هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

احتمالان وراء تورط التنظيم

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
TT

هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)

يواصل المحققون في سريلانكا أعمالهم على احتمالين فيما يتعلق بضلوع تنظيم داعش الإرهابي في التفجيرات الأخيرة التي هزت البلاد وقتلت أكثر من 250 شخصاً: الاحتمال الأول أن «داعش» وفر فقط الدعم المعنوي للمهاجمين الانتحاريين وكانت عناصر التنظيم على اتصال مباشر معهم. والاحتمال الثاني أن التنظيم الإرهابي ضالع تماماً في تنفيذ المجزرة الفائقة التعقيد كما وفر العون اللوجيستي والدعم الفني لفريق المهاجمين.
حتى الآن عثر المحققون على عدد قليل جداً من الأدلة التي تفيد بتورط تنظيم داعش المباشر في عملية التفجير، وذلك باستثناء شريط الفيديو الذي تعهد فيه المهاجمون بالتنفيذ والذي صدر وانتشر عبر شبكة من غرف الدردشة التي يشرف عليها عناصر التنظيم. ومن جانب آخر، يعتقد المحققون الأميركيون الذين انضموا إلى جهود التحقيقات الجارية، أن إصدار شريط الفيديو عبر منفذ «داعش» الإعلامي يعني أن المهاجمين السريلانكيين لديهم إمكانية الوصول والتواصل مع عناصر التنظيم الرئيسية. ويذكر أنه في حالات سابقة من الهجمات الإرهابية التي ظهرت فيها فيديوهات التعهد بالتنفيذ عبر منفذ «داعش» الإعلامي، أو غرف الدردشة الموالية للتنظيم، وجد المحققون في أغلب الأحيان أن المهاجمين وعناصر «داعش» كانوا على اتصال مباشر ببعضهم البعض وكانوا ضالعين تماما في توفير التوجيهات عن بُعد.

يعتقد الخبراء الإقليميون، على الرغم من مشاركة سريلانكيين في مجزرة التفجيرات الأخيرة التي استهدفت أكثر من مدينة في سريلانكا، بينها العاصمة كولومبو، أن هذه الدولة لم تكن أبدا على رادار التنظيم الإرهابي من قبل، كما هو الحال لدى بلدان أخرى في جنوب آسيا. وكانت قد ظهرت كل من باكستان والهند وأفغانستان على «رادار» التنظيم الإرهابي بصفة مباشرة في الماضي القريب بعدما لقي هيكل التنظيم هزيمة منكرة في معاقله الرئيسية بالعراق وسوريا.
أما الآن، فيخشى خبراء الأمن أنه إن تأكد للمحققين من وجود علاقة مباشرة بين التنظيم والمهاجمين الانتحاريين، فربما تكون المنطقة بأسرها على حافة ظهور جديد لتنظيم داعش كجماعة إرهابية لها موطئ قدم في جنوب وجنوب شرقي آسيا. فالمعروف أن في غالبية بلدان المنطقة حكومات فاعلة وقوات مسلحة وأمنية قادرة. ومع ذلك، كانت هناك فرصة متاحة لظهور «داعش» كقوة إقليمية في أفغانستان التي شهدت سيطرة التنظيم الفعلية على بعض الأراضي النائية هناك في شرق البلاد.
من جهة ثانية، كان الجيش السريلانكي قد تمكن في الآونة الأخيرة من إلحاق هزيمة مريرة بـ«حركة نمور التاميل» الإرهابية الانفصالية التي كانت تسيطر في السابق على جزء من أراضي الدولة – الجزيرة. وبالتالي، فما من فرصة سانحة أبدا لأن يسمح الجيش السريلانكي باستخدام أراضي البلاد كموطئ أو منطلق من جانب تنظيم داعش وتفرعاته.
في أي حال، في حالة التفجيرات السريلانكية الأخيرة، أصدر «داعش» بياناً يباهي فيه بالهجمات الانتحارية. كذلك وزع شريطا للفيديو يُظهر شخصاً تشتبه سلطات البلاد في أنه قائد عملية التفجير. وفي ذلك الشريط، يبدو أن ذلك الرجل هو المشتبه به الأول، ويدعى محمد زهران هاشم، وهو من الدعاة المتطرّفين غير المعروفين تماما في سريلانكا، وكان ملثماً يرتدي ملابس سوداء ومتعهدا في كلمته بالولاء التام للتنظيم الإرهابي. وللعلم، زهران هاشم من مواطني سريلانكا المسلمين، وهو زعيم جماعة متطرفة غامضة تفيد التقارير الأمنية بضلوعها في بعض السلوكيات المنفلتة في المجتمع السريلانكي، ولكن يُعتقد بأنه غير قادر بمفرده على الاضطلاع بتنفيذ مثل هذه الهجمات الإرهابية المعقدة بين عشية وضحاها.
الخبراء المعنيون بالأمر يعتقدون أن بناء الهياكل السياسية والمؤسساتية الحكومية الفاعلة هو الحل الوحيد للمشاكل التي تعانيها المجتمعات العراقية والسورية، وهو أيضاً المطلوب من أجل هزيمة «داعش» ومنه تمدده في دول جنوب وجنوب شرقي آسيا. ذلك أنه من شأن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها في مواجهة هذه الأخطار أن يزيد من تفاقم الأوضاع المضطربة أصلاً في هذه الدول. ومن الواضح أن «داعش» قد تمكن من السيطرة على الأراضي في الدول التي كانت هياكلها ومؤسساتها تعاني من ضعف واضح للجميع.
من جهة متصلة، يشير القادة الأفغان إلى أن «داعش» يشكل تهديدا خطيرا على أمن بلادهم، ولقد حذر الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي من التهديد العميق الذي يمثله التنظيم. ولا يزال التنظيم يرسل برجاله وعناصره إلى جنوب وغرب أفغانستان لاختبار نقاط الضعف هناك، كما قال الرئيس الأفغاني أمام الكونغرس الأميركي أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة في عام 2015. وتشير التقارير الإعلامية الدولية كذلك إلى أن المقاتلين الأجانب الذين يدينون بالولاء للتنظيم الإرهابي يعكفون على تجنيد العناصر الجديدة في شرق أفغانستان، ويحاولون استمالة المتطرفين الجدد بالموارد السخية وقوة الدعاية التي تملكها أذرع التنظيم المختلفة، وذلك وفقا لشهادة أحد مقاتلي حركة طالبان الذي التقى مع الكثير من قادة التنظيم. ويذكر أن الانتصارات السريعة والمثيرة التي حققها التنظيم في العراق وسوريا وليبيا كانت قد اجتذبت بعض الشباب من ذوي المظالم المحددة إزاء الحكومات المحلية أو القوات الأجنبية، والذين يريدن تأمين ولاء الحلفاء المحتملين بكل بساطة.
في شرق وشمال أفغانستان، تفيد التقارير الإخبارية بنشوب معارك ضارية بين مقاتلي حركة طالبان وعناصر «داعش» تلك التي تلقى فيها طالبان الدعم المباشر من القوى الإقليمية المعنية مثل باكستان وإيران. وتشير التقارير الإعلامية الباكستانية إلى أن هناك انقسامات واضحة للغاية في صفوف الجماعات الباكستانية المسلحة، وأن عددا كبيرا من أعضاء هذه الجماعات قد انضموا بالفعل إلى هذا تنظيم الإرهابي بصفة سرية، وهم في انتظار اللحظة المناسبة للإعلان عن قرارهم.
أيضاً، ظهر «داعش» في الآونة الأخيرة كقوة دعائية مؤثرة ونجح في جذب العديد من المقاتلين عبر الأراضي الباكستانية والأفغانية للانضمام إلى صفوفه. وهناك حالة واضحة من التنافس بين حركتي طالبان الأفغانية والباكستانية وبين «داعش» في السباق على تجنيد الأتباع من المتطرفين والمسلحين داخل أفغانستان وفي منطقة شمال غربي باكستان المضطربة.
ومن ثم، فالتساؤل المطروح الآن هو ما إذا كان يمكن لـ«داعش» أن يتحول إلى جماعة متشددة ذات هيمنة في باكستان.
هناك من الخبراء من يقول بأن الجذور الفكرية لـ«داعش» يمكنها الحؤول دون تحوله إلى جماعة مهيمنة داخل باكستان التي ترجع الكثير من الجماعات المتطرفة فيها بأصولها الآيديولوجية إلى الحركة الديوبندية. ورغم ذلك، فإن الخبراء من أمثال عارف جمال يعتقدون بأن الجماعات الديوبندية المتطرفة قد تصالحت في الماضي مع جماعات متشددة فكرياً في البلاد وتوجهت لشن الهجمات المريعة على البلاد والعباد في باكستان. والآن يحاول تنظيم داعش شق طريقه كذلك باتجاه بلدان آسيا الوسطى، وإلى الجماعات المتطرفة العاملة في تلك البلدان.

الوضع في آسيا الوسطى
المعروف أنه كان لدى أغلب الجماعات المسلحة من آسيا الوسطى ملاذاتها الآمنة في جنوب أفغانستان حتى عام 2010. ورغم ذلك، شرعت الحكومة الأفغانية اعتبارا من العام نفسه في مطاردة تلك الجماعات وطردها خارج مخابئها في جنوب البلاد بعد الضغوط الكبيرة التي تعرّضت لها كابل من حكومات بلدان آسيا الوسطى لذلك الشأن. ولقد تزامن ذلك مع بدء الحملة التي شنتها قيادة «داعش» في سوريا نحو استمالة المجندين الجدد من جماعات آسيا الوسطى المتطرفة للانضمام إلى صفوف التنظيم.
ويقول الخبراء بأن ذلك الوقت يتزامن مع بدء تحول ولاء تلك الجماعات عن تنظيم القاعدة إلى «داعش». والآن، صار تنظيم «داعش خراسان»، الذي أبصر النور في عام 2014. ليس مجرد معسكر لتدريب وتجهيز المسلحين من آسيا الوسطى، بل هو وسيلة مهمة لتوفير العون اللوجيستي والدعم الفني لتنفيذ الهجمات الإرهابية داخل بلدان آسيا الوسطى.
ومن أبرز الجماعات المتطرفة في آسيا الوسطى هناك «الحركة الإسلامية في أوزبكستان» التي أعلنت عن انضمامها كلياً إلى «داعش خراسان» في الآونة الأخيرة. مع الإشارة إلى أن أحد خبراء الأمن في العاصمة الباكستانية إسلام آباد يؤكد أنه ليست هناك جماعة متطرفة في آسيا الوسطى ليست على اتصال مباشر أو غير مباشر مع «داعش» في شرق أفغانستان.
هذا، وشرع تنظيم «داعش خراسان» في بث جذوره على نحو تدريجي متأن في البلدان المسلمة بالمنطقة، بما في ذلك أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، فضلا عن باكستان. وخلال السنوات الأخيرة، نسبت جُل الهجمات الطائفية الداخلية في جنوب البلاد إلى تنظيم داعش الإرهابي. بيد أن هجمات سريلانكا تشير إلى توجه جديد بأن التنظيم الإرهابي يحاول امتلاك قاعدة للعمليات المتقدمة في بلدان المنطقة التي تضم أقليات من المسلمين مثل الهند وسريلانكا.
ومن أقوى المؤشرات على هذه التوجهات أن العقل المدبر لهجمات سريلانكا الأخيرة كان يتابع الزيارات المتكررة إلى الهند ببين الفينة والفينة، ولفت وجوده المتكرر هناك انتباه أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية.
ختاماً، لقد بات الإرهاب من العوامل المسببة لاضطراب العلاقات بين مختلف الدول في جنوب آسيا، لا سيما العلاقات ما بين باكستان والهند. وإذا ما نجح داعش الآن في شن المزيد من أعمال العنف والإرهاب بين ربوع بلدان المنطقة، فربما يثبت بمرور الأيام أنه من أكثر العناصر المثيرة للاضطرابات، وبدرجة غير مسبوقة، في مستقبل المنطقة.


مقالات ذات صلة

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.