هل يكسب العالم رهان التدوير؟

بعد الحظر الصيني على استيراد النفايات

داخل مصنع لإعادة تدوير المخلفات المعدنية في فرنسا (أ.ف.ب)
داخل مصنع لإعادة تدوير المخلفات المعدنية في فرنسا (أ.ف.ب)
TT

هل يكسب العالم رهان التدوير؟

داخل مصنع لإعادة تدوير المخلفات المعدنية في فرنسا (أ.ف.ب)
داخل مصنع لإعادة تدوير المخلفات المعدنية في فرنسا (أ.ف.ب)

أعلنت الحكومة الصينية، قبل أيام، عن عزمها خفض وارداتها من النفايات الصلبة إلى الصفر بحلول سنة 2020، بهدف الحد من التلوث، وتشجيع شركات إعادة التدوير على معالجة كميات كبيرة من النفايات المحلية، وذلك في إطار خطة متواصلة أطلقت عليها اسم «السيف الوطني».
كانت الصين بدأت منذ مطلع 2018 بتطبيق إجراءات تصاعدية في سياستها المعلنة لتقييد استيراد المخلفات القابلة للتدوير، وزيادة التفتيش على خلو الواردات من الشوائب والمواد الملوثة. وهي تفرض حالياً حظراً على استيراد 24 نوعاً من النفايات، إلى جانب إلزام المصدرين بألا تزيد الشوائب في المخلفات المسموح باستيرادها عن 0.5 في المائة، وهي نسبة يكاد يستحيل الوصول إليها، وفقاً لعدد من التجمعات المهنية العاملة في قطاع التدوير.
قرار الصين حظر استيراد النفايات الأجنبية، أربك البلديات وشركات إدارة النفايات في معظم أنحاء العالم، وجعلها تبحث عن بدائل آنية لحل مشكلة التدوير. لكن في المقابل، يعتقد عدد من الخبراء أن هذه الأزمة قد تفتح الباب لأفكار جديدة جريئة واستراتيجيات أكثر استدامة في قطاع حيوي مكلف مادياً وبيئياً وصحياً.
كانت الصين، حتى وقت قريب، الوجهة المفضلة للتخلص من النفايات المكلفة تحت مسمى «تجارة المواد القابلة للتدوير»، واستقبلت وحدها نحو 45 في المائة من نفايات العالم البلاستيكية منذ سنة 1992. ومن المتوقع أن يتسبب الحظر الصيني في إبراز إشكالية التخلص مما مقداره 110 أطنان من النفايات البلاستيكية في غضون السنوات العشر المقبلة.
لندرك حجم المشكلة، يكفي أن نعلم أن صادرات الولايات المتحدة من المخلفات إلى الصين في 2017 بلغت قيمتها 5.6 مليار دولار، وأن نصف كمية الورق الذي تستهلكه الصين كانت تصنعه من النفايات الورقية التي تستوردها من الخارج.
وفي السنة الماضية، استوردت الصين 22.6 مليون طن من النفايات الصلبة بانخفاض مقداره 47 في المائة عن 2017 عندما لم يكن الحظر قائماً. كما انخفضت واردات البلاد من البلاستيك بنسبة 99 في المائة، ومن الورق المختلط بمقدار الثلث، في حين كانت مخلفات الألمنيوم والزجاج أقل تأثراً بالحظر.
ومع تراجع وصول النفايات إلى الصين، أخذت مشكلات إدارة النفايات تتصاعد في البلدان الغربية. في بريطانيا، جرى حرق أكثر من نصف مليون طن من البلاستيك والنفايات المنزلية الأخرى العام الماضي. وفي أستراليا، تواجه صناعة إعادة التدوير أزمة في الوقت الذي تكافح فيه البلاد للتعامل مع مخزون وزنه 1.3 مليون طن من النفايات القابلة لإعادة التدوير التي كانت تسعى لتصديرها إلى الصين.
في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تسعى الحكومات المحلية وشركات تدوير النفايات يائسة لإيجاد أسواق بديلة. وفي مقاطعات مثل دوغلاس وأوريغون وهانكوك وفيلادلفيا جرى تقليص أو إيقاف برامج إعادة التدوير المحلية، ما يعني أن كميات متزايدة من البلاستيك والورق تذهب إلى المكبات أو المحارق.
تدوير النفايات البلاستيكية مكلف نسبياً. وللعلم فإن معدل تدوير النفايات البلاستيكية عالمياً قبل تطبيق الحظر الصيني يقارب 9 في المائة فقط، في حين كان يتم حرق 12 في المائة من هذه النفايات، والتخلص من باقي الكمية في مكبات النفايات أو بشكل عشوائي في الأماكن المفتوحة والأنهار والمحيطات.
وكانت الصين وجهة لنحو 95 في المائة من المواد البلاستيكية المعدة للتدوير في الاتحاد الأوروبي، ويقابلها ما نسبته 70 في المائة في الولايات المتحدة، وذلك بفضل الأسعار المواتية لسفن الشحن التي تنقل السلع الاستهلاكية الصينية إلى الخارج، وتعود إلى الصين فارغة، إلى جانب انخفاض تكاليف العمالة في البلاد، وارتفاع الطلب على المواد المعاد تدويرها، وعدم تشدد المواصفات القياسية لتدوير المواد. لذلك توجب على هذه البلدان البحث عن أسواق بديلة لنفاياتها، فوجدت ضالتها في بلدان أخرى مثل الهند وتايلاند وفيتنام وماليزيا وإندونيسيا وتركيا.
منذ الحظر الصيني، تضاعفت صادرات بريطانيا من النفايات إلى ماليزيا ثلاث مرات، حيث تعاني صناعة إعادة التدوير المحلية من نقص التمويل. وشهدت البلاد زيادة في أعداد مصانع تدوير النفايات غير المرخصة، حتى أن السلطات قامت منذ منتصف 2018 بإغلاق نحو 150 مصنعاً غير مرخص.
وفي تركيا، التي لا يمكن تصنيفها بين البلدان المتطورة في مجال معالجة النفايات، ارتفعت واردات النفايات البلاستيكية من 4 آلاف طن شهرياً في أوائل 2016 إلى 33 ألف طن شهرياً في أوائل 2018، ثم انخفضت الواردات لتستقر عند 20 ألف شهرياً اعتباراً من منتصف 2018، وهذا دفع منظمة «غرينبيس» مؤخراً إلى مطالبة الحكومة التركية بإعادة النظر في سياساتها الخاصة بتدوير النفايات البلاستيكية.
ومع الوقت، أدركت الدول الآسيوية مخاطر النفايات التي بدأت تصب في موانئها، وباشرت بتطبيق إجراءات متشددة لتقييد وصول النفايات. فأعلنت ماليزيا وتايلاند حظراً موقتاً على استيراد النفايات البلاستيكية، بعد أن سبقتهما فيتنام في تبني الإجراء ذاته. ومن المتوقع أن تلحقها باقي الدول، لتصبح أبواب آسيا مغلقة رسمياً أمام نفايات الغرب.
ومع وجود الكثير من العقبات التي تحول دون تصدير النفايات رسمياً إلى أوروبا الشرقية، ستكون بلدان أفريقيا الغربية، وربما بعض الدول العربية، هي المقاصد المحتملة لنفايات أوروبا وأميركا الشمالية، علماً بأن هذه المناطق كانت منذ فترة طويلة وجهة للاتجار غير الشرعي في النفايات الخطرة. وبغياب منشآت المعالجة في هذه البلدان، قد نشهد طرح خطط تعاون دولي لإقامة منشآت لمعالجة النفايات بتمويل غربي، على أن تستقبل هذه المنشآت كميات من النفايات الغربية بحجة تحسين جدوى «تدوير النفايات» أو «تحويل النفايات إلى طاقة»، أو ما شابهها.
يجادل بعض الخبراء بأن الدول المتقدمة ستضطر في النهاية إلى مواجهة التكلفة الحقيقية لإدمانها استخدام البلاستيك، ما سيحفز الاستثمار الذي تشتد الحاجة إليه في مرافق إعادة التدوير المحلية، وكذلك الابتكار في تصنيع البلاستيك لجعل المنتجات أكثر ملاءمة لاستخدامها في أغراض أخرى. كما يمكن أن تؤثر هذه الأزمة إيجاباً في الثقافة العالمية التي تتجاهل عادة مصير النفايات التي يجري التخلص منها.
في دراسة جديدة، نُشرت العام الماضي في دورية «ساينس أدفانسز»، وجد علماء من جامعة جورجيا أنه «مع استمرار تزايد إنتاج البلاستيك واستعماله، والتزام الشركات والدول بالاقتصادات الدائرية وزيادة معدلات إعادة تدوير البلاستيك، فإن كمية النفايات البلاستيكية التي تحتاج إلى معالجة ستستمر في الزيادة في المستقبل المنظور. ومن دون ابتكار الأفكار الجديدة الجريئة واستراتيجيات الإدارة، لن يتم الوفاء بمعدلات إعادة التدوير الحالية، وستكون الأهداف والجداول الزمنية الطموحة لنمو إعادة التدوير مستقبلاً صعبة المنال».
إن تطبيق التغييرات التي اقترحتها الدراسة والاستثمار في مرافق جديدة لإعادة التدوير يتطلب وقتاً. ويمكن للحكومات أن تتبنى الكثير من الحلول المترابطة كتحسين البنية التحتية لإدارة النفايات مع تشجيع الاستثمار في الحلول الأساسية مثل تحسين تكنولوجيا إعادة التدوير، واستخدام المواد البيولوجية البديلة، وتطوير تصاميم المنتجات والنظم التي تولد كميات نفايات أقل.
الجانب الإيجابي للحظر الصيني هو دفع العالم نحو تبني خيارات أفضل لإدارة النفايات، مثل توسيع قدرات المعالجة في أميركا الشمالية وأوروبا، وتحفيز المصنّعين على جعل منتجاتهم قابلة لإعادة التدوير بسهولة أكبر. وهذا يجب أن يكون، قبل كل شيء، دعوة للاستيقاظ بشأن الحاجة إلى خفض حاد للمواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، والتركيز على الحاجة إلى اقتصاد دائري أكثر استدامة، تظل فيه الموارد قيد الاستخدام لأطول فترة ممكنة.
على أرض الواقع، بدأت بعض المبادرات الإيجابية في الظهور. في الولايات المتحدة، تقوم الكثير من منشآت تدوير النفايات بتوسيع نطاق عملها، وتحديث معدّاتها، وإضافة عمال لتحسين عملية الفرز وتقليل التلوث، بحيث تكون المواد مقبولة لدى المشترين المتطلبين.
كما أعلنت شركات صينية عن خطط لافتتاح مصانع جديدة لمعالجة النفايات على الأراضي الأميركية، في ساوث كارولينا وألاباما. وستقوم هذه الشركات بتمزيق أو تدوير أشياء كحاويات المواد الغذائية البلاستيكية لتصنيع منتجات مثل النباتات الاصطناعية والأغطية البلاستيكية.
ويبدو أن السلطات الأوروبية أدركت القيمة الكامنة في البلاستيك. وتسعى استراتيجية البلاستيك الخاصة بالمفوضية الأوروبية، التي تم كشف النقاب عنها في مطلع 2018، لجعل جميع العبوات البلاستيكية قابلة لإعادة التدوير أو الاستخدام بحلول عام 2030، ما سيوفر 200 ألف وظيفة، مع زيادة قدرة إعادة التدوير أربعة أضعاف. كما اتخذت الكثير من مدن أميركا الشمالية، بما فيها سياتل وفانكوفر، وشركات مثل «ستاربكس» و«أميركان إيرلاينز» إجراءات لخفض المواد البلاستيكية ذات الاستخدام مرة واحدة مثل أدوات المائدة البلاستيكية ومصاصات العصير وأدوات تحريك المشروبات.
وتتوجه مدن ودول كثيرة حول العالم لتقييد استخدام أكياس التسوق البلاستيكية. كما تخطط بريطانيا لخفض الضرائب على شركات تصنيع العبوات البلاستيكية من المواد المعاد تدويرها بمقدار 30 في المائة. وتبنت النرويج مؤخراً نظاماً يدفع فيه صانعو القوارير البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد «ضريبة بيئية» تتناقص مع ارتفاع معدل استرجاع المنتج بعد استخدامه.
إن الحظر الصيني هو بمثابة فرصة لتحسين الإدارة المحلية للنفايات البلاستيكية، ودعوة لتعزيز الاستثمار في التقنيات والمبادرات الجديدة. وأياً تكن خياراتنا المستقبلية يجب أن نعمل على إشراك جميع أصحاب المصلحة، من مواطنين وحكومات وأصحاب شركات، للوصول إلى إدارة متكاملة ومستدامة للنفايات محلياً وعالمياً.


مقالات ذات صلة

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

شمال افريقيا وزير الخارجية المصري سامح شكري (إ.ب.أ)

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

أكد رئيس مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب27) سامح شكري اليوم (السبت) أن «الغالبية العظمى» من الدول تعتبر مشاريع القرارات التي قدمتها رئاسة مؤتمر المناخ «متوازنة» بعدما انتقدها الاتحاد الأوروبي. وأوضح وزير خارجية مصر سامح شكري للصحافيين بعد ليلة من المفاوضات المكثفة إثر تمديد المؤتمر في شرم الشيخ أن «الغالبية العظمى من الأطراف أبلغتني أنها تعتبر النص متوازنا وقد يؤدي إلى اختراق محتمل توصلا إلى توافق»، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. وتابع يقول «على الأطراف أن تظهر تصميمها وأن تتوصل إلى توافق».

«الشرق الأوسط» (شرم الشيخ)
بيئة البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

شهدت سنة 2021 الكثير من الكوارث والخيبات، لكنها كانت أيضاً سنة «الأمل» البيئي. فعلى الصعيد السياسي حصلت تحولات هامة بوصول إدارة داعمة لقضايا البيئة إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. كما شهدت السنة العديد من الابتكارات الخضراء والمشاريع البيئية الواعدة، قد يكون أبرزها مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» التي أطلقتها السعودية. وفي مجال الصحة العامة، حقق العلماء اختراقاً كبيراً في مواجهة فيروس كورونا المستجد عبر تطوير اللقاحات وبرامج التطعيم الواسعة، رغم عودة الفيروس ومتحوراته. وفي مواجهة الاحتباس الحراري، نجح المجتمعون في قمة غلاسكو في التوافق على تسريع العمل المناخي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

أعلنت فرقة «كولدبلاي» البريطانية، الخميس، عن جولة عالمية جديدة لها سنة 2022 «تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة»، باستخدام الألواح الشمسية وبطارية محمولة وأرضية تعمل بالطاقة الحركية لتوفير كامل الكهرباء تقريباً، فضلاً عن قصاصات «كونفيتي» ورقية قابلة للتحلل وأكواب تحترم البيئة. وذكرت «كولدبلاي» في منشور عبر «تويتر» أن «العزف الحي والتواصل مع الناس هو سبب وجود الفرقة»، لكنها أكدت أنها تدرك «تماماً في الوقت نفسه أن الكوكب يواجه أزمة مناخية». وأضاف المنشور أن أعضاء فرقة الروك الشهيرة «أمضوا العامين المنصرمين في استشارة خبراء البيئة في شأن سبل جعل هذه الجولة تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة» و«

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

انخفضت انبعاثات الغازات المسببة للاحترار العالمي بشكل كبير العام الماضي حيث أجبر وباء «كورونا» الكثير من دول العالم على فرض الإغلاق، لكن يبدو أن هذه الظاهرة الجيدة لن تدوم، حيث إن الأرقام عاودت الارتفاع بحسب البيانات الجديدة، وفقاً لشبكة «سي إن إن». وتسببت إجراءات الإغلاق لاحتواء انتشار الفيروس التاجي في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 7 في المائة على مدار عام 2020 - وهو أكبر انخفاض تم تسجيله على الإطلاق - وفق دراسة نُشرت أمس (الأربعاء) في المجلة العلمية «نيتشر كلايميت شينج». لكن مؤلفيها يحذرون من أنه ما لم تعطِ الحكومات الأولوية للاستثمار بطرق بيئية في محاولاتها لتعزيز اقتصاداتها الم

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
بيئة 5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

أعلن الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن وزير الخارجية السابق جون كيري سيكون له مقعد في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وهي المرة الأولى التي يخصّص فيها مسؤول في تلك الهيئة لقضية المناخ. ويأتي تعيين كيري في إطار التعهدات التي قطعها جو بايدن خلال حملته الانتخابية بإعادة الولايات المتحدة إلى الطريق الصحيح في مواجهة تغيُّر المناخ العالمي ودعم قضايا البيئة، بعد فترة رئاسية صاخبة لسلفه دونالد ترمب الذي انسحب من اتفاقية باريس المناخية وألغى العديد من اللوائح التشريعية البيئية. وعلى عكس ترمب، يعتقد بايدن أن تغيُّر المناخ يهدّد الأمن القومي، حيث ترتبط العديد من حالات غياب الاستقرار

«الشرق الأوسط» (بيروت)

البراكين «مصدر خفي» لثاني أكسيد الكربون المسبِّب للاحترار المناخي

تُواصل البراكين إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بعد فترة طويلة من توقف نشاطها السطحي (رويترز)
تُواصل البراكين إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بعد فترة طويلة من توقف نشاطها السطحي (رويترز)
TT

البراكين «مصدر خفي» لثاني أكسيد الكربون المسبِّب للاحترار المناخي

تُواصل البراكين إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بعد فترة طويلة من توقف نشاطها السطحي (رويترز)
تُواصل البراكين إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بعد فترة طويلة من توقف نشاطها السطحي (رويترز)

واصلت مناطق بركانية ضخمة إطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، بعد فترة طويلة من توقّف نشاطها السطحي، مما يفسّر مدة بعض موجات التغير المناخي، بحسب دراسة نُشرت الأربعاء.

ووفق «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول بنجامين بلاك، عالم البراكين في جامعة روتجرز - نيو برونسويك بالولايات المتحدة، وقائد الدراسة التي أجراها فريق من علماء الجيولوجيا من مختلف أنحاء العالم، إنّ «النتائج التي توصّلنا إليها مهمة؛ لأنها تحدّد مصدراً خفياً لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، خلال موجات احترار مفاجئ على الأرض استمرت لفترة أطول بكثير مما كنّا نتوقع».

ويضيف بلاك في بيان مصاحب للدراسة المنشورة بمجلة «نيتشر جيوساينس»: «نعتقد أننا وجدنا جزءاً مهماً من لغز متعلق بكيفية تعطّل المناخ على الأرض، وربما بمقدار الأهمية نفسه عن كيفية تعافيه».

وترتبط «مناطق بركانية واسعة النطاق» (LIPs)، وهي مناطق واسعة تشكّلت نتيجة انفجارات ضخمة للصهارة خلال فترة جيولوجية قصيرة، بـ4 من 5 موجات انقراض جماعي كبرى منذ ظهور الحياة المعقّدة على الأرض.

وأطلقت هذه الانفجارات كميات هائلة من الغازات في الغلاف الجوي، بينها ثاني أكسيد الكربون والميثان، مما تسبّب بظاهرتَي الاحترار المناخي وتحمّض المحيطات.

وقبل 252 مليون سنة، وفي نهاية العصر البرمي، أدى النشاط البركاني المكثّف في إحدى هذه المناطق، وهي مصاطب سيبيريا، إلى موجة خسارة في التنوع البيولوجي كانت الأشد في تاريخ الكوكب؛ إذ انقرض أكثر من 90 في المائة من الأنواع البحرية، و70 في المائة من الأنواع البرّية.

واستمرت ظاهرة الاحترار المناخي والمعدلات المرتفعة لثاني أكسيد الكربون، واضطرابات دورة الكربون لنحو 5 ملايين سنة، أي حوالي 3 ملايين سنة بعد فترة النشاط البركاني.

وهذا التعافي الأبطأ للمناخ مما توقعته النماذج الجيوكيميائية المناخية الحيوية، يثير اهتمام العلماء منذ فترة طويلة.

فهل ثمة عتبات في حال تخطّيها تتوقف أنظمة تنظيم المناخ الطبيعي عن العمل؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يمكن تفسير مدة هذه الموجات وهي أطول بكثير من النشاط البركاني الذي تسبّب بها؟

انبعاثات من الأنشطة البشرية

جمّع مُعِدّو الدراسة تحليلات كيميائية للحمم البركانية، ووضعوا نماذج حاسوبية تحاكي الذوبان داخل الأرض، وقارنوا النتائج مع السجلات المناخية المحفوظة في الصخور الرسوبية، قبل طرح الفرضية القائلة بأن مرحلة النشاط البركاني السطحي لن تكون الوحيدة التي تشهد إطلاق ثاني أكسيد الكربون.

وحتى عندما توقفت الانفجارات، استمر إنتاج الصهارة في عمق قشرة الأرض ووشاحها، واستمرت في إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون، مما أدى إلى احترار طويل الأمد.

وفي حال تأكيد فرضية هذا المصدر «الخفي» لثاني أكسيد الكربون، فقد يعني ذلك أن «منظم الحرارة» للأرض يعمل بشكل أفضل مما كان يعتقد العلماء، بحسب مُعِدِّي الدراسة.

لكن هذا النوع من البراكين «لا يمكنه بالتأكيد تفسير التغير المناخي الحالي»، على ما يوضح بلاك لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

ويشير إلى أن هذه «الظاهرة النادرة والاستثنائية جداً، قادرة على جمع ما يكفي من الصهارة لتغطية الولايات المتحدة القارّية أو أوروبا بطبقة من الحمم البركانية بعمق نصف كيلومتر»، وقد شهدتها الأرض آخر مرة قبل 16 مليون سنة.

وحالياً يمثّل الكربون المنبعث في الغلاف الجوي من مختلف براكين الأرض مجتمعةً «أقل من 1 في المائة» من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالأنشطة البشرية، بحسب بلاك.

ويقول: «تشير دراستنا إلى أن أنظمة التحكم في مناخ الأرض تستمر في العمل حتى في ظل ظروف قاسية»، مما يمنحه الأمل في أن «العمليات الجيولوجية ستكون قادرة على إزالة ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية من الغلاف الجوي تدريجياً، لكن ذلك سيستغرق مئات الآلاف إلى ملايين السنين».