تحقيق بملايين مفقودة بجامعة أميركية في أفغانستان

عجز المحققون عن معرفة مصير 63 مليون دولار من ميزانيتها

تكلفة دراسة الطالب بلغت 126 ألف دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيين
تكلفة دراسة الطالب بلغت 126 ألف دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيين
TT

تحقيق بملايين مفقودة بجامعة أميركية في أفغانستان

تكلفة دراسة الطالب بلغت 126 ألف دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيين
تكلفة دراسة الطالب بلغت 126 ألف دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيين

لخص أحد المحققين في الجامعة الأميركية في أفغانستان الأمور على هذا النحو: إذا دفعت حكومة الولايات المتحدة الأموال لإرسال كل خريج أفغاني للدراسة في الولايات المتحدة لكانت أنفقت أموالاً أقل بكثير مما أنفق بالفعل على جامعة الدراسة باللغة الإنجليزية المضطربة للغاية في العاصمة الأفغانية كابل.
ولقد تخرج من تلك الجامعة 1281 طالباً جامعياً أفغانياً على مدار السنوات العشر الماضية، بتكلفة متوسطها نحو 126 ألف دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيين، بتكلفة إجمالية تجاوزت 162 مليون دولار.
والآن، صارت احتمالات استمرار الجامعة في عملها على المحك الخطير بعد إفادة المحققين بأنهم عجزوا عن تحديد ما حدث لمبلغ 63 مليون دولار من أموال الجامعة، وفقاً لمسؤولي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والمفتش الأميركي الخاص بإعادة إعمار أفغانستان.
وكانت النتيجة بذل مزيد من الجهود الرسمية خلال العام الماضي من قبل المحققين في الوكالتين الأميركيتين لوقف استحقاق الجامعة عن تلقي أي تمويلات أخرى من الحكومة الأميركية. وتم الوصول إلى حل وسط يحول على نحو مؤقت من تنفيذ هذه الخطوة. ولكن الجامعة، التي تعرف باسم الجامعة الأميركية في أفغانستان، لا تزال قيد التحقيقات الجنائية فضلاً عن التدقيق العدلي للوقوف على ما حدث تحديداً لكل هذه الأموال.
وتعتبر هذه الجامعة من أكثر مشاريع التطور شهرة التي قامت بها الحكومة الأميركية في أفغانستان. ورداً على طلب التعليق من قبل مسؤولي الجامعة في كابل، قالوا إنهم يشيدون كثيراً بالإنجازات التي حققتها الجامعة خلال الفترة الماضية. وقال توم بابينغتون، المتحدث باسم الوكالة: «إن الهدف الأساسي من الجامعة هو توفير التعليم على الطريقة الأميركية للشباب الأفغاني، ولقد نجحت الجامعة للغاية في توفير هذه الخدمات. وتتألف هيئة الطلاب من أشخاص مؤثرين ومتحمسين، ويعتبر خريجو الجامعة من أصحاب التأثير بشكل متزايد في كل مناحي الحياة الأفغانية المعاصرة، في القطاعين العام والخاص».
ولقد حصل 76 خريجاً من طلاب الجامعة على منحة فولبرايت المرموقة، وهو رقم أعلى من أي جامعة أخرى في كل أنحاء العالم، وفقاً لما ذكرته الجامعة بنفسها. وأقر توم بابينغتون بأن المشاكل المالية والإدارية التي كشف عنها المحققون خطيرة للغاية، ولكنه قال أيضاً إن التمويل المستمر من قبل الحكومة الأميركية، التي تتكفل بمعظم ميزانية الجامعة، لا يزال قيد المناقشة. وأضاف أن المفاوضات على قدم وساق بين الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والجامعة الأميركية في أفغانستان بشأن تمديد التمويل حتى يونيو (حزيران) من عام 2020. وقال بابينغتون كذلك إن عقد تمويل الوكالة للجامعة ينتهي يوم الجمعة، ولكن هناك تمويلاً مؤقتاً يمكن الاعتماد عليه حتى نهاية شهر يونيو.
وفي 29 مارس (آذار)، وقع ديفيد سيدني، رئيس مجلس إدارة الجامعة، على اتفاقية إدارية طالب بها المسؤولون في الحكومة الأميركية مباشرة. وتنص الاتفاقية على تعهد الجامعة بإجراء الإصلاحات الجوهرية في الميزانية، والإدارة، والإشراف كشرط أساسي للتمويل الحكومي في المستقبل، مع عدم إقرار الجامعة بأي أخطاء مرتكبة. ولقد حصلت صحيفة «نيويورك تايمز» على نسخة من هذه الاتفاقية.
وتقول آن كالفاريسي بار، المفتشة العامة في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية: «تفرض الاتفاقية آليات صارمة للمراقبة والتحقق من الخطوات التي يتعين أن تقوم بها الجامعة الأميركية في أفغانستان لاستمرار حصولها على أموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة».
وتملك تلك الجامعة تاريخاً مضطرباً، مع كثير من التغييرات الإدارية. ففي أغسطس (آب) عام 2016، وقع هجوم إرهابي من جانب حركة «طالبان» على الجامعة، وأسفر عن مقتل 7 طلاب على الأقل و6 من حراس الجامعة. وقبل وقوع ذلك الهجوم ببضعة أسابيع، تم اختطاف أستاذين من العاملين في الجامعة، أحدهما أسترالي والآخر أميركي، على أيدي شبكة حقاني الإرهابية التابعة لحركة طالبان، ولا يزالان قيد الاحتجاز لدى عناصر الحركة.
ثم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قدم رئيس مجلس إدارة الجامعة، وهو رجل أعمال أميركي يدعى أبو الهدى فاورقي، استقالته على نحو مفاجئ من منصبه في الجامعة، وذلك قبل فترة وجيزة من توجيه الاتهامات الجنائية لصلاته بتعاقدات لتزويد الجيش الأميركي في أفغانستان بالمواد الغذائية والدعم اللوجيستي.
وقال المفتش الخاص بأفغانستان، وكذلك مكتب المفتش العام في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إنهما فتحا تحقيقاً جنائياً مشتركاً بشأن الجامعة قبل عدة سنوات، بعد أن تلقيا اتصالاً من أحد الموظفين المبلغين عن وقائع الفساد في الجامعة. ولكنهما قالا إنهما وجدا سجلات الجامعة في حالة من الفوضى العارمة، لدرجة أنهما لم يتمكنا من رفع الدعوى الجنائية ضد أي شخص.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)