هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

احتمالان وراء تورط التنظيم

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
TT

هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)

يواصل المحققون في سريلانكا أعمالهم على احتمالين فيما يتعلق بضلوع تنظيم داعش الإرهابي في التفجيرات الأخيرة التي هزت البلاد وقتلت أكثر من 250 شخصاً: الاحتمال الأول أن «داعش» وفر فقط الدعم المعنوي للمهاجمين الانتحاريين وكانت عناصر التنظيم على اتصال مباشر معهم. والاحتمال الثاني أن التنظيم الإرهابي ضالع تماماً في تنفيذ المجزرة الفائقة التعقيد كما وفر العون اللوجيستي والدعم الفني لفريق المهاجمين.
حتى الآن عثر المحققون على عدد قليل جداً من الأدلة التي تفيد بتورط تنظيم داعش المباشر في عملية التفجير، وذلك باستثناء شريط الفيديو الذي تعهد فيه المهاجمون بالتنفيذ والذي صدر وانتشر عبر شبكة من غرف الدردشة التي يشرف عليها عناصر التنظيم. ومن جانب آخر، يعتقد المحققون الأميركيون الذين انضموا إلى جهود التحقيقات الجارية، أن إصدار شريط الفيديو عبر منفذ «داعش» الإعلامي يعني أن المهاجمين السريلانكيين لديهم إمكانية الوصول والتواصل مع عناصر التنظيم الرئيسية. ويذكر أنه في حالات سابقة من الهجمات الإرهابية التي ظهرت فيها فيديوهات التعهد بالتنفيذ عبر منفذ «داعش» الإعلامي، أو غرف الدردشة الموالية للتنظيم، وجد المحققون في أغلب الأحيان أن المهاجمين وعناصر «داعش» كانوا على اتصال مباشر ببعضهم البعض وكانوا ضالعين تماما في توفير التوجيهات عن بُعد.

يعتقد الخبراء الإقليميون، على الرغم من مشاركة سريلانكيين في مجزرة التفجيرات الأخيرة التي استهدفت أكثر من مدينة في سريلانكا، بينها العاصمة كولومبو، أن هذه الدولة لم تكن أبدا على رادار التنظيم الإرهابي من قبل، كما هو الحال لدى بلدان أخرى في جنوب آسيا. وكانت قد ظهرت كل من باكستان والهند وأفغانستان على «رادار» التنظيم الإرهابي بصفة مباشرة في الماضي القريب بعدما لقي هيكل التنظيم هزيمة منكرة في معاقله الرئيسية بالعراق وسوريا.
أما الآن، فيخشى خبراء الأمن أنه إن تأكد للمحققين من وجود علاقة مباشرة بين التنظيم والمهاجمين الانتحاريين، فربما تكون المنطقة بأسرها على حافة ظهور جديد لتنظيم داعش كجماعة إرهابية لها موطئ قدم في جنوب وجنوب شرقي آسيا. فالمعروف أن في غالبية بلدان المنطقة حكومات فاعلة وقوات مسلحة وأمنية قادرة. ومع ذلك، كانت هناك فرصة متاحة لظهور «داعش» كقوة إقليمية في أفغانستان التي شهدت سيطرة التنظيم الفعلية على بعض الأراضي النائية هناك في شرق البلاد.
من جهة ثانية، كان الجيش السريلانكي قد تمكن في الآونة الأخيرة من إلحاق هزيمة مريرة بـ«حركة نمور التاميل» الإرهابية الانفصالية التي كانت تسيطر في السابق على جزء من أراضي الدولة – الجزيرة. وبالتالي، فما من فرصة سانحة أبدا لأن يسمح الجيش السريلانكي باستخدام أراضي البلاد كموطئ أو منطلق من جانب تنظيم داعش وتفرعاته.
في أي حال، في حالة التفجيرات السريلانكية الأخيرة، أصدر «داعش» بياناً يباهي فيه بالهجمات الانتحارية. كذلك وزع شريطا للفيديو يُظهر شخصاً تشتبه سلطات البلاد في أنه قائد عملية التفجير. وفي ذلك الشريط، يبدو أن ذلك الرجل هو المشتبه به الأول، ويدعى محمد زهران هاشم، وهو من الدعاة المتطرّفين غير المعروفين تماما في سريلانكا، وكان ملثماً يرتدي ملابس سوداء ومتعهدا في كلمته بالولاء التام للتنظيم الإرهابي. وللعلم، زهران هاشم من مواطني سريلانكا المسلمين، وهو زعيم جماعة متطرفة غامضة تفيد التقارير الأمنية بضلوعها في بعض السلوكيات المنفلتة في المجتمع السريلانكي، ولكن يُعتقد بأنه غير قادر بمفرده على الاضطلاع بتنفيذ مثل هذه الهجمات الإرهابية المعقدة بين عشية وضحاها.
الخبراء المعنيون بالأمر يعتقدون أن بناء الهياكل السياسية والمؤسساتية الحكومية الفاعلة هو الحل الوحيد للمشاكل التي تعانيها المجتمعات العراقية والسورية، وهو أيضاً المطلوب من أجل هزيمة «داعش» ومنه تمدده في دول جنوب وجنوب شرقي آسيا. ذلك أنه من شأن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها في مواجهة هذه الأخطار أن يزيد من تفاقم الأوضاع المضطربة أصلاً في هذه الدول. ومن الواضح أن «داعش» قد تمكن من السيطرة على الأراضي في الدول التي كانت هياكلها ومؤسساتها تعاني من ضعف واضح للجميع.
من جهة متصلة، يشير القادة الأفغان إلى أن «داعش» يشكل تهديدا خطيرا على أمن بلادهم، ولقد حذر الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي من التهديد العميق الذي يمثله التنظيم. ولا يزال التنظيم يرسل برجاله وعناصره إلى جنوب وغرب أفغانستان لاختبار نقاط الضعف هناك، كما قال الرئيس الأفغاني أمام الكونغرس الأميركي أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة في عام 2015. وتشير التقارير الإعلامية الدولية كذلك إلى أن المقاتلين الأجانب الذين يدينون بالولاء للتنظيم الإرهابي يعكفون على تجنيد العناصر الجديدة في شرق أفغانستان، ويحاولون استمالة المتطرفين الجدد بالموارد السخية وقوة الدعاية التي تملكها أذرع التنظيم المختلفة، وذلك وفقا لشهادة أحد مقاتلي حركة طالبان الذي التقى مع الكثير من قادة التنظيم. ويذكر أن الانتصارات السريعة والمثيرة التي حققها التنظيم في العراق وسوريا وليبيا كانت قد اجتذبت بعض الشباب من ذوي المظالم المحددة إزاء الحكومات المحلية أو القوات الأجنبية، والذين يريدن تأمين ولاء الحلفاء المحتملين بكل بساطة.
في شرق وشمال أفغانستان، تفيد التقارير الإخبارية بنشوب معارك ضارية بين مقاتلي حركة طالبان وعناصر «داعش» تلك التي تلقى فيها طالبان الدعم المباشر من القوى الإقليمية المعنية مثل باكستان وإيران. وتشير التقارير الإعلامية الباكستانية إلى أن هناك انقسامات واضحة للغاية في صفوف الجماعات الباكستانية المسلحة، وأن عددا كبيرا من أعضاء هذه الجماعات قد انضموا بالفعل إلى هذا تنظيم الإرهابي بصفة سرية، وهم في انتظار اللحظة المناسبة للإعلان عن قرارهم.
أيضاً، ظهر «داعش» في الآونة الأخيرة كقوة دعائية مؤثرة ونجح في جذب العديد من المقاتلين عبر الأراضي الباكستانية والأفغانية للانضمام إلى صفوفه. وهناك حالة واضحة من التنافس بين حركتي طالبان الأفغانية والباكستانية وبين «داعش» في السباق على تجنيد الأتباع من المتطرفين والمسلحين داخل أفغانستان وفي منطقة شمال غربي باكستان المضطربة.
ومن ثم، فالتساؤل المطروح الآن هو ما إذا كان يمكن لـ«داعش» أن يتحول إلى جماعة متشددة ذات هيمنة في باكستان.
هناك من الخبراء من يقول بأن الجذور الفكرية لـ«داعش» يمكنها الحؤول دون تحوله إلى جماعة مهيمنة داخل باكستان التي ترجع الكثير من الجماعات المتطرفة فيها بأصولها الآيديولوجية إلى الحركة الديوبندية. ورغم ذلك، فإن الخبراء من أمثال عارف جمال يعتقدون بأن الجماعات الديوبندية المتطرفة قد تصالحت في الماضي مع جماعات متشددة فكرياً في البلاد وتوجهت لشن الهجمات المريعة على البلاد والعباد في باكستان. والآن يحاول تنظيم داعش شق طريقه كذلك باتجاه بلدان آسيا الوسطى، وإلى الجماعات المتطرفة العاملة في تلك البلدان.

الوضع في آسيا الوسطى
المعروف أنه كان لدى أغلب الجماعات المسلحة من آسيا الوسطى ملاذاتها الآمنة في جنوب أفغانستان حتى عام 2010. ورغم ذلك، شرعت الحكومة الأفغانية اعتبارا من العام نفسه في مطاردة تلك الجماعات وطردها خارج مخابئها في جنوب البلاد بعد الضغوط الكبيرة التي تعرّضت لها كابل من حكومات بلدان آسيا الوسطى لذلك الشأن. ولقد تزامن ذلك مع بدء الحملة التي شنتها قيادة «داعش» في سوريا نحو استمالة المجندين الجدد من جماعات آسيا الوسطى المتطرفة للانضمام إلى صفوف التنظيم.
ويقول الخبراء بأن ذلك الوقت يتزامن مع بدء تحول ولاء تلك الجماعات عن تنظيم القاعدة إلى «داعش». والآن، صار تنظيم «داعش خراسان»، الذي أبصر النور في عام 2014. ليس مجرد معسكر لتدريب وتجهيز المسلحين من آسيا الوسطى، بل هو وسيلة مهمة لتوفير العون اللوجيستي والدعم الفني لتنفيذ الهجمات الإرهابية داخل بلدان آسيا الوسطى.
ومن أبرز الجماعات المتطرفة في آسيا الوسطى هناك «الحركة الإسلامية في أوزبكستان» التي أعلنت عن انضمامها كلياً إلى «داعش خراسان» في الآونة الأخيرة. مع الإشارة إلى أن أحد خبراء الأمن في العاصمة الباكستانية إسلام آباد يؤكد أنه ليست هناك جماعة متطرفة في آسيا الوسطى ليست على اتصال مباشر أو غير مباشر مع «داعش» في شرق أفغانستان.
هذا، وشرع تنظيم «داعش خراسان» في بث جذوره على نحو تدريجي متأن في البلدان المسلمة بالمنطقة، بما في ذلك أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، فضلا عن باكستان. وخلال السنوات الأخيرة، نسبت جُل الهجمات الطائفية الداخلية في جنوب البلاد إلى تنظيم داعش الإرهابي. بيد أن هجمات سريلانكا تشير إلى توجه جديد بأن التنظيم الإرهابي يحاول امتلاك قاعدة للعمليات المتقدمة في بلدان المنطقة التي تضم أقليات من المسلمين مثل الهند وسريلانكا.
ومن أقوى المؤشرات على هذه التوجهات أن العقل المدبر لهجمات سريلانكا الأخيرة كان يتابع الزيارات المتكررة إلى الهند ببين الفينة والفينة، ولفت وجوده المتكرر هناك انتباه أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية.
ختاماً، لقد بات الإرهاب من العوامل المسببة لاضطراب العلاقات بين مختلف الدول في جنوب آسيا، لا سيما العلاقات ما بين باكستان والهند. وإذا ما نجح داعش الآن في شن المزيد من أعمال العنف والإرهاب بين ربوع بلدان المنطقة، فربما يثبت بمرور الأيام أنه من أكثر العناصر المثيرة للاضطرابات، وبدرجة غير مسبوقة، في مستقبل المنطقة.


مقالات ذات صلة

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».