تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

تفسير عملي لهجمات جماعة «التوحيد الوطنية»

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
TT

تحولات «داعش» ما بعد الهزيمة

العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)
العمل الارهابي الدامي في سريلانكا أثار الغضب حول العالم (أ.ف.ب)

تؤشر الهجمات التي هزت أربع كنائس وبعض الفنادق في سريلانكا، 21 أبريل (نيسان) الماضي، تزامناً مع عيد الفصح، وخلّفت أزيد من 300 قتيل ونحو 500 جريح، على تحول جوهري في الممارسة الإرهابية لتنظيم «جماعة التوحيد الوطنية».
غير أن فهم هذا التغيُّر المسلكي للتنظيم السيريلانكي لا يمكن أن يتم دون فهم «الانزياح الفكري والعملي»، الواقع لتنظيم «داعش»، بعد دحره بالعراق وسوريا، والإعلان الأميركي عن القضاء عليه، بداية سنة 2019.

تحوُّل «داعش» وتكيفه مع الوضع الجديد بشكل سريع، فاجأ كثيراً من المتخصصين، خصوصاً أن المسار الجديد يناقض البنية التنظيمية القديمة، ويقطع مع «فلسفة» التنظيم الواحدي الرأس، والمتمركز حول «الخلافة»، وما يُسمى الدولة الموحدة، ووجوب الهجرة للعيش تحت راية الخليفة الواحد. ويتجه إلى بناء تنظيم شبكي يقوم على الآيديولوجية الدينية القتالية، تقوده قيادة تقر وتضمن البيعة عن بعد للبغدادي. وفي الوقت ذاته تتمتع، باعتبارها فروعاً عالمية، بالاستقلالية في تحديد الأهداف، وفقاً للسياق والظروف المحلية.

«التوحيد الوطنية»

ضمن هذا السياق العالمي المتسم بتوالد الجماعات الإرهابية، أعلنت الشرطة السريلانكية في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، عن اعتقال أربعة أشخاص ينتمون لتنظيم إرهابي حديث النشأة، وقد ضبطت السلطات مجموعة من المتفجرات في حوزة المعتقلين بالعملية.
لكن المفاجأة، المسجلة حالياً، هي ظهور اسم التنظيم المتطرف لجماعة «التوحيد الوطنية»، على مسرح الأحداث بعد العمليات الوحشية في 21 أبريل بسريلانكا. وقد أثار عدد القتلى في التفجيرات اهتماماً خاصاً من قبل المنظومة الدولية، ووسائل الإعلام. غير أن الغموض الذي صاحب العمليات، سرعان ما كشف عن ارتباط «التوحيد الوطنية»، بالمنظمة الإرهابية العالمية «داعش» بزعامة البغدادي. هذا الأخير أثنى في تسجيله الأخير على الفرع السريلانكي، وتبنى التفجيرات واعتبرها ثأراً للباغور، آخر معقل فقده تنظيمه بسوريا، في مارس (آذار) 2019.
عُرفت «جماعة التوحيد الوطنية»، بزعامة محمد قاسم محمد زهران، باعتبارها تنظيماً دينياً يقوم ببعض الأعمال الاجتماعية والإغاثة، بالإضافة للتعليم الديني. كما عرفت الجماعة المتطرفة بمحليّتها، حيث لا ترتبط بتنظيم «توحيد تاميل نادو» الهندية بأي روابط تنظيمية. بل تعود جذورها لمجموعة متشددة أطلقت على نفسها اسم «جماعة التوحيد في سريلانكا».
ولم تكشف «التوحيد الوطنية»، عن نزعاتها المتطرفة إلا سنة 2016 حيث قام التنظيم بعمليات سرية لتخريب تماثيل بوذية، كما أصدر في السنة ذاتها منشورات تهاجم البوذيين والهندوس، في البلاد، مما أدى لاعتقال السلطات المتحدث باسم الجماعة وزعيمها في ذلك الوقت، عبد الرازق، في 2016، بتهمة التحريض على العنصرية، قبل أن تفرج عنه في العام نفسه. وفي هذه الفترة، كانت التوترات العرقية، خصوصاً بين البوذيين والمسلمين، تتصاعد علناً قبل أن يهدأ الوضع في نهاية المطاف، إلا أنه اندلع مرة أخرى سنة 2019.
يشار إلى أن سنة 2016، عرفت كذلك إقراراً من السلطات الرسمية بالتحاق 32 فرداً من مسلمي سريلانكا بتنظيم «داعش»، في سوريا والعراق. وتشير تقارير كثيرة إلى أن عودة بعض المقاتلين السريلانكيين من التنظيم إلى بلادهم، بعد هزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، تضاعف من خطر ازدياد النشاط الإرهابي بالبلاد، وبجنوب شرقي آسيا عموماً.

الأسلوب المتجدد

يبدو أن الهجوم الذي ضرب في 21 أبريل سريلانكا، هو نفس أسلوب، تنظيم «داعش». فهذا التنظيم الذي يصارع من أجل تسجيل الإرهاب باعتباره «اسماً تجارياً» خاصاً به، يعتمد من حيث الأهداف المختارة على «سياسة موحدة»، تركز على هدفين: الأول قتل أكبر نسبة من الأجانب، والثاني ضرب البنية الاقتصادية للدولة المهاجمة. ويتضح أن هذه السياسة، التي تطبق خارج العراق وسوريا، لم تكن وليدة 2019. بل إن «داعش» طبقها منذ هجمات باريس عامي 2015 و2016، واعتبر نجاحها في أوروبا مقياساً لصوابية التوجه الداعشي الجديد.
السياسة ذاتها، المعتمدة على قتل الأجانب وإرباك الاقتصاد، نجدها كذلك في هجمات «داعش» قبل عامين في أبريل 2017. حيث وقع تفجيران انتحاريان في مدينتي طنطا والإسكندرية المصريتين، واستهدفا كنيسة وكاتدرائية. مما أسفر عن قتل 45 شخصاً، وإصابة أكثر من 120 آخرين. وفي 13 مايو (أيار) 2018، نفذت عائلة هجمات انتحارية على ثلاث كنائس في سورابايا، ثاني أكبر مدن إندونيسيا، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 40 آخرين.
ويمكن القول إن السياسة الداعشية الجديدة، تُظهر من جهة، أن هجمات سريلانكا الأخيرة هي تعبير عن مزيد من التغيير في منهج «الدولة الإسلامية»، وقدرتها على استعمال التنظيمات المحلية، للتحول إلى راعٍ للإرهاب و«محتكر» لممارسته في جميع أنحاء العالم.
ومن جهة ثانية، يبدو أن تنظيم «داعش» وفكره المتطرف يلعب دوراً ما في الأحداث الدينية التي تقع بدولة جزر المالديف الصغيرة، إذ انضم نحو 450 من مواطنيها للقتال مع تنظيم البغدادي في سوريا والعراق. وبالتالي فهناك مخاوف من توسع تأثير «داعش» في المنطقة ليمتد من باكستان وصولاً إلى الهند ودولة النبال. فإذا كانت «داعش» تريد احتكار الإرهاب لنفسها، فإن التنظيمات الإرهابية المحلية بدورها ترغب في استثمار اسم «داعش» لتجلب وتستقطب المقاتلين.
يحصل هذا في الوقت الذي تفيد فيه كثير من التقارير المتعلقة بالإرهاب والأمن العالمي، بأن المقاتلين الأجانب المطرودين من العراق وسوريا، في طريقهم إلى الانتشار في أماكن مثل بنغلاديش والفلبين وإندونيسيا، وأن خبرتهم القتالية مكّنتهم من المساعدة في إنشاء خلايا لشن هجمات، حيث شهدت دكا هجوماً مفاجئاً في عام 2016 نفذته «جماعة المجاهدين في بنغلاديش»، وهي مجموعة محظورة لا ترتبط تنظيمياً بـ«الدولة الإسلامية».
وبعد ذلك، سيطر فرع تنظيم البغدادي في الفلبين على مدينة مراوي في عام 2017. وفي سورابايا الإندونيسية، وقعت هجمات مميتة على كنائس في عام 2018، وانضمت سريلانكا إلى القائمة سنة 2019. وفقاً لهذا المسار، فإن السياسة الجديدة لـ«داعش» تتجه لخلق توجه جديد في تدبير العلاقة بين التنظيم المركزي والمجموعات المحلية.
من جهة ثالثة، لا يمكن قياس الوضع الحالي لـ«داعش»، دون فهم أنه حركة آيديولوجية عالمية، وليست كياناً تنظيمياً واحداً، كما كانت وقت السيطرة على الموصل بالعراق والرقة بسوريا. فالتنظيم اليوم يعتمد على الولاء أكثر من اعتماده على الهيكلة التنظيمية، ويبدو أن تجربة المقاتلين الذين انضمّوا لـ«الخلافة»، وإعادة انتشارهم بعد الهزيمة، يساعد بشكل قوي في التكيف مع الوضع الجديد، والدخول في مرحلة التحول لتنظيم شبكي عالمي، قد يتجاوز تجربة «القاعدة» في هذا المجال. وهذا ما يظهر في تجربة «داعش»، غرب أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا، والجهاديين المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
إن الهجمات التي تم ذكرها أعلاه، في سريلانكا، وسورابايا، ومراوي، تؤكد أن المجموعات المحلية، هي التي تمنح الإشعاع العالمي لـ«داعش». بينما يمنحها تنظيم البغدادي، آيديولوجيته واسمه، في خريطة الامتياز الجهادي المحلي، وهذا ما ينتج تموقعاً متجدداً للحركة الإرهابية العالمية.
صحيح أن هذا لا يكشف كل خيوط الارتباط بين العالمية والمحلية في الإرهاب الداعشي. لكن دور الخلية المحلية في سريلانكا يؤشر على وجود أفراد تم تدريبهم من قِبل مَن لهم تجربة وصلة مباشرة بالمركز، وهذا ما جعل منها هجمات من نوع جديد، تعبر عن تجربة الفرع المحلي في تمثُّل الآيديولوجية، والممارسة الإرهابية للتنظيم المركزي.
إن هذا التحول، الذي بدأ في باريس ما بين عامي 2015 و2016، وانتقل إلى آسيا، يحتاج من التحالف الدولي ضد الإرهاب، إلى بذل مزيد من الجهود لمساعدة السلطات البنغلاديشية، والإندونيسية، والفلبينية، والسريلانكية وغيرها، على مواجهة التهديدات الإرهابية التي تمثلها، التنظيمات المحلية في علاقتها بآيديولوجية «داعش» القتالية.
من الواضح أن هجمات سيريلانكا تمثل ضربة كبيرة لجهود مكافحة الإرهاب. غير أنه من المهم تعقب كل تفاصيل العملية الإرهابية وفك لغز علاقة «جماعة التوحيد الوطني» بتنظيم «داعش». وربما تكون المهمة العاجلة هي منع الخلية المسؤولة عن صنع المتفجرات، من النشاط مرة أخرى وتنافي تكرار الهجمات مرة أخرى. ذلك أن ترك مثل هذه التنظيمات المحلية دون تعقب جدي، يمنحها فرصاً لخلق التهديد والتوسع.
من جهة أخرى، يجب على سريلانكا والدول المجاورة لها، الدخول في تحالف إقليمي ضد الإرهاب، وخلق تعاون وتنسيق أمني مشترك يسهّل تبادل المعلومات، والخبرات، وإجراء تدريبات مشتركة، تهم الحد من النشاطات الإرهابية، في منطقة جنوب وشرق آسيا.
إجمالاً يمكن القول إن تنظيم البغدادي، استطاع خلق دينامية متوحشة في صيغة غير مركزية. فالتنظيم الذي يتحول بسرعة نحو بناء مجموعات محلية، بعقلية آيديولوجية موحدة واستقلالية تنظيمية أنجز قفزة مهمة مكّنته من الوصول لمناطق مختلفة في العالم. ولعب في ذلك على أوتار متعددة مثل، الإثنية والطائفية والمظلومية... فقد اعتبر مركز «صوفان للدراسات الأمنية» ومقره نيويورك أن هجمات سريلانكا هدفها توتير الوضع بين المجموعات الطائفية وزعزعة حكومات الدول التي تقع فيها. أما معهد أبحاث السلام في العاصمة النرويجية أوسلو، فقد اعتبر أن الجانب الأمني هو السبب الرئيسي في اختيار الأهداف بسريلانكا. ذلك أن الكنائس الكاثوليكية، والفنادق، لا تخضع للمراقبة الأمنية، كما أن البلاد تشهد تراخياً للقوى الأمنية في لعب دورها.
أما الجانب العرقي، الذي يلعب عليه «داعش» وفروعه، فلم يسجل المعهد أن هناك عنفاً بين الجماعات العرقية، خلال العشر سنوات الأخيرة. وبالتالي، من الصعب أن تتبنى الطائفة الإسلامية آيديولوجية وفكر تنظيم «داعش» الإرهابي، واستعماله ضد المجموعات العرقية والدينية الأخرى. وكل ما تقدم يجعلنا نقر بأن هناك جانباً من الغموض في طبيعة وأسباب وأهداف «داعش» من الهجوم على الكنائس والفنادق بسريلانكا، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن هذا الغموض، لا ينفي تمكن التنظيم من تنشيط خلايا ومجموعات، مكّنته من توسيع الجغرافية التي تتعرض لتهديداته، رغم أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أعلن منذ بداية 2019، عن هزيمة «داعش».
* استاذ زائر للعلوم السياسية
ـ جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)
أوروبا القاتل النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك (إ.ب.أ)

«سفاح النرويج» يطلب الإفراج المشروط للمرة الثانية

مَثُل القاتل النرويجي، أندرس بيرينغ بريفيك، الذي قتل 77 شخصاً في حادث تفجير وإطلاق نار عشوائي عام 2011، أمام المحكمة، الثلاثاء، لحضور جلسة استماع بشأن إطلاق

«الشرق الأوسط» (أوسلو)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.