في «سوق البرغوث» لكل قطعة معروضة حكاية

يتضمن تُحفاً من «الأنتيكا» وأزياء وأدوات ديكور قديمة

أدوات ديكور وأثاث قديم يتضمّنه «سوق البرغوث»
أدوات ديكور وأثاث قديم يتضمّنه «سوق البرغوث»
TT

في «سوق البرغوث» لكل قطعة معروضة حكاية

أدوات ديكور وأثاث قديم يتضمّنه «سوق البرغوث»
أدوات ديكور وأثاث قديم يتضمّنه «سوق البرغوث»

في نسخة لبنانية شبيهة إلى حد كبير بتلك المعروفة في عواصم أوروبية كثيرة، وبينها باريس، ينطلق معرض «سوق البرغوث» في منطقة مار مخايل في بيروت.
ويعدّ هذا الحدث الذي بات ينتظره سنوياً هواة تحف «الأنتيكا» والأزياء القديمة المستعملة والجديدة، إضافة إلى أدوات الديكور والأثاث التاريخية، موعداً تقليدياً تحكي كل قطعة معروضة فيه حكاية مع الزمن. ويشارك فيه نحو 65 سيدة بحثت في خزانتها عن أغراض عتيقة، تفوح منها قصص إنسانية لتبيعها ولتعطيها نفحة الحياة من جديد.
«لقد بدأنا في هذا التقليد منذ عام 2017، وكنّا نقيمه في بلدة بيت مري المتنية، إلا أنّنا اليوم ارتأينا أن ينبض في قلب العاصمة اللبنانية، وفي أحد مناطقها العريقة، مار مخايل»، تقول دانييل كريكورجيان، منظمة المعرض. وتضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «نبحث عادة عن نساء يهوين جمع قطع (الأنتيكا)، وإعادة ترميم أدوات الديكور القديمة. كما يشاركنا عدد من أصحاب محلات التحف القديمة الموجودة في شارع البسطا البيروتي. فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه التجارة، إذ يقصده اللبنانيون والأجانب ليشتروا منه هذا النوع من الأغراض».
فموجة الـ«فينتادج» التي ترتكز على اقتناء أغراض مستعملة وقيمة في آنٍ، لديها هواتها في بيروت، من أشخاص متقدمين في العمر وشباب جامعي، يحبّ الالتفات إلى الماضي بأسلوبه الخاص. وتطالعك أثناء تجولك في هذا المعرض قطع تحيي لديك ذكريات قديمة، لطالما تختزنها في رأسك كالحلم. فتشاهد المذياع الضّخم بأزراره النّافرة، وكذلك جهاز التلفزيون الذي كان يبثّ بالأسود والأبيض من داخل صندوق خشبي مزخرف، إضافة إلى آلات موسيقية كالعود والبيانو مطعّمة بالعاج، تحمل آثار أنامل أصحابها الذين رحلوا عن هذه الدنيا، تاركين قدرها متعلقاً بورثتهم.
«بعد أن توفيت عمّتا زوجي تركتا وراءهما كماً من الفضيات والنّحاسيات وأزياء الفرو والقلادات والأساور والأحذية. ولأنّنا اضطررنا إلى إفراغ المنزل وتسليمه لصاحب الملك، كان علينا البحث عن طريقة للتّخلص من تلك الأغراض، من دون أن نرميها باستخفاف. فقرّرت أن أعرضها هنا، وهي تلاقي إقبالاً كبيراً من قبل الأشخاص هواة موضة الـ(فينتادج)»، تقول كارلا، إحدى المشاركات في «سوق البرغوث» في حديث لـ«الشرق الأوسط».
أمّا أفيديس، الذي يملك محلاً لبيع الأغراض القديمة في شارع برج حمود، فتجد لديه جهاز التلفون الأسود العظمي، وشنط السّفر الجلدية العتيقة، وكاميرا التصوير المربوطة بلمبة، والأسطوانات الغنائية المصنوعة من الزّفت، وما إلى هنالك من أدوات أخرى، كآلة «الداكتيلو» (الآلة الكاتبة اليدوية)، وساعة الحائط التي يخرج منها عصفور يغرّد ليعلمك بالوقت.
«إنّها هوايتي منذ الصّغر، وقد بدأت صدفة أجمع أغراض مسنين، يدخلون إلى دار عجزة تقع بالقرب من منزلي. فكنت أطلب الحصول على مقتنياتهم التي يتركونها خلفهم، ويستغني عنها عادة ورثتهم». ويضيف في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «اليوم أملك المئات من هذه الأغراض المتروكة التي تستقطب متذوّقي التحف القديمة، وهم كثر في لبنان».
وفي إحدى نواحي المعرض، تلفتك أدوات أثاث قديمة، كالـ«شيفونيرة» وخزانة المطبخ، والكرسي الهزاز، وغيرها، التي رُممت بتأنٍّ لتتلوّن بصبغ عصرية. «لدي هواية في إعادة إحياء القطع القديمة، وعادة ما أتخيّل حياتها السّابقة، وكيف كانت تُستخدم من قبل أصحابها، فأستلهم منها عملية الترميم والألوان التي تتطلّبها كل قطعة»، تقول نتالي سلامة، مهندسة ديكور تشارك في المعرض.
وبين صور بالأبيض والأسود، ودفاتر رسم تحمل أغلفتها صور فنانين عمالقة رحلوا، أو لا يزالون على قيد الحياة، أمثال أم كلثوم وصباح ومحمد عبد الوهاب، إضافة إلى فيروز، وبوسترات أفلام قديمة، من بينها ما يعود للممثل الهوليوودي الراحل أنطوني كوين، يتنقل نظرك محتاراً من أين يبدأ وأين ينتهي. فيحط تارة على طاولات صغيرة تعرف بـ«اسكملا» مزخرفة بفن الأرابيسك، وشمعدان فضي تتلألأ عليه حبات كريستال «سواروفسكي» الروسي الأصيل. «لقد ابتعتها في إحدى رحلاتي إلى إيطاليا، واليوم أعرضها للبيع بعد أن ازدحم بيتي بالتحف، ولم أعد أجد لها مكاناً»، تعلّق ناديا فرح، صاحبة «ستاند» خصصته لعرض الزجاجيات وأدوات الإنارة القديمة، المزينة بالشراشيب البيضاء.
وخلال جولتنا في «سوق البرغوث»، التقينا بأحد هواة جمع «الأنتيكا»، جورج خوري، الذي كان يتفحّص كرسياً خشبياً من نوع «شيز موريس» ليعلق: «هناك مجموعة كبيرة من الأغراض القيّمة المعروضة هنا، ولها تاريخ عريق. فأنا مطّلع على أنواعها وأهميتها، كوني أهوى جمع العملات والتابلوهات الزّيتية والطّوابع البريدية. وقد لفتتني هذه المقاعد المعتقة ذات الألوان العصرية».
وفي إحدى زوايا المعرض، تطالعك أدوات ديكور وحقائب يدوية مشغولة بالكروشيه والصّوف، بينها دمى مرصوصة بالقطن والصّوف معاً. «لقد كان هذا النّوع من الدّمى في الماضي مفضلاً لدينا»، تقول نتالي أبي عاد، التي تُحيك أدوات الديكور هذه بنفسها. وتضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد جعلتها عصرية لتمثل هاري بوتر، ودينيريس، وبرنسيس ليا، وسوبر مان، والمرأة الخارقة. كما استوحيت أخرى من رموز شخصيات بيروتية اشتهرت في الماضي، كـ(أبو نزيه) و(أبو العبد)».
تختتم زيارتك لـ«سوق البرغوث» في منطقة مار مخايل، وأنت مغمور بشعور جميل؛ حيث تمضي فيه ساعات حلوة تذكرك بقصص الزمن الجميل، حين كان أهلنا يروونها على مسامعنا، فكانوا يفتخرون بأنّهم عايشوها، ويتأسفون كوننا نجهلها. إلا أنّ «سوق البرغوث» يزوّدك بحفنة ذكريات من تلك الحقبة، قد تتمنّى ألا تكتب لها نهاية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».