عبث إيران بمياه مضيق هرمز بمثابة انتحار لمصالحها

كتاب فرنسي يحذر من نتائج التوترات الراهنة في المنطقة

مضيق هرمز
مضيق هرمز
TT

عبث إيران بمياه مضيق هرمز بمثابة انتحار لمصالحها

مضيق هرمز
مضيق هرمز

أبعاد جديدة للسياسة الإيرانية في محيطها الإقليمي والدولي، يكشف عنه كتاب «إيران ومضيق هرمز... استراتيجيات ورهانات القوة منذ عام 1970»، الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «هارماتون»، للكاتبة ليا ميشلي Léa Michelis المتخصصة في التاريخ والجغرافيا السياسية بجامعة السوربون، خاصة صراعات الشرق الأوسط.
يقع الكتاب في 218 صفحة من القطع المتوسط، ويأتي صدوره في ظل حالة من الاضطراب تسببها إيران في المنطقة وما ترتب عليه من انشغال المجتمع الدولي بهذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة للعالم، ولا سيما ما يتعلق بحركة التجارة العالمية، لذلك تؤكد المؤلفة في مستهله على أهمية مضيق هرمز باعتباره يمثل مدخل الخليج العربي، وممراً مائياً استراتيجياً متاخماً لحدود المياه الإقليمية الإيرانية والعمانية. الأمر الذي يُعظم من موقعه كأداة بين يدي الإيرانيين في العبث باستقرار منطقة الخليج العربي.
ولكن باستقراء تاريخ طهران على المدى الطويل، توصلت المؤلفة إلى وجود تعقيدات وعوامل كثيرة تتأسس عليها السياسة الإيرانية في محيطها الإقليمي، في صدارتها إحداث توترات وتبادلات متنوعة وكثيرة. الأمر الذي يضع مضيق هرمز في قلب السياسة الدفاعية والتجارية التي تتبناها طهران، برغم حيازتها رابع احتياطي نفطي في العالم، وكذلك ثاني احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي، أي أننا أمام نموذج، لا يسعى فقط لتهديد مصالح الغير، بل يضرّ بمصالحه أولاً.
يكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة كذلك، ليس فقط لأهمية وحساسية الموضوع الذي يتناوله، ولكن أيضاً لأن مقدمة الكتاب كانت للباحث «كليمو تيرم» Clément Therme، الخبير بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن (IISS)، الذي يقول فيها: «إلى أي مدى غيّرت الثورة الإيرانية (1978 - 1979) مفهوم إيران وصورتها الذهنية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، من جندي للخليج في عهد الشاه محمد رضا بهلوي 1941 – 1979، إلى جمهورية إسلامية تسعى جاهدة نحو زعزعة استقرار المنطقة والهيمنة على عدد من جيرانها. الأمر الذي يزيد من التساؤلات حول طبيعة وماهية سياسة طهران الإقليمية، التي تعتمد على آيديولوجية إسلامية، تأخذ في اعتبارها المسائل والأبعاد الدفاعية في رسم وتحديد سياستها الإقليمية؛ مؤكداً أن سياسة طهران في محيطها الإقليمي تعتمد على مفهوم آيديولوجي مناهض للإمبريالية، وفقاً للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي».
يكتسب هذا الكتاب أهمية كبيرة أيضاً لكونه يساعد على فهم الأسس والتوجهات العامة الحاكمة للسياسة الإيرانية في منطقة الخليج العربي، إذ نجحت المؤلفة في توصيف التعقيدات والمحددات، وكذلك العناصر المؤسسة للسياسة الإيرانية في محيطها الإقليمي اعتماداً على مصادر مباشرة، خاصة أرشيف الدبلوماسية الفرنسية، مع كشف النقاب عن بعض الملفات والقضايا التي توضح طبيعة السياسة الإيرانية، وخير دليل على ذلك ملف قضية «إير فرانس» مايو (أيار) 1975، واضطرار الشركة الفرنسية لنشر وثائق طيران تضم خريطة تؤكد على الطبيعة العربية للخليج، وليس الفارسية.
كما يكشف الكتاب النقاب عن استراتيجيات النفوذ الإيراني الراهن حيال محيطها الإقليمي في العراق وتركيا والقوقاز وآسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان، إضافة إلى منطقة البحر المتوسط بشكل عام، ولبنان بشكل خاص لوجود «حزب الله» اللبناني هناك، وضمّه لها في إطار ما يسمى بـ«ولاية الفقيه»، أي خضوع تام لـ«حزب الله» اللبناني لوصاية الجمهورية الإيرانية.
وتذكر المؤلفة أن إيران تسعى بطرق وأدوات كثيرة نحو تطبيق وتنفيذ سياسة الهيمنة في منطقة الخليج العربي، ومن أبرز هذه الأدوات استخدام بعض التنظيمات المرتبطة بها بروابط آيديولوجية، مثل «حزب الله» في لبنان، والحوثيين في اليمن، إلا أن هناك أداة أخرى تكمن في محاولاتها الفاشلة تحريك الفئات الشعبية في الخليج الذين يتقاربون مع طهران عقائدياً.
البعد الاقتصادي
توضح المؤلفة أن البعد الاقتصادي هو حاسم إلى حد كبير في فهم وضع إيران الاستراتيجي، ويمثل محدداً رئيسياً في رسم سياسة طهران الخارجية، فمع اكتشاف النفط هناك عام 1908 في محيط مسجد سليمان، وما ترتب عليه من إنشاء أول شركة إنجليزية فارسية للنفط، ومقرّها لندن (APOC)، وفي ظل حيازتها احتياطياً هائلاً من الطاقة، كونها تملك رابع احتياطي من النفط، بواقع 158 مليار برميل، وفقاً لإحصائيات 2017، و10 في المائة من إجمالي احتياطي الغاز العالمي، بواقع 1.191 تريليون متر مكعب، أي 17 في المائة من الإنتاج العالمي، منها 40 في المائة مركزة في أكبر حقل غاز في العالم بجنوب البلاد، وتتقاسمه مع قطر، ويسمى بـ«القبة الشمالية».
ويشير الكتاب إلى أن إجمالي إنتاج إيران من النفط بلغ 6 ملايين برميل يومياً عام 1970، إلا أن هذا المعدل توقف اليوم عند معدل 3.8 مليون فقط، منذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران في 14 يوليو (تموز) 2015، كما أنه مع الإعلان عن عودة العقوبات الأميركية بحقّ طهران، فمن المتوقع أن يتراجع الإنتاج، ومن ثم التصدير، من 2.4 مليون برميل يومياً في 2018 إلى مليون برميل فقط خلال هذه السنة.
مضيق هرمز في الميزان
تذكر المؤلفة بعض الأرقام المهمة لفهم الرهانات الاستراتيجية في المنطقة، منها على سبيل المثال أن 90 في المائة من النفط الإيراني يتجه نحو الشرق عبر مضيق هرمز، وأن معظم الغاز الإيراني يتم تصديره هو الآخر نحو آسيا عبر المضيق نفسه، وأن 24 في المائة من إجمالي الصادرات النفطية العالمية قد مرّت عبر مضيق هرمز عام 2018، وبالتالي فمن غير المعقول أو المنطقي دخول التهديد الإيراني بالعبث بمضيق هرمز حيز التنفيذ، بما في ذلك على المدى الطويل. ويعود ذلك لأسباب كثيرة، تمكن الإشارة إليها فيما يلي...
أولاً؛ التفوق العسكري الأميركي في المنطقة، خاصة في ضوء مرابطة الأسطول الخامس فيها، أي أن الإدارة الأميركية لا يمكن لها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي عبث إيراني في المضيق.
ثانياً؛ استخدام إيران للمضيق في نقل معظم صادراتها النفطية، وبالتالي فمن غير المنطقي أن تسعى طهران نحو إلحاق الضرر بنفسها.
ثالثاً؛ اعتراض شركاء إيران الكبار في آسيا، مثل الصين، على أي عبث إيراني بالمضيق، خاصة أن 80 في المائة من النفط الذي ينقل عبر المضيق يتجه صوب الأسواق الآسيوية، وبالتالي يلعب المضيق دوراً فاعلاً في الازدهار الاقتصادي للدول الآسيوية.
إضافة إلى ذلك لم تستطع إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية (1980 - 1988) ولا خلال العقوبات النفطية الأميركية ضدها، تنفيذ تهديداتها بشأن إعلان مضيق هرمز طريقاً عسكرياً. ومن ثم تؤكد المؤلفة أنه لن يكون بمقدور طهران الآن اتخاذ أي تدابير أحادية الجانب بشأن المضيق أو العبث بمياهه.
وتخلص المؤلفة ليا ميشلي إلى الاستنتاج بأن إيران، رغم الموقع الاستراتيجي لها كملتقى لعدد من الدول، فإنها لم تستطع التوصل إلى صياغة طاقة أو قوة مرتبطة بهذا الموقع الجغرافي الفريد، كما أن عداءها لدول المنطقة ولأميركا أيضاً يعرقل مسيرتها التنموية، كما أن البعد «الثوري» للسياسة الإقليمية للجمهورية الإسلامية يمثل عقبة حقيقية في سبيل بناء تحالفات إقليمية تتسق مع المصالح القومية للبلاد.

> «إيران ومضيق هرمز..
استراتيجيات ورهانات القوة منذ عام 1970».
> المؤلفة: ليا ميشلي Léa Michelis
> الناشر: دار النشر الفرنسية «هارماتون»


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم