اكتشاف سر مرض التصلب المتعدد بعد أكثر من 150 عاماً

بروتين تجلط الدم يتسبب في حدوثه

الطبيب الفرنسي «جان مارتن شاركو» يشرح أعراضا سريرية لطلابه (مصدر الصورة : لوحة للفنان André Brouillet)
الطبيب الفرنسي «جان مارتن شاركو» يشرح أعراضا سريرية لطلابه (مصدر الصورة : لوحة للفنان André Brouillet)
TT

اكتشاف سر مرض التصلب المتعدد بعد أكثر من 150 عاماً

الطبيب الفرنسي «جان مارتن شاركو» يشرح أعراضا سريرية لطلابه (مصدر الصورة : لوحة للفنان André Brouillet)
الطبيب الفرنسي «جان مارتن شاركو» يشرح أعراضا سريرية لطلابه (مصدر الصورة : لوحة للفنان André Brouillet)

على الرغم من أن ثلاثة أطباء سبقوا طبيب الأمراض العصبية الفرنسي «جان مارتن شاركو»، في الحديث عن الأعراض السريرية المرتبطة بمرض التصلب المتعدد، وهم أستاذ علم الأمراض البريطاني روبرت كارسويل، وأستاذ علم التشريح وعلم الأمراض الفرنسي جان كروفييه، والطبيب الشرعي السويسري إدوارد فون رندفلايش، فإن الطبيب شاركو كان أول شخص يقوم بتعريفه واكتشافه بوصفه مرضا مستقلا، وكان ذلك قبل 151 عاماً، وتحديداً عام 1868.
طبيب الأعصاب الفرنسي وضع حينها أول معايير لتشخيص المرض والتي تعرف الآن باسم «ثالوث شاركو»، والتي تتضمن حركات عين لا إرادية تعرف بـ«الرأرأة» واهتزاز واسع عندما يصل الشخص لمبتغاه في الإمساك بشيء، ولذلك يسمى «رجفان قصدي»، وصعوبة في الحديث تجعل كلام المريض تلغرافيا، ولكنه لم يتوصل إلى الأسباب التي تؤدي لحدوث المرض، والتي تم الكشف عنها حديثاً.
ويحدث المرض عندما يهاجم الجهاز المناعي «الميالين» الذي يغطي الألياف العصبية، بما يسبب مشكلات في التواصل بين الدماغ وباقي الجسم، تعوق الشخص عن المشي أو الكتابة أو حتى الإمساك بشوكة وسكين.
وحدد العلماء في وقت سابق مسؤولية (خلايا CD8 +) المناعية عن حدوث المرض، حيث تحولت لسبب ما من المساهمة في صد غزو الأمراض إلى إلحاق الضرر بالجسم، إلا أنهم عجزوا عن فهم الأسباب وراء حدوث ذلك، وهو ما حاول الفريق البحثي الأميركي المشترك من جامعتي كونيتيكت وإلينوي بشيكاغو ومعاهد غلادستون، التوصل إليه خلال الدراسة التي نشرت في العدد الأخير من دورية «PNAS»، واكتشفوا سرا مهما يتعلق بدور سلبي يلعبه بروتين تجلط الدم المعروف باسم «الفيبرينوجين».
وتجاوز الفريق البحثي في دراسته محاولات سابقة طور خلالها الباحثون عقاقير للمساعدة في مواجهة مرض التصلب العصبي المتعدد باستخدام نموذج من فئران التجارب المصابة بالمرض، حيث كان يعيب هذه المحاولات أن الفئران التجريبية تطور استجابة مناعية مختلفة قليلاً عما يحدث في مرض التصلب العصبي المتعدد عند البشر، والسبب أن الخلايا المناعية المسؤولة عن حدوث المشكلة عند الفئران هي خلايا «CD4 +» بينما تكون خلايا «CD8 + «غير نشطة، ووقف ذلك حجر عثرة أمام فهم كيفية تطور الجهاز المناعي في مرض التصلب العصبي المتعدد.
ولحل هذه المشكلة اكتشف الفريق البحثي كيف يتم تنشيط خلايا «CD8 + «في فئران التجارب، حتى يتم الحصول على نتيجة قريبة جداً مما يحدث في البشر.
وتفرز الخلايا سواء كانت «CD4 +» أو «CD8 + «فقاعات صغيرة تحتوي على البروتينات والإشارات الوراثية، وتسمى هذه الفقاعات «حويصلة الخلية «أو EVs، وتطفو في مجرى الدم مثل رسالة في زجاجة، وهي الأداة الرئيسية المستخدمة في تواصل الخلايا مع بعضها، ولذلك فإن فهم ما يحدث في هذا التواصل قد يساعد في الوصول إلى حل.
كانت الخطوة التالية للفريق البحثي في مسعاه للوصول إلى الحل، هي حقن حويصلة الخلية «CD8 +» من الفئران الطبيعية السليمة في الفئران التي كان لديها مرض التصلب العصبي المتعدد، وأدى ذلك إلى اكتسابها المرض بالكيفية نفسها التي تحدث في البشر، وعندما قاموا بفحص حويصلة الخلية في الفئران والمرضى الذين يعانون من مرض التصلب العصبي المتعدد وجدوا أنها تحتوي على بروتين «الفيبرينوجين».
ويساعد هذا البروتين عادة على تجلط الدم وشفاء الجروح، لكن في هذه الفئران المصابة بالتصلب المتعدد، بدا أن حويصلة الخلية التي تحتوي عليه تساعد على تنشيط الخلايا المناعية CD8 + المسؤولة عن المرض، وتأكدوا من ذلك عندما حقنوا الفئران بحويصلة لا تحتوي على هذا البروتين، فلم تصب بالمرض.
ويقول عالم الأعصاب ستيفن كروكر، والباحث الرئيسي بالدراسة لـ«الشرق الأوسط»: «هذه النتائج توسع من فهمنا لكيفية مساهمة بروتين الفيبرينوجين في تطور مرض التصلب العصبي المتعدد، وهو ما قد تكون له آثار بعيدة المدى على العلاجات وكمؤشر حيوي في إجراء التحليلات لمتابعة تطور المرض».
ويضيف: «هذا يقتضي منا متابعة البحث لمعرفة كيف يحفز الفيبرينوجين خلايا CD8 + التي تتسبب في حدوث المرض».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)