«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (11) والأخيرة: قراءة في جوائز الدورة الجديدة

‪خيبات أمل غالبة وأسئلة لا أجوبة لها‬

«طفيليات» الفيلم الفائز بالسعفة
«طفيليات» الفيلم الفائز بالسعفة
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (11) والأخيرة: قراءة في جوائز الدورة الجديدة

«طفيليات» الفيلم الفائز بالسعفة
«طفيليات» الفيلم الفائز بالسعفة

تشي النتائج التي توصلت إليها لجنة التحكيم في نهاية الدورة 72 بذات المشاكل التي تتبلور كل سنة من جراء ثوابت اختيار يبدو كما لو أنها تظلل كل لجنة تحكيم.
كان رئيس لجنة التحكيم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، واضحاً عندما ألقى خطبته (بالإنجليزية وليس بالإسبانية كما فعل في حفل الافتتاح)، وقال إنها كانت «سنة عظيمة ومتعددة الاتجاهات». ثم كان أقل وضوحاً عندما أكد في نهاية الحفل ومباشرة قبل تقديم الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية أن التصويت كان ديمقراطياً، وكرر الكلمة ما قد يفيد بأنه أيضاً كان حافلاً بوجهات نظر متباينة.
كنا أشرنا إلى بعض المشاكل في هذا الإطار: ستة مخرجين في لجنة واحدة لا بد أن ينشأ عنها اختلافات كبيرة. لذلك انبثق عن تعدد الأصوات ستة جوائز كل منها تبدو كما لو كان صيداً في حقل مختلف. ومع أن إيناريتو أكد ديمقراطية التصويت (وهو أمر طبيعي) إلا أن معظمها ذهب لسينمائيين جدد على حساب سينمائيين لهم سنوات مديدة من التجربة. ليس لأن أفلام الجدد أفضل، بل - غالباً - تشجيعاً لهم.
لكن ما هو واضح أيضاً هو أن النتائج حملت بصمة لاتينية وفرنسية ونسوية. كل منها له الحق في الفوز طالما أن ما يعرضه هو الأفضل فعلاً. لكن هل كان الأمر كذلك بالنسبة لمعظم من فاز؟ وما هو تفسير وجود 14 فيلماً إما فرنسي خالص أو بمساهمة فرنسية رئيسية بين 21 فيلماً مشتركاً في المسابقة؟
- ما بين سليمان وداردان
لا يمكن القول إن فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان «لا بد أنها الجنة» هو أفضل أفلامه. فاز بالتنويه فقط، وهذا ربما أسوأ من ألا يفوز مطلقاً. يؤدي إيليا سليمان شخصيته في فيلم يدور حوله كمخرج فلسطيني من الناصرة ينتقل منها إلى باريس ومنها إلى نيويورك بحثاً عن تمويل لأحد أفلامه. في كل مدينة من هذه المدن هو مراقب صامت (لا ينطق إلا مرّة واحدة خلال الفيلم). يلحظ في فلسطين ما يقوم به جاره من تدخل في شؤون حديقته الخاصة. يقطف منها الليمون الحامض ويشذب أغصانها ويسقيها كما لو كانت الحديقة ملكه. جار آخر له يحكي له قصة أفعى كبيرة شكرته عندما صد عنها هجوم نسر كبير ثم - عرفاناً بمعروفه - قامت بنفخ عجلة السيارة المعطوب وأصلحته. وهو في الأسواق يلحظ أمارات أخرى لحياة ذات هدوء مستفز.
بعد نصف ساعة هو في باريس ليقابل منتجاً. يحمل معه قبعة رأسه (تلك التي ظهر فيها على المنصة عند تسلم التنويه) ويرقب حالات غريبة مثل كيف يطارد البوليس شاباً أو كيف تهدر الدبابات في شوارع ضيقة وكيف يقيس بعض رجال الشرطة مساحة المقهى للتأكد من أنه لم يتجاوز الحجم المحدد له وتلك المرأة التي تمشي وحدها على رصيف المترو وخلفها ستة رجال شرطة مسلحين يرقبونها لأن لا أحداً آخر هناك لمراقبته.
لقاؤه مع المنتج الفرنسي ينتهي برفض المنتج التمويل على أساس أن المشروع «ليس فلسطينياً كفاية»، وفي نيويورك يتركه وكيل أعماله الذي صحبه لكي يعرض المشروع على شركة إنتاج وحده ويمضي للاجتماع من دونه. بالطبع لا يختلف الوضع في نيويورك عن سواها: سليمان هناك يرقب ويحفظ ويتعجب صمتاً.
هو أقرب للكوميدي الفرنسي جاك تاتي في كل ذلك. لكن ذلك الكوميدي الكبير كان يوفر كوميديات تثير الضحك وليس مجرد مشاهد تعكس التعجب. لم ينطق تاتي كثيراً، بل لاحظ جنون الحياة العصرية التي هو ضحية لها. عند إيليا سليمان هذا الدور قاصر على عرض الحال الذي يبقى بلا تعليق، وغالباً لا يُصدق.
حين يأتي الأمر لجائزة أفضل إخراج، تلك التي نالها الأخوان جان - بيير ولوك داردان، فإن المسألة لا تستطيع حمل أعذار. الجائزة محددة بالإخراج الذي هو على صعيدين دائمين: كيفية معالجة ما هو مهم للطرح وأسلوب المقاربة مع الموضوع المطروح. في كلا هاتين الخانتين لا يشكل فيلم «الفتى أحمد» أي سابقة تستحق الاحتفاء، ناهيك عن أنه ليس الإخراج الأفضل مما شاهدناه في أفلام المسابقة هذه السنة.
لا هو أفضل إخراجاً من فيلم كن لوتش «آسف، افتقدناك» ولا أفضل إخراجاً من فيلم كونتِن تارانتينو «ذات مرة في هوليوود» (ولو أنه ليس أفضل أفلامه) وبالتأكيد ليس أفضل من الجهد الفني البديع الذي وفّره ترنس مالك في «حياة خفية».
- حسنتان
تجوز المقارنة كذلك بين سيناريو الفرنسية سيلين شياما لفيلم «صورة لسيدة على نار» وبين سيناريو فيلم كونتِن تارنتينو «ذات مرّة في الغرب». المسار الذي غلب على سيناريو شياما تقليدي بالمقارنة مع ذلك الذي وضعه تارنتينو. ينتصر الأول على الثاني في ناحية أنه محدد الاتجاه، لكن سيناريو تارنتينو عن حالات جامعة من أحداث ومواقف لشخصيات مختلفة تلتقي وتنفرد ثم تلتقي من جديد تحت ظل موضوع أهم شأناً.
وسواء كان فوز «صورة لسيدة على نار» (اسم اللوحة التي وضعتها بطلة الفيلم عن امرأة وقعت في هواها) مستحقاً أم لا، فإن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن ملاحظة أن الفيلم كان أحد ثلاثة أفلام دارت حول المثلية (مباشرة أو خفياً). الآخران هما «ألم ومجد» لبدرو ألمودوفار و«مكسيم وماتياس» لإكزافييه دولان. شيء مقلق عندما يكون أحد هذه الأفلام («مكسيم وماتياس») لا قيمة فنية له على الإطلاق.
كل هذا من نسيج مفاده أن الأفلام التي كانت تستحق الفوز غابت بمعظمها عن النتائج وأن تلك التي تنتمي إلى مخرجين جدد برهنوا في أفلامهم الفائزة (مثل «أتلانتيس») وتلك التي لم تفز («المصفّرون») على أنهم نواة مستقبلية من المبكر الاحتفاء بها في مهرجان غير مخصص للمخرجين الجدد كما حال «لوكارنو» مثلاً.
حسنتان وحيدتان خرجت بهما هذه النتائج: الأولى أن فيلم «طفيليات» للكوري جون - هو بونغ استحق جائزة المهرجان الذهبية وأن فيلم عبد اللطيف كشيش «مكتوب، حبي 2» لم يكن من بين الأفلام الفائزة.


مقالات ذات صلة

«نورة»... من «كان» إلى صالات السينما بالرياض

يوميات الشرق انطلاق عرض فيلم «نورة» في صالات السينما بالرياض (تصوير: تركي العقيلي)

«نورة»... من «كان» إلى صالات السينما بالرياض

وسط مشاركة كبيرة من نجوم العمل ونخبة الفنانين والنقاد والمهتمين، شهدت صالات السينما في الرياض، الأربعاء، العرض الافتتاحي الخاص للفيلم السعودي «نورة».

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «نورة» حقق إنجازاً غير مسبوق للسينما السعودية (مهرجان البحر الأحمر)

عرض فيلم «نورة» بصالات السينما السعودية والعالمية 20 يونيو

أعلنت «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» عرض فيلم «نورة» في صالات السينما السعودية والعالمية بتاريخ 20 يونيو المقبل، بعد نجاحه اللافت خلال مهرجان «كان» السينمائي.

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما المخرج الأميركي شون بيكر الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عن «أنورا» (إ.ب.أ)

فيلم «أنورا» للأميركي شون بيكر يفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان»

حصل المخرج الأميركي شون بيكر البالغ (53 عاماً)، السبت، على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عن «أنورا»، وهو فيلم إثارة في نيويورك.

«الشرق الأوسط» (كان)
سينما «أنواع اللطف» (مهرجان كان)

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (7): ساعات قبل ختام دورة «كان» الحافلة

في الساعة السابعة مساء بتوقيت فرنسا، يوم السبت، يبدأ حفل توزيع جوائز الدورة الـ77 من مهرجان «كان»، الذي انطلق في 14 مايو (أيار) الحالي.

محمد رُضا (كان)
سينما «هورايزن: ملحمة أميركية» (وورنر).

شاشة الناقد: أفلام عن الحروب والسلطة

HORIZON‪:‬ AN AMERICAN SAGA ★★★☆ إخراج: كيڤن كوستنر | وسترن | الولايات المتحدة | 2024 لجون فورد وهنري هاثاوي وجورج مارشال، فيلم وسترن مشترك حققوه سنة 1962 من…


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».