقد أتت غنائيات سيمين الجديدة بثورة حقيقية في أساليب الشعر الفارسي. فالأسلوب التقليدي الذي يكتب به شعر الغزل يعتمد على اختيار الشاعر لوزن من الأوزان الشعرية ثم يستمر في الكتابة. تفرض الضرورات الشعرية للوزن المحدد سلفا قيودا واضحة على خيال الشاعر. وتملي الإيقاعات والقوافي في بعض الأحيان على الشاعر مضمون القصيدة من خلال فرض وجودها عليها.
كان اكتشاف سيمين العظيم هو أن الأسلوب الذي كسر به الشاعر نيما يوشيج البحور الشعرية التقليدية إلى أشطر من أوزان غير متساوية يمكن تطبيقها على شعر الغزليات من دون تبديل الأسلوب المألوف. وبدأت بكتابة «العبارة الأولى التي أملاها علي خيالي» بصرف النظر عن طولها وموسيقاها الشعرية. ولكن بدلا من خنق بقية الشعر بقيد وحيد من الوزن سالف التحديد، كونت الشاعرة سيمين مزيجا جديدا من الأوزان ومخططات القوافي. وتحول الأسلوب إلى وسيلة لتحقيق غاية ما، صار مركبا من التعبيرات الشعرية وليس، كما ظل لعدة قرون مضت، وسيلة لفرض النظام لأجل النظام. ومن الناحية التقليدية، يخرج الشعر الفارسي في أوزان تسعة بحد أقصى، ومع عدد قليل من الشعراء الذين يكتبون شعرهم من خلال أربعة أوزان أخرى. ونظرا لأن اللغة الفارسية هي لغة تتمتع بموسيقية جارفة، فإن استخدام الأوزان هو أكثر ما يؤدي إلى هيمنة المحتوى عن طريق الأسلوب.
وترمز الحرية الكاملة التي تسعى سيمين وراءها في البحور الشعرية، بقدر ما يتعلق الأمر بالمحتوى، إلى «الحالة الغجرية» التي كونتها الشاعرة سيمين. وحالة سيمين الغجرية متحررة من أي قيود أو قواعد دينية ويمكنها، بالتالي، التغني بالحب والحرية. حيث يمكن لشبح الغجرية الطواف فوق الحدائق المحرمة، وتجاوز كل حاجز حتى في إيران الخميني.
كتبت سيمين تقول: «ما هو دين الغجرية الجديد؟ إن جبهتها تحمل شامة من دماء حافظ، وهي الوثن الذي تعبد إليه حافظ في أغنياته».
ففي الوقت الذي ينشر فيه النظام الثيوقراطي دعايات الحرب والشهادة بوصفها أمجد القيم في عبادة الموت خاصتهم، كانت سيمين تغني للحب والحياة. حيث كتبت تقول:
«أصلي لكي تشرق الشمس
من وعاء نبيذ بهيج
في ليلة من لياليك الغامضة».
وفي الوقت الذي حظرت فيه الحكومة الدينية الموسيقى والرقص، كتبت سيمين تقول:
«أجل، لقد جاء الوقت لطرد صمت الخوف خارج أسوار المنزل،
لقد حان الوقت للغناء والرقص، للبهجة والصراخ المجنون».
لكنها كتبت أيضا عن الأقلام الكسيرة، وعن الجثث المتناثرة فوق رمال الصحراء، وعن جثة الجندي التي تشبه مجرة درب التبانة، وعن غصن الزيتون، رمز السلام، الذي انقلب عصا في يد الحرس الثوري الإسلامي.
في بعض من أشعارها، عرضت سيمين تصويرا بشعا لحياة الوقت الحاضر في إيران: أرض العيون الممزقة من محاجرها، والرؤوس المهشمة، و«أعداء الربيع، الذين ينصبون الكمائن لزنابق الصحراء».
كما أعادت سيمين اكتشاف «إيران الأبدية»، التي أصابتها الجراح جراء عقود من الجنون الثوري والحرب التي حصدت أرواح الملايين في إيران والعراق. وتأملت حال بلادها التي مزقتها الحرب، فكتبت:
«يا وطني الأم، لسوف أعيد بناءك يا وطني
ولو بلبنات من روحي
ولسوف أرفع أعمدة سقفك
ولو بعظم من عظامي».
إن استغراقات سيمين الما-ورائية لا تذهب بها بعيدا عن الفقراء والمضطهدين «أولئك الحاملين للأعباء الحقيقية». فكتبت لهم تقول:
«أطفالنا.. ثمرات الفقر
النامية على شجيرات الألم..».
وهي تحث على الصمود والمقاومة في وقت استسلم الكثيرون من المعاصرين لها ليأسهم أو فروا إلى منفاهم. فقالت:
«... أقاوم – لا بد لي أن أقاوم
على شفا آمال النجاة
هناك بذرة حية في المياه
لتغدو شجرة شاهقة يوما ما».
وإنها تصف أولئك الذين يبعثون برسالات اليأس والتشاؤم بأنهم «خفافيش، وغيلان، ووحوش غابات، وثعابين».
نفدت كافة طبعات المجموعات الشعرية الخاصة بالشاعرة سيمين وباءت كل المحاولات لتأمين طبعات جديدة بالفشل الذريع. وأشعارها، رغم ذلك، تصل إلى الملايين في إيران، وتساعد في تشكيل وعي جيل كامل.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.