في سن الحادية والعشرين، هجر الشاعر الفرنسي الشهير أرتور رامبو (1854 - 1891) قريته الرمادية وأشعاره ولبى نداء الشرق. شد الرحال على القرن الأفريقي وعاش مغامراً واشتغل تاجراً وناقل سلاح. إلى جانب ذلك، كان الشاعر الموهوب مصوراً فوتوغرافياً، في فترة مبكرة من هذا الفن. ويقام حالياً في مسقط رأسه ببلدة شارلفيل - ميزيير، إلى الشمال الشرقي من فرنسا، معرض للقطات سجلها بعدسته وبعضها لم يُنشر من قبل.
عشر صور لا غير، تحمل توقيع صاحب «المركب السكران»، منها ما يظهر فيه الشاعر شخصياً مستخدماً التصوير الذاتي. لكن «السيلفي» وكاميرات الهواتف الجوالة لم تكن موجودة آنذاك. وكان على المصور أن يضبط اتجاه صندوق الكاميرا ويوقت ناظمها ثم يجري ليقف أمامها لكي يظهر في الصورة.
كان رامبو في سن الثانية عشرة حين راودته ورفاق المدرسة فكرة السفر إلى ضفاف نهر النيل ومنابعه. حلم بتنظيم رحلة استكشافية تشبه ما يدور في رأسه من خيالات شعرية. وهو لم يعد يطيق الطقس البارد والمعتم في مقاطعة آردين الشمالية ولا الرفاهية البرجوازية التي توفرها له عائلته. وفي الوقت نفسه كان يحوز المراتب الأولى في دروس اللغة اللاتينية وامتحانات الأدب. وهو أمر لم يحل بينه وبين الهرب من الصفوف والنزول إلى العاصمة ليختلط بأجواء الفنانين في حي السان جيرمان، ويسلم قياده للقصائد. هناك يتعرف على شارل كرو وبول فيرلين لكنه لا يصبر على النضوج، ويريد الاعتراف بموهبته فوراً ومن دون تلكؤ.
مع بلوغه العشرين أصابه الضجر من الصالونات الثقافية، وكتب: «فصل في الجحيم»، آتياً على ذكر الشعوب القديمة، ثم ختم حياته كشاعر وخلف كل شيء وراءه ومضى «باحثاً عن الذهب»، كما كتب، ساعياً لملاقاة «الحقيقة الصاخبة» للقارات البعيدة. لقد عثر الشاعر في داخله على روح مخلوق مغامر، فتطوع في مرحلة من حياته القصيرة ضمن قوات الاستعمار الهولندي، ثم سافر إلى الشرق وطاف بسواحل البحر الأحمر وصولاً إلى عدن في جزيرة العرب. وصل إليها في 17 أغسطس (آب) 1880. لقد توقف عن الشعر لكنه يواصل الكتابة بغزارة مسجلاً مشاهداته، ومنها: «لا توجد هنا أي شجرة ولا أي نبتة عشب ولا قطرة ماء عذب. عدن هي فوهة بركان خامد. وحولها صحراء من رمال جافة تماماً. ونحن نُشوى في قعر هذه الحفرة مثل فرن جيري. عليك أن تكون مجبراً على العمل من أجل خبزك في جحيم كهذا».
عثر رامبو على عمل لدى تاجر فرنسي يدعى ألفريد باردي، واشتغل في ورشة لفرز حبوب البن. لكن الملل لحق به وتاه في ممرات الفندق الذي نزل فيه، تحف به كتابات الرحالة العائدين من إثيوبيا والصومال، على الساحل الآخر من خليج عدن. كانت جنيات أفريقيا تستدعيه. وهو يريد استكشاف المجهول والانخراط في حركة حقيقية. لذلك عبر البحر وأقام في هرار، البلدة الضاجة بالحياة التي كانت ملتقى تجارياً على ارتفاع 1800 متر، تستقرّ فيها مقصورات القوافل والجمال والبضائع الآتية من عمق الصحراء. جال الشاعر الفرنسي في بقاع لم يتجول فيها أوروبي من قبل. واختلط بقبائل المنطقة، وتعرف على تقاليد حرضت لديه الرغبة في استعادة الكتابة. وبعد سنتين من بدء الرحلة، أرسل خطاباً إلى صديقه إرنست دولاهي يقول فيه: «أعمل على تأليف كتاب عن هرار التي استكشفتها، وإرساله للجمعية الجغرافية. وقد أوصيت في مدينة ليون على كاميرا فوتوغرافية تساعدني على نقل مناظر هذه البقاع الغريبة». تحمس رامبو للتصوير حماسة كبيرة. وسعى ليتعلم جميع تقنيات هذا الفن. وطلب بالبريد كتباً متخصصة في التجهيزات والمواد اللازمة لاستظهار الصور. وفي عام 1883 بعث بأولى لقطاته إلى عائلته. وكتب وراءها: «أقف في هذه الصورة في شرفة منزلي»، أو «أنا في الحديقة تحت شجرة موز»، و«أنا في المقهى»... اكتشف الشاعر مصدراً لجمع المال من خلال التصوير. والكل يريد أن يدفع له مقابل تصويره. لكن الجمعية الجغرافية لم ترد مطلقاً على رسائله. وبالتالي فإن الكتاب الذي كان بصدد تحضيره لم ير النور.
اشتكى رامبو في رسائله إلى عائلته من تحول ألوان الصور بسبب السوائل السيئة. ووعد بتحسين نوعيتها فيما سيلي من رسائل، وهي الصور التي يضمها، حالياً، متحف رامبو في مسقط رأسه. وفيها يبدو الشاعر وقد فارق سماء المراهق الحالم وصار رجلاً نحيلاً يرتدي بدلة بيضاء شبيهة بما كان يرتديه الرحالة الغربيون الذين يطوفون الشرق. وعلى الرغم من تدني نوعية الصور، فإنها تُرينا ملامح مغامر عنيد لوحته الشمس.
معرض لصور غير منشورة التقطها رامبو في أفريقيا
الشاعر الفرنسي عاش في عدن واستقدم كاميرا لكن الجمعية الجغرافية تجاهلته
معرض لصور غير منشورة التقطها رامبو في أفريقيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة