«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (3): السعودية في قلب الحدث السينمائي الأول للعام الثاني على التوالي

إعلان ولادة مؤسسة سينمائية إماراتية ـ سعودية طموحة

بن روس وخالد الشدياق وبيتر سميث (الشرق الأوسط)
بن روس وخالد الشدياق وبيتر سميث (الشرق الأوسط)
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (3): السعودية في قلب الحدث السينمائي الأول للعام الثاني على التوالي

بن روس وخالد الشدياق وبيتر سميث (الشرق الأوسط)
بن روس وخالد الشدياق وبيتر سميث (الشرق الأوسط)

عندما أقدم «مجلس الفيلم السعودي» على الاشتراك في مهرجان «كان» السينمائي عبر إقامة «بافليون» خاص باسم السينما السعودية، أنجز إطلالة مهمة على العالم في أهم أحداثه السنوية. بذلك كان هذا الوجود أحد العلامات الفارقة التي أثارت أقصى الاهتمام بسبب التوقعات التجارية والصناعية الكبيرة المنتظرة من المملكة التي كانت سابقاً على بعد ملحوظ من مثل هذه النشاطات.
هذا العام يتوقع العديد الانتقال من التمهيد والتقديم إلى الفعل، وهذا الفعل عليه أن يُخطط له جيداً لأنّه كما يقول مايكل غارين، أحد الملمّين بواقع السينما في منطقة الخليج: «لم يعد بالإمكان تحقيق أي شيء سوى الأفضل»، مضيفاً: أنّ «العالم ينظر إلى المنطقة الخليجية مدركاً أنّها تحفل بالمواهب وتستطيع الارتقاء بالفنون المرئية وتقديم الأفلام والمسلسلات التلفزيونية المرموقة. ويجب على هذه المنطقة أن تبرهن أنّها تستطيع مواكبة العالم في صناعة لا مكان فيها للفشل أو المحاولات غير المكتملة».
هذا بالتحديد ما تنشده الحكومة السعودية منذ أن قرّرت في مطلع العام الماضي فتح الباب واسعاً أمام العروض السينمائية والإنتاجات المحلية والمشتركة ودخول رحاب السينما بخطوات مدروسة، فأنشأت «مجلس الفيلم السعودي» بقيادة فيصل بالطيور.
- طموح عالٍ وتحديات
اليوم، وفي الدورة الجديدة من مهرجان «كان» السينمائي يعود اسم المملكة على أكثر من صعيد. مقالات متخصّصة في مجلتي «ذَا هوليوود ريبورتر» و«فاراياتي» تستقرآن المراحل الأخيرة من نمو السينما السعودية من ناحية، وتحاولان قراءة المستقبل المناط بها. وحضور سعودي وفير في منطقة السوق التجارية (تُسمى «القرية الدولية») على غرار العام الماضي.
ولكن إلى جانب ذلك، هناك حدث مهم يجمع عناصر العمل بين ثلاث جهات نشطة: محطة MBC، وشركة VOX في الإمارات والسعودية، وشركة «إيماج نيشن» في الإمارات. هذه الكيانات الضخمة الثلاث قرّرت تأسيس كيان جامع واحد كناية عن مؤسسة لإنتاج وتوزيع الأعمال.
مايكل غارين رئيس مجلس إدارة مؤسسة «إيماج نيشن» في أبوظبي، وخالد الشدياق رئيس مجلس إدارة «ماجد الفطيم فنتشرز»، وبيتر سميث المدير التنفيذي لاستوديوهات «إم بي سي»، وعلي جعفر المسؤول عن المحتوى في المحطة، عقدوا مؤتمراً صحافياً للحديث عن تلك البادرة الفعالة في سبيل إنجاز أعمال سينمائية وتلفزيونية مشتركة وممهورة بخاتم الاحتراف.
جمع المؤسسات الثلاث في بوتقة عمل واحد ليس اعتباطياً.
«إيماج نيشن» لديها خبرتها الطويلة الآن في مجال الإنتاج المحلي والعالمي. سبق لها وأن موّلت أفلاماً هوليوودية وأخرى إماراتية وتريد نقل خبرتها إلى «برنامج عمل طموح» كما يخبرنا غارين.
شركة الفطيم هي المؤسسة المالكة لأكبر دور عرض سينمائي في الإمارات وفي السعودية، وهي بذلك ستؤمن الخطوة المفتقدة للكثير من السينمائيين العرب وهي إيجاد الأبواب التي يمكن الدّخول منها لعرض أفلامهم في صالات السينما في منطقة الخليج.
بالنسبة لمحطة MBC التي تتمتع بحقيقة كونها المؤسسة التلفزيونية الأولى في العالم العربي، حجماً ومساحة انتشار، فإنّ وجودها هو لتأمين دورة متكاملة من الإنتاجات الجديدة، وهي تملك الاستوديوهات والإمكانيات الفنية العريضة لتولي هذه المسؤولية.
تكلم المتحدثون في شتي الجوانب المهمة.
نعم المرحلة الحاضرة مواتية وضرورية لمثل هذه الشراكة. نعم سيتم توخي الحرفية في الاختيارات والرغبة في فتح المجال أمام المواهب العربية من السعودية والإمارات ومصر أساساً وربما من دول أخرى، شرط أن يكون المضمون جيداً وكيفية معالجته على النحو الجيد متوفرة.
ونعم، هناك طموح عالٍ لهذه الخطوة وتحديات. الطموح هو الإسهام في دخول نادي المؤسسات السينمائية النشطة، والتحدي هو توفير الأرضية المناسبة وتحقيق الأعمال المختلفة عن السائد، حتى ولو كانت موجهة صوب الإنتاجات الروائية.
ركز خالد الشدياق في حديثه على ما ستوفره شركة VOX من حضور ضمن هذه المجموعة مستندة إلى خلفية خبيرة بأحوال السوق وإلى استعدادها الكبير لاستكمال ما بدأته من مشاريع في السعودية. قال: «لدينا الآن صالاتنا في الرياض وجدة ومع نهاية العام الحالي سنضيف صالات جديدة فيهما وفي مدن أخرى ليصل العدد إلى 110 صالات. وفي غضون السنوات الخمس المقبلة سنستثمر ما قد يصل إلى مئات الملايين من الدولارات للمزيد من الصالات السعودية».
هذا كله يلتقي مع قرار شركة AMC الأميركية لافتتاح من أربعين إلى خمسين صالة إضافية بحلول سنة 2024. وهي التي تملك حالياً العدد الأوفر من صالات السينما العاملة في السعودية.
- أسواق قلقة
ما سبق له علاقة وطيدة بمهرجان «كان». فالمهرجان كما هو معروف، ليس لمتعة مشاهدة الأفلام الفنية الجميلة (أو التي تقصد أن تكون) فقط، بل هو المرتع العالمي لكل من يريد فتح نوافذ جديدة في مهنة السينما.
هو لقاء متعدد الجوانب حافل بالمرايا التي ينظر فيها الجميع للتّعرف وتوفير الخبرات وتبادل المنافع. الباحث عن تمويل فيلم جديد كما الذي يريد أن يبيع إنتاجه موجود هنا إلى جانب المكاتب الإنتاجية والتوزيعية، الكبيرة منها والصغيرة. وهذا كله لجانب مؤسسات سينمائية حكومية وخاصة تمتد من الصين إلى أوروبا، وتشمل العالم العربي وأفريقيا وكل دول آسيا والقارة الأميركية.
المسابقة ذاتها، وتلك المظاهرات المصاحبة، تكشف عن العناوين الكبيرة، لكنّ الزّخم الآخر الذي يقوده ألوف الموزعين والمنتجين ورجال الأعمال لا يقل حجماً وأهمية. والجميع، من نقاد وسينمائيين ورجال أعمال، كانوا على موعد مع حفل الافتتاح الذي شمل تقديم أفلام المسابقة وخارجها (عبر شريط سريع العرض) وتقديم لجنة التحكيم الأولى برئاسة المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو الذي ألقى كلمته بالإسبانية (كونه مكسيكياً) فلم يفهم عليه سوى المتحدثين بها، ومنهم الممثل خافيير بارديم. أمّا الغالبية فاكتفت بالاستماع. ومن توقع أن تكون كلمة غونزاليز مختصرة، فوجئ بأنّها امتدت لنحو عشر دقائق، ضحك فيها المخرج تبعاً لنكات لم يشاركه فيها أحد. لكن هناك جوانب مثيرة للقلق في كل ذلك.
تبعاً لقيام شركة ديزني باستحواذ شركة فوكس بالكامل فإنّ عدد الاستوديوهات الكبيرة العاملة في هوليوود انحدر من ستة هي (ديزني، وفوكس، وصوني، ويونيفرسال، وورنر، وباراماونت) إلى خمسة. وكان سبق لزلزال من النوع ذاته أن وقع قبل عدة سنوات عندما خسرت شركة «مترو غولدوين ماير» حظوتها كإحدى الشّركات العملاقة في هوليوود فانخفض العدد من سبعة إلى ستة.
هذا الاستحواذ قام على أساس دحر المنافسة. فلشركة فوكس عدة مسلسلات، سوبر هيرو في مقدمتها «رجال إكس» و«ديزني» تريد الاستحواذ على كل شخصيات شركة مارفل التي لا تملكها بعد.
بذلك تستطيع أن تكون القوّة الإنتاجية الوحيدة التي تتمتع بشخصيات مارفل المشهودة أمثال كابتن أميركا و«ذا أفنجرز» و«كابتن مارفل» وكل الآخرين. في حين تحافظ «وورنر» على المنافسة الوحيدة القائمة (بعد تذويب «فوكس» داخل فرن «ديزني»)، إذ هي تملك حقوق شخصيات الكوميكس التابعة لشركة Action Comics (المعروفة بحرفي AC).
الخلل الآخر الذي يتحدث عنه أهل السينما هو في الاندثار الأسرع لشركات السينما المستقلة في أميركا، لكنّ لهذا حديث منفصل.
- فيلم الافتتاح
The Dead Don‪’‬t Die
• إخراج: جيم جارموش
• الولايات المتحدة | المسابقة
• التقييم :(وسط)
ليس سهلاً معرفة لماذا اختار المخرج (الجاد) جيم جارموش تحقيق فيلم زومبي، لكنّه من السّهل أن يدرك المرء أين نجاحات العمل وإخفاقاته. ولو أردنا الاختصار وتطبيق عبارة «هات من الآخر» لقلنا إنّ الإخفاقات أكثر من النجاحات في هذا الفيلم الذي اختير لافتتاح الدورة 72 من المهرجان.
الاختيار بحد ذاته ذكي: فيلم أميركي لمخرج معروف بأعماله الفنية ولشركة كبيرة (يونيفرسال)، وآمل بأن يعيش هذا الفيلم طويلاً حتى موعد موسم الجوائز لعله يدخل السباقات بنجاح، وبذلك يكون «كان» من المساهمين في إيصاله.
هذه حسنات مؤكدة، لكن الفيلم فيه من المتاعب ما قد يجعل تحقيق هذه الغايات مسألة فيها نظر. صحيح أنّه ما يزال يحمل بصمة مخرج لا يرضى إلّا بالتميز أسلوباً وتنفيذاً عن سواه، لكن ما يعرضه هنا لا يخلو من قدر ملحوظ من التنازل.
هناك رئيس مركز الشّرطة كليف (بيل موري) ومساعده روني (آدم دريفر) والشرطية ستيلا (مايا دلمونت). البلدة، واسمها سنترفيل، صغيرة لا تستحق أكثر من هذا العدد. لكن الموتى يخرجون من قبورهم ليلاً ويبدأون بقتل الضحايا وأكلها. والشرطيون الثلاثة يجدون أنفسهم وحيدين ضد هذا الجمع. يقتلون الكثيرين منهم لكن النهاية (وكما يشير روني أكثر من مرة) «ستكون وخيمة».
يربط المخرج تفشي الحالة بخضم من التأثيرات التي تتعرض لها الأرض بفعل المتغيرات البيئية والجيولوجية التي تتسبب في انزلاقها عن مسارها المعتاد وفقدانها الميزان الدقيق الذي تسير عليه من الأزل.
يلحظ كليف من البداية أنّ الليل تأخر وصوله، وسريعاً ما تؤكد التقارير أنّ الأرض فقدت ميزانها. على أنّ هذا الميل لنقد ما قد تؤول إليه الأرض نتيجة العوامل البيئية وسواها لا يسير مع الفيلم إيحاءً، ولا يشكّل ثقلاً، بل يُذكر مرات قليلة في المقدمة. بذلك لا يستطيع أن يترك الأثر الكافي لكي يحمل الفيلم رسالة في هذا الخصوص كتلك التي حملتها أفلام المخرج الراحل جورج أ. روميرو. وجارموش يومئ إلى تلك الأفلام أكثر من مرّة كما يمر على ذكر أفلام أخرى وأيضاً من دون تفعيل استعادة فنية. الأقسى يكمن في أنّ الحوار يتدخّل لمنح الفيلم مناسبات للضحك، لكن المعالجة بأسرها تبدو تحريكاً موقوتاً وجامداً.
في وسط كل ذلك يمكن إيجاد ما يثير في الحكاية ذاتها. إنّه معمول كفيلم رعب وكان عليه أن يُعالج كفيلم رعب وليس كفيلم كوميدي، لكن هذا كان سيتطلب مخرجاً مختلفاً.
- بالأرقام
> تسلم المهرجان 1845 فيلماً طويلاً تقدم بهدف اختياره في العروض الرسمية.
> العدد قريب من أعداد الأفلام في السنوات الماضية:
- 1665 في عام 2010
- 1858 في عام 2013
- 1643 في عام 2016
- 1885 في عام 2017
- 1916 في عام 2018
> الأفلام القصيرة التي رُشّحت للاختيار بلغت هذه السنة 4240 فيلماً.
> الدول التي أرسلت أفلامها ساعية للاشتراك في هذه الدورة بلغت 39 في مقابل 35 دولة في العام الماضي و42 في العام الأسبق.


مقالات ذات صلة

«نورة»... من «كان» إلى صالات السينما بالرياض

يوميات الشرق انطلاق عرض فيلم «نورة» في صالات السينما بالرياض (تصوير: تركي العقيلي)

«نورة»... من «كان» إلى صالات السينما بالرياض

وسط مشاركة كبيرة من نجوم العمل ونخبة الفنانين والنقاد والمهتمين، شهدت صالات السينما في الرياض، الأربعاء، العرض الافتتاحي الخاص للفيلم السعودي «نورة».

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «نورة» حقق إنجازاً غير مسبوق للسينما السعودية (مهرجان البحر الأحمر)

عرض فيلم «نورة» بصالات السينما السعودية والعالمية 20 يونيو

أعلنت «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» عرض فيلم «نورة» في صالات السينما السعودية والعالمية بتاريخ 20 يونيو المقبل، بعد نجاحه اللافت خلال مهرجان «كان» السينمائي.

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما المخرج الأميركي شون بيكر الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عن «أنورا» (إ.ب.أ)

فيلم «أنورا» للأميركي شون بيكر يفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان»

حصل المخرج الأميركي شون بيكر البالغ (53 عاماً)، السبت، على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عن «أنورا»، وهو فيلم إثارة في نيويورك.

«الشرق الأوسط» (كان)
سينما «أنواع اللطف» (مهرجان كان)

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (7): ساعات قبل ختام دورة «كان» الحافلة

في الساعة السابعة مساء بتوقيت فرنسا، يوم السبت، يبدأ حفل توزيع جوائز الدورة الـ77 من مهرجان «كان»، الذي انطلق في 14 مايو (أيار) الحالي.

محمد رُضا (كان)
سينما «هورايزن: ملحمة أميركية» (وورنر).

شاشة الناقد: أفلام عن الحروب والسلطة

HORIZON‪:‬ AN AMERICAN SAGA ★★★☆ إخراج: كيڤن كوستنر | وسترن | الولايات المتحدة | 2024 لجون فورد وهنري هاثاوي وجورج مارشال، فيلم وسترن مشترك حققوه سنة 1962 من…


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».