القيود على «هواوي» تُلهب الحرب التكنولوجية بين أميركا والصين

شاب صيني مع جهازي «هواوي» امام محل للشركة في بكين (أب)
شاب صيني مع جهازي «هواوي» امام محل للشركة في بكين (أب)
TT

القيود على «هواوي» تُلهب الحرب التكنولوجية بين أميركا والصين

شاب صيني مع جهازي «هواوي» امام محل للشركة في بكين (أب)
شاب صيني مع جهازي «هواوي» امام محل للشركة في بكين (أب)

يقف الاقتصاد العالمي اليوم على أعتاب ثورة تكنولوجية كبرى، عنوانها شبكة الجيل الخامس (5G) والإمكانات الهائلة التي ستطلقها في قطاعات الصحة والنقل والتواصل والتعليم والسفر وغيرها. ارتبط اسم هذه الشبكة بعملاق الاتصالات الصيني «هواوي»، الذي تفوّق على شركات «سيليكون فالي» الأميركية ويُشارك في بناء البنى التحتية اللازمة لإطلاق هذه الشبكة في دول آسيوية وأفريقية وبعض الدول الأوروبية.
وبخلاف هذا الترحيب، قوبلت الشركة الصينية بحذر أميركي شديد مع اشتداد الحرب التجارية الأميركية - الصينية. وحظر الرئيس دونالد ترمب على المجموعات الأميركية الخوض في أي نوع من التجارة في قطاع الاتصالات مع شركات أجنبية تعتبر «خطرة على الأمن القومي الأميركي»، في إجراء استهدف خصوصا «هواوي». كما أدرجت وزارة التجارة الأميركية الشركة الصينية على لائحة الشركات المشبوهة التي لا يمكن التعامل معها قبل الحصول على ضوء أخضر من السلطات، وشمل هذا الحظر تحديداً تبادل الخبرات التكنولوجية. ما هي تداعيات هذا التصعيد على مستقبل «هواوي» كرائد عالمي لتكنولوجيا الاتصالات؟ وهل ينعكس التوتر التجاري على تحالفات واشنطن؟ وهل لا تزال الإنترنت تحت الهيمنة الأميركية؟

في خضمّ حربها الإلكترونية، شنّت واشنطن هجومين كبيرين استهدفا بكين وأكبر شركة صينية تنافس على الصعيد التكنولوجي العالمي، «هواوي تكنولوجيز».
جاء الهجوم الأول في 15 مايو (أيار) بتوقيع الرئيس دونالد ترمب، أمراً تنفيذياً يمنح وزارة التجارة الأميركية سلطة إعاقة صفقات معينة تتضمن تكنولوجيا معلومات واتصالات جرى تطويرها أو تصميمها أو تصنيعها من جانب شركات تخضع لولاية قضائية تخص دولة معادية.
ومع أن الأمر التنفيذي لم يذكر الصين و«هواوي» صراحةً، كان المقصود من ورائه واضحاً: تمهيد الطريق أمام الولايات المتحدة كي تحظر مشاركة «هواوي» في شبكات الجيل الخامس بداخلها والعناصر المحورية الأخرى في البنية التحتية. وفي اليوم ذاته، أعلنت وزارة التجارة الأميركية إضافتها «هواوي» و70 من الشركات التابعة لها إلى «قائمة الكيانات»، ما يعني أنه سيتعين على أي شركة أميركية ترغب في تصدير تكنولوجيا أو خدمات أو منتجات لـ«هواوي» الحصول على تصريح خاص من وزارة التجارة أولاً.
ومن شأن القرارين إلحاق ضرر كبير بـ«هواوي» والاقتصاد الصيني خصوصاً إذا اختارت الولايات المتحدة تنفيذهما بصرامة. ومع ذلك ورغم تركز معظم الاهتمام الإعلامي على الأمر التنفيذي، فإن الخطر الأكبر الذي يحدق بـ«هواوي» وقطاع التكنولوجيا الصيني يتعلق بتصنيف وزارة التجارة، الأمر الذي قد يدفع الكثير من شركات الاستيراد الأميركية والتي تعتمد عليها «هواوي» وشركات تكنولوجية أخرى إلى وقف التعاون مع الصين لتجنب مشقة اجتياز قواعد معقدة. علاوة على ذلك، فإن هذه المحاولات الأميركية لوقف سلاسل الإمداد ستؤجج بدورها المشاعر القومية داخل الصين وتدفعها نحو تطوير المزيد من المعدات التكنولوجية بالداخل، ما سيؤدي بدوره إلى توسيع دائرة الحرب التكنولوجية المستعرة بين واشنطن وبكين.
الواضح أن الولايات المتحدة والصين في قلب «حرب باردة» تكنولوجية. أما «هواوي»، فهي الشركة التي تشكل محور تركيز الهجمات الأميركية. ويبدو أن كونها الشركة التكنولوجية الصينية الأكبر الأكثر ابتكاراً وتنافسية على المستوى العالمي، جعلها رمزاً للصعود التكنولوجي الصيني.
تجدر الإشارة إلى أن الأمر التنفيذي الصادر من ترمب يتسم بنطاق بالغ الاتساع، ويسمح لوزارة التجارة بإعاقة صفقات مع شركات صينية بما فيها «هواوي» ويمكن أن تشكل مخاطرة تخريب أمام البنية التحتية الأميركية في مجال الاتصالات عن بُعد، بجانب إمكانية أن تشكل «مخاطرة غير مقبولة على الأمن الوطني للولايات المتحدة أو أمن وسلامة أفراد أميركيين» أو «مخاطرة لا داعي لها تحمل تداعيات كارثية على الأمن أو البنية التحتية الحساسة أو الاقتصاد الرقمي للولايات المتحدة».
ويبدو النطاق الواسع للأمر التنفيذي الصادر عن ترمب شبيهاً بقانون الأمن السيبراني القوي الذي أصدرته الصين، واتهمته الولايات المتحدة بالغموض والاتساع البالغ لنطاقه. ويعني النطاق الواسع للأمر الذي أصدره ترمب أنه يمكن استغلاله في منع استخدام أي معدات تنتجها شركة صينية في البنية التحتية المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات داخل الولايات المتحدة وليس شبكات الجيل الخامس فحسب. وسيكون من المهم متابعة كيفية تفسير وزارة الخارجية للأمر التنفيذي مع شروعها في إصدار إرشادات وقواعد، الأمر الذي قد ينتهي به الحال إلى شمول معدات تكنولوجية في صغر أجهزة «راوتر» منزلية ومفاتيح كهربية. يذكر أن وزارة التجارة يتعين عليها إصدار هذه التوجيهات في غضون 150 يوماً من صدور القرار التنفيذي، ما يعني أن هذه التوجيهات قد تصدر في أي لحظة ما بين اليوم و12 أكتوبر (تشرين الأول).

فوضى أمام «هواوي» وشركات التوريد
يفرض الأمر التنفيذي قيوداً أشد صرامة على قدرة «هواوي» المحدودة بالفعل على البيع للولايات المتحدة، لكن نظراً إلى أن مبيعات الشركة في الولايات المتحدة تشكّل بالفعل نسبة صغيرة نسبياً من مجمل أرباحها، فإن هذه الخطوة تحمل في واقع الأمر تعقيدات أقل بكثير من قرار وضع الشركة على «قائمة الكيانات» الخاصة بوزارة التجارة. الحقيقة أن الإجراء الأخير يضرب علاقة «هواوي» بالولايات المتحدة في أكثر منطقة حساسة بالنسبة إلى الشركة: جهات التوريد. جدير بالذكر أن «هواوي» واحدة من كبرى شركات التكنولوجيا تنافسيةً على الساحة العالمية فيما يخص بناء معدات شبكات الجيل الخامس والهواتف الذكية، بل وتصميم رقائق بعينها، لكنها تعتمد بشدة على سلاسل العرض العالمية المرتبطة بقطاع التكنولوجيا، والتي تتضمن بدورها الكثير من المعدات والتكنولوجيا والمعرفة الأميركية. في الواقع، نشرت «هواوي» قائمة بأكبر 92 شركة توريد لها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 وكان من بينها 33 شركة أميركية.
من ناحية أخرى، فإن الاحتمالات الكثيرة التي قد تترتب على إدراج الولايات المتحدة لشركة «هواوي» على «قائمة الكيانات» تخلق حالة من الشك والريبة أمام الشركات المشاركة في قطاع التكنولوجيا. وربما يمثل هذا القرار خطوة أخرى قدماً باتجاه سيناريو متطرف تحاول خلاله الولايات المتحدة منع «هواوي» من الحصول على تقنيات ومعدات أميركية تعلق بنطاق واسع من المنتجات. يشار إلى أنه سبق أن أقدمت واشنطن على خطوة مشابهة عام 2018، عندما حظرت وزارة التجارة لفترة مؤقتة عدداً من المميزات التصديرية لشركة صينية أخرى في مجال التكنولوجيا هي «زد تي إي».
ومع ذلك، بمقدور وزارة التجارة اختيار سبيل المرونة في قراراتها بالسماح بالصفقات على نحو يقلص مخاطرة الثأر الصيني والأضرار المترتبة على ذلك بالنسبة إلى الشركات الأميركية العاملة في الصين، وإن كان هذا لن يكون بالأمر السهل.
وأخيراً، بمقدور وزارة التجارة الأميركية أيضاً محاولة ممارسة نفوذ على «هواوي» في خضمّ التحقيقات الجارية والقضايا الجنائية المتعلقة بخروقات محتملة للعقوبات الأميركية، وهو أحد المبررات القانونية التي جرى الدفع بها لتبرير إدراج «هواوي» على «قائمة الكيانات».
ومع ذلك، فإنه حتى إذا أبدت وزارة التجارة مرونة في التصاريح التي تصدرها، فإن التصنيف الجديد سيظل صداعاً في رؤوس الموردين، علماً بأن شركات أميركية ضخمة مثل «كوالكوم» توظّف جيوشاً من المحامين لاجتياز القوانين الأميركية المعقدة الخاصة بالسيطرة على الصادرات، لكن الشركات متوسطة وصغيرة الحجم بالولايات المتحدة قد تختار تجنب التعاون مع «هواوي» لتفادي هذه التعقيدات. علاوة على ذلك، فإن القيود المفروضة على التصدير تتضمن صادرات اعتبارية، ما يحدّ من أو يحظر أي تعاون بين «هواوي» ومؤسسات أميركية مثل شركة «فيوتشر وي» المعنية بجهود البحث والتطوير التكنولوجي حتى في الأغراض البحثية. وشرعت جامعات أميركية بالفعل في تقليص مشروعاتها التعاونية مع «هواوي». وفيما وراء الولايات المتحدة، من المحتمل أن تجد شركات أميركية نفسها محصورة بين الولايات المتحدة و«هواوي» وربما تجد نفسها مجبرة على عدم بيع منتجات تحوي تقنيات أو عناصر مصنوعة داخل الولايات المتحدة إلى «هواوي».

خيارات الرد المعقدة
تأتي التحركات ضد «هواوي» والقطاع التكنولوجي الصيني في خضم فترة شديدة التوتر من المحادثات التجارية الأميركية - الصينية. كانت واشنطن قد منحت بكين فترة أربعة أسابيع للتوصل إلى اتفاق قبل أن تفرض الأولى تعريفات إضافية على جميع الواردات المتبقية من الصين. ويدفع هذا الأمر بالصين إلى وضع معقد. في العادة، تستجيب الصين للإجراءات الأجنبية ضد شركاتها من خلال فرض ضغوط انتقائية على الشركات والمواطنين التابعين للدولة المعنية داخل الصين. على سبيل المثال، ردت الصين بقوة على دور كندا في احتجاز المسؤولة المالية في «هواوي» بناءً على طلب من الولايات المتحدة بزيادة إجراءات إلقاء القبض على مواطنين كنديين وحظر استيراد سلع كندية معينة.
حتى هذه النقطة، كانت الصين تأمل النجاح في التوصل لاتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، وبالتالي حرصت على تجنب اتخاذ أي خطوة من شأنها نسف العملية برمتها، لكن حالة ضبط النفس تلك من غير المحتمل أن تستمر إلى الأبد. إذا لم تثمر المحادثات التجارية الأميركية - الصينية اتفاقاً وخضعت جميع السلع الصينية لتعريفات أميركية إضافية، فإن بكين قد لا ترى مفراً سوى زيادة الضغوط على الولايات المتحدة والرد بالمثل. والملاحظ بالفعل أن وسائل الإعلام الرسمية الصينية صعّدت في الأسابيع الأخيرة من النبرة القومية في خطابها، الأمر الذي زاد احتمالات إقدام بكين على التحرك ضد أصول أو مواطنين أميركيين بالصين.

ما النهاية؟
في نهاية الأمر، وحتى إذا نجحت الولايات المتحدة والصين في تسوية خلافاتهما التجارية، ستمضي المعركة المستعرة بينهما على التفوق الاقتصادي والتقني.
على الصعيد التكنولوجي العالمي، يتمثل التساؤل القائم في: إلى أي مدى ستمضي الولايات المتحدة والصين في محاولة فصل قطاع شديد العولمة يقوم على سلاسل إنتاج طويلة ومعقدة؟ المؤكد أن واشنطن ستدرس إصدار تنظيمات جديدة ترمي لتقليص التكنولوجيا الأميركية الحساسة التي تصل إلى الصين وتعين الشركات الصينية بل وتعكف اليوم على صياغة قواعد جديدة للسيطرة على الصادرات تخص تقنيات صاعدة، لكن واشنطن ستبقى عاجزة عن تفكيك شبكة القطاع التكنولوجي العالمية المعقدة بمفردها.
ومن شأن حملة أميركية لمنع وصول الصين إلى التقنيات والمنتجات الأميركية، تأجيج المشاعر القومية داخل الصين إزاء جهود التطوير التكنولوجي، وسيدفع ذلك بكين نحو تعزيز دعمها للشركات العاملة في مجال التكنولوجيا وتحسين قدرات البلاد على إنتاج أشباه الموصلات من خلال مبادرات على غرار «صنع في الصين 2025»، والتي ترغب الولايات المتحدة في أن توقفها الصين في إطار الحرب التجارية بينهما.
أيضاً، تحاول الصين العمل على إقرار المعايير الصينية عالمياً بحيث تتمكن الشركات الصينية من بيع منتجاتها في أسواق أجنبية دونما خوف من ادعاء واشنطن أنها خرقت براءات اختراع أميركية.
من جانبه، ينظر الكثير من شركات التوريد التكنولوجية والاقتصادية العالمية إلى الصين باعتبارها السوق المستقبلية الأهم في مجال التكنولوجيا بالنظر إلى أن أسواق الدول المتقدمة أصبحت مشبعة. وعليه، فإن شركات التوريد في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام وباقي دول العالم لديها حافز اقتصادي كبير تجاه عدم قطع علاقاتها الاقتصادية مع الصين تماماً، بل السعي لتحقيق توازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين.
لهذا، ربما شركات ودول أجنبية نفسها بحاجة إلى المرور عبر مجموعة معقدة ومتنامية ومتداخلة وربما متعارضة من قواعد وتنظيمات السيطرة على الصادرات. وسيكون من الصعب تفكيك هذه القواعد والتنظيمات وكذلك سلاسل الإمداد الفعلية التي بُنيت على مدار سنوات العولمة، لكن في الوقت الحالي تحاول الولايات المتحدة تمزيق العولمة وربما تبدأ بـ«هواوي».
*محلل شؤون دولية في مركز «ستراتفور»
* ترجمة خاصة لمقال من مركز «ستراتفور»



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.