زامير... بستاني بالمصادفة في كابل

زامير يعتني بالنباتات في حديقة مكتب الصحيفة بكابل (نيويورك تايمز)
زامير يعتني بالنباتات في حديقة مكتب الصحيفة بكابل (نيويورك تايمز)
TT

زامير... بستاني بالمصادفة في كابل

زامير يعتني بالنباتات في حديقة مكتب الصحيفة بكابل (نيويورك تايمز)
زامير يعتني بالنباتات في حديقة مكتب الصحيفة بكابل (نيويورك تايمز)

منذ سبع سنوات، تعرض بستاني حديقة مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» بالعاصمة الأفغانية كابل، شير أحمد، لأزمة قلبية. كانت علامات الشيخوخة بادية على العم شير، كما يدعوه العاملون بالمكتب، وقد تحول شعره إلى اللون الأبيض، رغم أن عمره لم يتجاوز الستين. ومات العم شير في سيارة الإسعاف في الطريق إلى المستشفى.
حضر إلينا ابنه زامير أحمد أميري، الذي كان يدرس الزراعة بجامعة كابل، ليطلب الحصول على وظيفة أبيه، بعد أن فقدت الأسرة مورد رزقها. وافقنا على مضض كإجراء مؤقت، نظراً لافتقار الابن للخبرة العملية باستثناء الفترة التي كان يساعد فيها والده في تشذيب فروع الأشجار، بالإضافة إلى أن حجم حديقتنا الصغير لا يتطلب وجود بستاني لدوام كامل.
تعتبر الحدائق أحد مصادر البهجة الخفية في كابل. فالمدينة تقع على ربوة صحراوية عالية، وخلف كل تلك الجدران والمنازل الرثة الكثير من البراعم التي تتفتح فوق أشجار الفاكهة والنباتات المزهرة والورود التي تدوم شهوراً. ونظراً لأن الشمس تشرق 300 يوم في العام، فإن المزروعات تدوم لفترات طويلة في ظل وفرة الماء، خصوصاً أن مقر مكتبنا يحوي بئراً عميقة يمكن الاعتماد عليها في الري. ولذلك فإن النباتات بمقرنا يمكنها الصمود حتى في ظل الشتاء القارس.
كان زامير في غاية الحماس والدأب في عمله، لدرجة أننا لم نقو على تركه يرحل عن المكان، حتى في أيام عمله الأولى التي كان يفتقر فيها لخبرة العمل. بأذنيه «القرنبيطين» اللتين اكتسبهما بسبب ممارسته لرياضة المصارعة، لم تكن هيئة زامير توحي بأنه بستاني، فهو شاب يمتهن حرفة رجل مسن. وعندما تتباطأ وتيرة العمل مع حلول فصل الشتاء، كان زامير يحاول أن يجد لنفسه مهمة مفيدة بأن يعد الشاي للعاملين بالمكان من الأفغان.
ورغم ذلك، كان زامير عازماً على التعلم، ولذلك ساعدناه ليتمرن على يد بستاني مسؤول عن حديقة مقر «البنك الدولي» في كابل لفترة، وكان زامير حريصاً على قراءة بعض الكتب عن علم البستنة. وكانت مديرة مكتبنا، في الوقت ذلك، جيت سكوتلونغ، مغرمة بفن البستنة هي الأخرى، وكانت تتولى تدريبه كلما أتيح لها بعض الوقت.
لم نكن نعلم أن زامير ترك الجامعة لعدم قدرته على الجمع بين الدراسة والعمل، وقد آلمنا ذلك كثيراً، لأنه كان أول من تخرج من المرحلة الثانوية في عائلته.
أشقاء زامير الستة جميعهم كانوا أكبر منه سناً، وكانوا متزوجين، ولذلك اعتمد عليه الأب في إعالة باقي أفراد عائلته. وعن والده، قال زامير: «كان والدي يطلب منى دائماً رعاية والدتي»، فهي مريضة بداء السكري وعرجاء وفقدت القدرة على السمع بإحدى أذنيها، بسبب انفجار قنبلة سقطت إلى جوار البيت أثناء الحرب الأهلية خلال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات. ويحرص زامير أيضاً على إعالة ابنة أخيه التي تعيش معهم.
منذ عامين، انتقل مكتب صحيفة «ذا تايمز» إلى منزل آخر بالعاصمة كابل. كانت الحديقة أصغر حجماً (70 قدماً X 25 قدماً)، وكان من الصعب تبرير وجود بستاني للعمل بدوام كامل، ولذلك استطعنا إيجاد حديقة قريبة، بحيث يعمل زامير نصف دوام بها والنصف الآخر بحديقتنا.
في هذه المرحلة بدأ زامير، حسب تعبيره، يحب فن البستنة، وهو ما فسره قائلاً: «لأنها كانت حرفة أبي، وهي السبيل لمواصلة ما اعتاد والدي فعله، وهذا ما يجعلني أشعر بالقرب منه».
الحقيقة هي أن قطعة الأرض الطينية الموحلة كانت سبباً للخير لزامير، وللأرض نفسها، بعد أن باتت لوحة فنية يستطيع أن يزينها بالصورة التي يراها.
الحديقة ليست مبلغ همنا، فقد قدمنا إلى أفغانستان لتغطية أخبار الحرب الأهلية الطويلة، ولم ألحظ ما يحدث حولي في المكتب، إلى أن نظرت ذات مرة العام الماضي من نافذة مكتبي بالطابق الثاني، لأرى الأزهار الأرجوانية، وقد ارتفعت نحو 12 قدماً، لتصل إلى مستوى نظري، وإلى جوارها أزهار عباد الشمس ونباتات الكروم التي تسللت الجدران لتخفي قبح التحصينات التي لا مفر منها.
ومع حلول فصل الربيع الثاني، بدا نتاج عمل زامير في أوج ازدهاره بعد أن نمت أزهار «بوغانفيليا» وشجيرات زهرة العسل و«الماتيولا» في كل مكان، ناهيك عن الورود التي نشرت عبقها في كل مكان.
يقول زامير: «لا أشعر أنني أتقدم في السن. عندما أعمل فإنني أرى نتيجة وجمال عملي». بلغ زامير عامه الثامن والعشرين الآن، وما زال منتظماً في تدريبات المصارعة بفئة 70 كيلوغراماً، وفي أيام أخرى يعود مباشرة إلى بيته ليرعى حديقته الصغيرة الفقيرة، لكنها غنية بأشجار الفاكهة واللوز.
تزوج زامير مؤخراً من عروس اختارتها أمه، حسب تقاليدهم، ذلك لأن الزوجة غالباً ما تمكث في البيت برفقة والدة زوجها أكثر مما توجد إلى جوار زوجها.
حرص والد زامير أن يوصى ابنه برعاية والدته، ولذلك فهو يحرص في مناسبات مثل عيد الأم ويوم المرأة العالمي على أن يُحضر إلى البيت ليس باقة ورود واحدة، بل اثنتين؛ واحدة لأمه والأخرى لزوجته.
- خدمة «نيويورك تايمز»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».