هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

احتمالان وراء تورط التنظيم

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
TT

هجمات سريلانكا ودور «داعش» في آسيا

جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)
جنود ورجال شرطة أمام مواد مصادرة من مخبأ مفترض لتنظيم «داعش» في بلدة كالموناي أمس (أ.ب)

يواصل المحققون في سريلانكا أعمالهم على احتمالين فيما يتعلق بضلوع تنظيم داعش الإرهابي في التفجيرات الأخيرة التي هزت البلاد وقتلت أكثر من 250 شخصاً: الاحتمال الأول أن «داعش» وفر فقط الدعم المعنوي للمهاجمين الانتحاريين وكانت عناصر التنظيم على اتصال مباشر معهم. والاحتمال الثاني أن التنظيم الإرهابي ضالع تماماً في تنفيذ المجزرة الفائقة التعقيد كما وفر العون اللوجيستي والدعم الفني لفريق المهاجمين.
حتى الآن عثر المحققون على عدد قليل جداً من الأدلة التي تفيد بتورط تنظيم داعش المباشر في عملية التفجير، وذلك باستثناء شريط الفيديو الذي تعهد فيه المهاجمون بالتنفيذ والذي صدر وانتشر عبر شبكة من غرف الدردشة التي يشرف عليها عناصر التنظيم. ومن جانب آخر، يعتقد المحققون الأميركيون الذين انضموا إلى جهود التحقيقات الجارية، أن إصدار شريط الفيديو عبر منفذ «داعش» الإعلامي يعني أن المهاجمين السريلانكيين لديهم إمكانية الوصول والتواصل مع عناصر التنظيم الرئيسية. ويذكر أنه في حالات سابقة من الهجمات الإرهابية التي ظهرت فيها فيديوهات التعهد بالتنفيذ عبر منفذ «داعش» الإعلامي، أو غرف الدردشة الموالية للتنظيم، وجد المحققون في أغلب الأحيان أن المهاجمين وعناصر «داعش» كانوا على اتصال مباشر ببعضهم البعض وكانوا ضالعين تماما في توفير التوجيهات عن بُعد.

يعتقد الخبراء الإقليميون، على الرغم من مشاركة سريلانكيين في مجزرة التفجيرات الأخيرة التي استهدفت أكثر من مدينة في سريلانكا، بينها العاصمة كولومبو، أن هذه الدولة لم تكن أبدا على رادار التنظيم الإرهابي من قبل، كما هو الحال لدى بلدان أخرى في جنوب آسيا. وكانت قد ظهرت كل من باكستان والهند وأفغانستان على «رادار» التنظيم الإرهابي بصفة مباشرة في الماضي القريب بعدما لقي هيكل التنظيم هزيمة منكرة في معاقله الرئيسية بالعراق وسوريا.
أما الآن، فيخشى خبراء الأمن أنه إن تأكد للمحققين من وجود علاقة مباشرة بين التنظيم والمهاجمين الانتحاريين، فربما تكون المنطقة بأسرها على حافة ظهور جديد لتنظيم داعش كجماعة إرهابية لها موطئ قدم في جنوب وجنوب شرقي آسيا. فالمعروف أن في غالبية بلدان المنطقة حكومات فاعلة وقوات مسلحة وأمنية قادرة. ومع ذلك، كانت هناك فرصة متاحة لظهور «داعش» كقوة إقليمية في أفغانستان التي شهدت سيطرة التنظيم الفعلية على بعض الأراضي النائية هناك في شرق البلاد.
من جهة ثانية، كان الجيش السريلانكي قد تمكن في الآونة الأخيرة من إلحاق هزيمة مريرة بـ«حركة نمور التاميل» الإرهابية الانفصالية التي كانت تسيطر في السابق على جزء من أراضي الدولة – الجزيرة. وبالتالي، فما من فرصة سانحة أبدا لأن يسمح الجيش السريلانكي باستخدام أراضي البلاد كموطئ أو منطلق من جانب تنظيم داعش وتفرعاته.
في أي حال، في حالة التفجيرات السريلانكية الأخيرة، أصدر «داعش» بياناً يباهي فيه بالهجمات الانتحارية. كذلك وزع شريطا للفيديو يُظهر شخصاً تشتبه سلطات البلاد في أنه قائد عملية التفجير. وفي ذلك الشريط، يبدو أن ذلك الرجل هو المشتبه به الأول، ويدعى محمد زهران هاشم، وهو من الدعاة المتطرّفين غير المعروفين تماما في سريلانكا، وكان ملثماً يرتدي ملابس سوداء ومتعهدا في كلمته بالولاء التام للتنظيم الإرهابي. وللعلم، زهران هاشم من مواطني سريلانكا المسلمين، وهو زعيم جماعة متطرفة غامضة تفيد التقارير الأمنية بضلوعها في بعض السلوكيات المنفلتة في المجتمع السريلانكي، ولكن يُعتقد بأنه غير قادر بمفرده على الاضطلاع بتنفيذ مثل هذه الهجمات الإرهابية المعقدة بين عشية وضحاها.
الخبراء المعنيون بالأمر يعتقدون أن بناء الهياكل السياسية والمؤسساتية الحكومية الفاعلة هو الحل الوحيد للمشاكل التي تعانيها المجتمعات العراقية والسورية، وهو أيضاً المطلوب من أجل هزيمة «داعش» ومنه تمدده في دول جنوب وجنوب شرقي آسيا. ذلك أنه من شأن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها في مواجهة هذه الأخطار أن يزيد من تفاقم الأوضاع المضطربة أصلاً في هذه الدول. ومن الواضح أن «داعش» قد تمكن من السيطرة على الأراضي في الدول التي كانت هياكلها ومؤسساتها تعاني من ضعف واضح للجميع.
من جهة متصلة، يشير القادة الأفغان إلى أن «داعش» يشكل تهديدا خطيرا على أمن بلادهم، ولقد حذر الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي من التهديد العميق الذي يمثله التنظيم. ولا يزال التنظيم يرسل برجاله وعناصره إلى جنوب وغرب أفغانستان لاختبار نقاط الضعف هناك، كما قال الرئيس الأفغاني أمام الكونغرس الأميركي أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة في عام 2015. وتشير التقارير الإعلامية الدولية كذلك إلى أن المقاتلين الأجانب الذين يدينون بالولاء للتنظيم الإرهابي يعكفون على تجنيد العناصر الجديدة في شرق أفغانستان، ويحاولون استمالة المتطرفين الجدد بالموارد السخية وقوة الدعاية التي تملكها أذرع التنظيم المختلفة، وذلك وفقا لشهادة أحد مقاتلي حركة طالبان الذي التقى مع الكثير من قادة التنظيم. ويذكر أن الانتصارات السريعة والمثيرة التي حققها التنظيم في العراق وسوريا وليبيا كانت قد اجتذبت بعض الشباب من ذوي المظالم المحددة إزاء الحكومات المحلية أو القوات الأجنبية، والذين يريدن تأمين ولاء الحلفاء المحتملين بكل بساطة.
في شرق وشمال أفغانستان، تفيد التقارير الإخبارية بنشوب معارك ضارية بين مقاتلي حركة طالبان وعناصر «داعش» تلك التي تلقى فيها طالبان الدعم المباشر من القوى الإقليمية المعنية مثل باكستان وإيران. وتشير التقارير الإعلامية الباكستانية إلى أن هناك انقسامات واضحة للغاية في صفوف الجماعات الباكستانية المسلحة، وأن عددا كبيرا من أعضاء هذه الجماعات قد انضموا بالفعل إلى هذا تنظيم الإرهابي بصفة سرية، وهم في انتظار اللحظة المناسبة للإعلان عن قرارهم.
أيضاً، ظهر «داعش» في الآونة الأخيرة كقوة دعائية مؤثرة ونجح في جذب العديد من المقاتلين عبر الأراضي الباكستانية والأفغانية للانضمام إلى صفوفه. وهناك حالة واضحة من التنافس بين حركتي طالبان الأفغانية والباكستانية وبين «داعش» في السباق على تجنيد الأتباع من المتطرفين والمسلحين داخل أفغانستان وفي منطقة شمال غربي باكستان المضطربة.
ومن ثم، فالتساؤل المطروح الآن هو ما إذا كان يمكن لـ«داعش» أن يتحول إلى جماعة متشددة ذات هيمنة في باكستان.
هناك من الخبراء من يقول بأن الجذور الفكرية لـ«داعش» يمكنها الحؤول دون تحوله إلى جماعة مهيمنة داخل باكستان التي ترجع الكثير من الجماعات المتطرفة فيها بأصولها الآيديولوجية إلى الحركة الديوبندية. ورغم ذلك، فإن الخبراء من أمثال عارف جمال يعتقدون بأن الجماعات الديوبندية المتطرفة قد تصالحت في الماضي مع جماعات متشددة فكرياً في البلاد وتوجهت لشن الهجمات المريعة على البلاد والعباد في باكستان. والآن يحاول تنظيم داعش شق طريقه كذلك باتجاه بلدان آسيا الوسطى، وإلى الجماعات المتطرفة العاملة في تلك البلدان.

الوضع في آسيا الوسطى
المعروف أنه كان لدى أغلب الجماعات المسلحة من آسيا الوسطى ملاذاتها الآمنة في جنوب أفغانستان حتى عام 2010. ورغم ذلك، شرعت الحكومة الأفغانية اعتبارا من العام نفسه في مطاردة تلك الجماعات وطردها خارج مخابئها في جنوب البلاد بعد الضغوط الكبيرة التي تعرّضت لها كابل من حكومات بلدان آسيا الوسطى لذلك الشأن. ولقد تزامن ذلك مع بدء الحملة التي شنتها قيادة «داعش» في سوريا نحو استمالة المجندين الجدد من جماعات آسيا الوسطى المتطرفة للانضمام إلى صفوف التنظيم.
ويقول الخبراء بأن ذلك الوقت يتزامن مع بدء تحول ولاء تلك الجماعات عن تنظيم القاعدة إلى «داعش». والآن، صار تنظيم «داعش خراسان»، الذي أبصر النور في عام 2014. ليس مجرد معسكر لتدريب وتجهيز المسلحين من آسيا الوسطى، بل هو وسيلة مهمة لتوفير العون اللوجيستي والدعم الفني لتنفيذ الهجمات الإرهابية داخل بلدان آسيا الوسطى.
ومن أبرز الجماعات المتطرفة في آسيا الوسطى هناك «الحركة الإسلامية في أوزبكستان» التي أعلنت عن انضمامها كلياً إلى «داعش خراسان» في الآونة الأخيرة. مع الإشارة إلى أن أحد خبراء الأمن في العاصمة الباكستانية إسلام آباد يؤكد أنه ليست هناك جماعة متطرفة في آسيا الوسطى ليست على اتصال مباشر أو غير مباشر مع «داعش» في شرق أفغانستان.
هذا، وشرع تنظيم «داعش خراسان» في بث جذوره على نحو تدريجي متأن في البلدان المسلمة بالمنطقة، بما في ذلك أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، فضلا عن باكستان. وخلال السنوات الأخيرة، نسبت جُل الهجمات الطائفية الداخلية في جنوب البلاد إلى تنظيم داعش الإرهابي. بيد أن هجمات سريلانكا تشير إلى توجه جديد بأن التنظيم الإرهابي يحاول امتلاك قاعدة للعمليات المتقدمة في بلدان المنطقة التي تضم أقليات من المسلمين مثل الهند وسريلانكا.
ومن أقوى المؤشرات على هذه التوجهات أن العقل المدبر لهجمات سريلانكا الأخيرة كان يتابع الزيارات المتكررة إلى الهند ببين الفينة والفينة، ولفت وجوده المتكرر هناك انتباه أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية.
ختاماً، لقد بات الإرهاب من العوامل المسببة لاضطراب العلاقات بين مختلف الدول في جنوب آسيا، لا سيما العلاقات ما بين باكستان والهند. وإذا ما نجح داعش الآن في شن المزيد من أعمال العنف والإرهاب بين ربوع بلدان المنطقة، فربما يثبت بمرور الأيام أنه من أكثر العناصر المثيرة للاضطرابات، وبدرجة غير مسبوقة، في مستقبل المنطقة.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.