خديجة الجهمي... المرأة التي قالت كل شيء

خديجة الجهمي أديبة وإذاعية ليبية
خديجة الجهمي أديبة وإذاعية ليبية
TT

خديجة الجهمي... المرأة التي قالت كل شيء

خديجة الجهمي أديبة وإذاعية ليبية
خديجة الجهمي أديبة وإذاعية ليبية

الحديث عن سيرتها يبدو مألوفاً، لكثرة ما قرأناه عن تاريخها الاجتماعي، ودورها النضالي والريادي في تحسين صورة المرأة، وقيادتها نحو التنوير الوسطي الذي لا يخرج بالمرأة عن طور الأخلاق، ولا يرميها في أتون الفجور والانحراف.
المرأة في مفهوم خديجة الجهمي، ومن خلال تاريخها السيرذاتي، هي كائن مقاوم ومشارك وعضو فاعل في بلد تغلبت فيه الحرب العالمية على رتم الحياة وأنساقها الطبيعية، فخرج منهكاً مرهقاً متعباً من حالة الاستعمار الإيطالي، وحاولت فيه خديجة الجهمي بجهد جهيد أن تتكلم بصوت عالٍ، ذلك الصوت الذي وصل مسموعاً إلى زعيم إيطاليا بيبيتو موسوليني، من خلال رسالة أرسلتها له بكل جرأة وشجاعة نادرة، جاء فيها: «أنا معجبة بك كونك تريد أن توحد بلادك، لكن احتلالك لبلادي غير صحيح، ولا بد أن تفكر كثيراً كي تترك ليبيا لأهلها وتخرج منها، وإلا فسيأتي يوم سيكون جحيماً على إيطاليا».
هذه الرسالة المختصرة حملت على أوجهها المتعددة أصواتاً متعددة التوجهات، فالثقافة التي جملت أخلاق الجهمي لم تمنعها من الإعجاب بموسوليني، كقائد يسعى لتوحيد بلاده، وهي نفسها الثقافة التي حملت شعوراً مكثفاً بالوعي بأنَ بلادها في حالة احتلال تُوجبها أن تستخدم عقلها لترسل نيتها بصريح العبارة «لكن احتلالك لبلادي غير صحيح»، وهي نفسها الثقافة التي صنعتْ منها شخصية دبلوماسية استطاعت من خلال جملتها أن توصل رسالة سياسية مختصرة وجزلة الألفاظ، لا تجريح فيها ولا امتهان للطرف الآخر، وهي ذاتها الثقافة التي أنذرت الآخر بأن حالة الاستعمار لا تعدو أكثر من كونها مأزقاً يجرُ الجحيم على فاعله.
النساء في تلك الفترة قضى كثير منهن نحبه بين جوع ومرض وشنق وجرائم حرب ارتُكبت في حقهن، حتى بداية الدولة المستقلة التي وجدتْ فيها خديجة نفسها واحدة من بين كثيرات يحاولن التماس طريقهن نحو العلم والمعرفة للخروج من نفق الجهل والفقر والمرض المُدقع، ولإيجاد طريق تليق بمسيرتهن.
خديجة صاحبة ذلك العود الغليظ، الذي جعلها تبدو امرأة خالية من مظاهر الأنوثة، لم يتجرّد قلبها المرهف من أحاسيس الأنثى المثقفة الواعية، الأنثى التي ملكتْ أن تكون شاعرة، وأن تكون رائدة عصرها كإذاعية شهيرة بعد الرائدة حميدة العنيزي، وأن تكون أديبة تكتب الخواطر، وتعبّر عمّا في خلجات وجدانها وضميرها الإنساني المُعذّب من رحلة بلدها المتعبة المرهقة.
بلغ تأثيرها مداه من خلال برامجها الاجتماعية «أضواء على المجتمع» و«فكر معي» و«من حياة الناس» و«صور من الماضي»، حتى أنّها ألهمتْ الكثيرات اللاتي حاولن الالتحاق بركبها، فتقدّمن للعمل معها، أمثال نادرة العويتي، ولطيفة القبائلي، وزهرة الفيتوري التي تميزت في الإخراج، ووصل تأثيرها لأن تتلمذ على يدها بعض الأدباء الشباب الذين برزوا في زمانها، أمثال الأديب إدريس الطيب.
وكان قلبها يقودها نحو يقين لا يتوقف بوطن يليق بها، وبتنوير نفسها ومَن حولها، فكانت رئيسة اتحاد المرأة عام 1973، الذي طالبت فيه بحقوق النساء أمثالها، وتكلمت بصوتهن، وكتبت عنهن رسائل معذبة، وخواطر ترجمتْ بقلمها تحت اسم «بنت الوطن» إرهاصات الواقع الاجتماعي، وتأثيرها على المرأة التي ظلت تناضل وتكابد حتى تنال استحقاقها ودورها الفاعل في المجتمع.
خديجة التي ذاقت وعثاء السفر إلى مصر في 1952، ودرست فيها، وحاولت الحصول على عملٍ يثبت ذاتها، ويساعدها على مقاومة شظف عيشها، فتحصلت بعد محاولات كثيرة على فرصة عمل كخياطة في بيت الممثلة ليلى رستم، خريجة الجامعة الأميركية، كما تروي هذه التفاصيل خديجة بلسانها في لقاء أجرته معها الباحثة أسماء الأسطى.
البحث عن ذاتها وهويتها شكل انعكاساً كبيراً لمعاناة المرأة، وسط الفوضى والتنقل في الحرب، فتذكر في لقائها ذاك أنّها أُرهقت واضطرت للانتقال مع جدها البعباع لمنطقة القوارشة الواقعة في ضواحي بنغازي، وهنالك تتطوع بأحد المستشفيات في التمريض، لأنها تُجيد الحقن ومداواة الجروح، لكنَ ذلك التطوع من أجل العمل الإنساني أشعرها بأهمية أن تحقق استقلالها الذاتي، فكيف تفعل وهي المرأة التي تحاول أن تستنهض همم النساء في مجتمعها، وتحاول ألا تخبو وينطفئ ضوؤها الذي كان يلهم الكثيرات كي يمضين به متعهدات لأنفسهن وأهاليهن بالحصول على حياة تليق بمجتمع يجاهد من أجل أن يستحق الحياة.
فلا تكاد تفكر إلا وتتوصل لفكرة عبقرية، وسط كل هذا المحيط البدائي الخالي من المواد الخام، ومن الأدوات التي تجعل المرء صانعاً لقدره بنفسه، تذكر خديجة في لقائها مع الباحثة أسماء الأسطى، وبسرد شائق قولها: «كان جدي يناديني مداعباً: (جيجا)، وهو اسم عجوز أرمينية كانت تحقن بالإبر، وهي معروفة في أوساطنا الأسرية، كان هذا العمل تطوعياً بلا مقابل، فكيف نعيش أنا وأمي وأختي جازية وربيعة؟ لم يكن من المنطقي أن نكون في عنق جدي الذي يعول أربع أسر غيرنا، عندها أخرجت ماكينة الخياطة وبدأت العمل، لم يكن هناك قماش، لكن المظلات التي تسقطها الطائرات في الحرب الدائرة - وهي من نسيج الحرير الطبيعي وتخاط بشكل دائري - أوحت لي بالحل، فلم يكن من الصعب فتق الخياطة الأصلية، وإعدادها قطعاً من القماش، كما كنت أصبغها بالألوان، وأفصلها إلى سواري رجالية وقفاطين، بذلك صار لدي كثير من المال الذي لا يحقق أي شيء. ففي السابق، الألف فرنك يمكن المرء من شراء منزل، إلا أنه في زمن الحرب لا يأتي برغيف خبز. كل ذلك يقع في بال امرأة مسكونة بروح الحياة، امرأة ذات قلب حي، ويقين راسخ بأن استتباب المجتمع يقع على عاتق الطرفين، وبأن دورها الريادي لا يقل عن دور الرجل، خديجة التي قالت كل شيء في رسائل ريادية تقلدتها بمناصب كثيرة ترأستها، ابتداء من الصحافة إلى رئيسة مجلة «البيت» ومؤسستها، إلى مجلة «الأمل»، إلى عضوية وإدارة كثير من الملفات الثقافية في صحف محلية كثيرة.
تذكر حنينها إلى الماضي، وشوقها لبنغازي ورائحتها، بشيء من الأمل، فبنغازي في نظرها هي ذلك الشارع الصغير في الكيش القريب من زنقة البعباع، وبنغازي مهما كبرت في نظرها هي فسحة ذلك البيت المسقوف الذي يحتوي على صندوق السحارية وصورها القديمة، وغرفتها المرصوصة بالوجوه والذكريات والشخوص الذين تأثرت بهم وأثرت فيهم.
تترجم تلك المشاعر المحتبسة في كينونتها في نصوص غنائية عميقة، أطربت بها مسامع من تهفو قلوبهم إلى المحبة والسلام.
هذه هي خديجة الجهمي الإنسانة التي مر شخصها على الحرب، فكانت المناضلة بين الحربين العالميتين، وكانت الطيف الذي يتحرك هنا وهناك، مقاوماً كل القيود التي كبلتها، وحدت من حريتها، وكانت النور الذي أضاء العتمة المتسربلة حول مجتمعها، فاستطاعت أن تزيح ظلامها، وترفع من سطوة ثقلها، رغم شدة معاناتها وصبرها، لم يكن من نصيبها أن تكون أماً من زوج سوري الجنسية، فخسرت توأمها، لكنها كانت أماً عظيمة لمجتمع يرنو إلى حياة كريمة، ويحاول التماس الطريق.
لو مررنا بشريط حياتها الذي انطفأ بثُّه في عام 1996، لاستحقت وصفها بأنها امرأة عملت في شتى المجالات، لتوصل صوتها وتقول للحياة كل شيء، كل شيء عن النساء اللاتي تحركن كأطياف باهتة في بلد كابد حتى وُلد من تحت رماد الحروب.


مقالات ذات صلة

حرب الاستوديوهات... «نتفليكس» تُسقط «وارنر براذرز» في أكبر صفقة إعلامية

الاقتصاد شعار شركة «وارنر براذرز ديسكفري» في أحد مكاتبها في كولفر سيتي كاليفورنيا (أ.ف.ب)

حرب الاستوديوهات... «نتفليكس» تُسقط «وارنر براذرز» في أكبر صفقة إعلامية

شهدت هوليوود واحدة من أهم لحظات التحول الاستراتيجي في تاريخها، بعد إعلان شركة «نتفليكس» إبرام صفقة ضخمة للاستحواذ على «وارنر براذرز».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجلس، نيويورك )
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

البيت الأبيض يخصص قِسماً على موقعه الرسمي لانتقاد وسائل الإعلام

أطلق البيت الأبيض قسماً جديداً على موقعه الرسمي يوم الجمعة، ينتقد علناً المنظمات الإعلامية والصحافيين الذين يدَّعي أنهم «يشوهون التغطية الإعلامية».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
رياضة سعودية وزير الرياضة الفيصل يتحدث بحضور وزير الإعلام سلمان الدوسري (وزارة الرياضة)

«جزيرة شورى» تحتضن لقاء الإعلام الرياضي السعودي

احتضنت جزيرة شورى، المركز الرئيس لمشروع البحر الأحمر في السعودية، أمس فعاليات «لقاء الإعلام الرياضي» الذي أطلقته وزارة الرياضة.

أوروبا شعار هيئة الإذاعة والتلفزيون الهولندية (متداولة)

هيئة الإذاعة والتلفزيون الهولندية توقف النشر على منصة «إكس» جرّاء «معلومات مضللة»

قالت هيئة الإذاعة والتلفزيون الهولندية (إن أو إس)، الثلاثاء، إنها توقفت عن النشر على منصة «إكس» بسبب نشر المنصة معلومات مضللة.

«الشرق الأوسط» (أمستردام)
إعلام مبنى هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون (الشرق الأوسط)

الشارقة تكشف عن حزمة مشروعات إعلامية كبرى تعزّز تنافسية القطاع

أُعلن في مدينة الشارقة إطلاق حزمة مشروعات إعلامية كبرى في «مدينة الشارقة للإعلام (شمس)».

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».