يوسف شاهين... نأى بنفسه عن السائد وبقي مصرياً‬

«السينماتيك فرنسيز» ما زال يحتفي به ‬بعد عقد على رحيله

يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
TT

يوسف شاهين... نأى بنفسه عن السائد وبقي مصرياً‬

يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»

يستمرّ «سينماتيك فرنسيز» بتقديم معرض المخرج المصري الراحل يوسف شاهين يومياً من الثانية عشرة ظهراً. ديكورات وتصاميم ملابس وملصقات وأفلام يوفرها المركز الفرنسي الذي لا غنى عنه لأي سينمائي قديم أو حديث منذ الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، العام الماضي، وينتهي في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) المقبل. ‬ خلال هذه الفترة كان عرض أعمالاً لعدد كبير من السينمائيين العالميين، من بينهم أفلام المخرج السويدي إنغمار برغمن، والمخرج الفرنسي رينيه كليز، والممثلة الأميركية جين فوندا، والممثلة والمخرجة الفرنسية فاليريا بروني تديشي، والمخرج الأميركي بيلي وايلدر، والمخرج الإيطالي ألبرتو لاتوادا من بين رهط كبير آخر.‬
في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أقام مهرجان الجونة حفلاً خاصاً لموسيقى أفلام شاهين، عارضاً مقتطفات من أربعة أفلام. وقامت «مدينة الثقافة التونسية» بإقامة معرض صور له للمناسبة ذاتها. وقامت صالة «زاوية» في القاهرة بعرض أفلام للمخرج العريق للمناسبة ذاتها شهدت، كما أفادت الأنباء التي وردت آنذاك، إقبالاً كثيفاً من جمهور لم يعاصر تماماً أعمال المخرج السابقة. ‬
‬- شاهين في «كان»‬
شق شاهين طريقه إلى الغرب باكراً كما يشهد مهرجان «كان» السينمائي ذاته.‬ ففي عام 1951 قدّم شاهين فيلمه «ابن النيل» (ثاني أفلامه) على شاشة المهرجان الفرنسي داخل المسابقة. بعد ثلاث سنوات عاد بفيلمه الثامن «صراع في الوادي» ثم غاب طويلاً عن المهرجان الفرنسي (وإن قصد مهرجان برلين بفيلمه «باب الحديد» سنة 1958)، حتى عاد إليه في «الأرض» (1970) ولاحقاً (وخلال السنوات المتوالية) «العصفور» (1973) و«وداعاً بونابرت» (1985)، و«الإسكندرية كمان وكمان» (1990)، و«المصير» (1997)، و«الآخر» (1999)، و«القاهرة» (2001)، و«الإسكندرية - نيويورك» (2004). ومنحه المهرجان جائزة خاصة عن مجمل أعماله الأمر الذي لم يتكرر له مع أي مهرجان رئيسي آخر.‬
للتأكيد، لم يكن شاهين المخرج المصري الوحيد الذي وطأ عتبات «كان» عارضاً أفلامه في المسابقة أو في أقسامها الموازية. قبله اختار المهرجان الفرنسي فيلم «دنيا» لمحمد كريم لعرضه في مسابقة دورة 1947. بعد عامين جاء دور صلاح أبو سيف بفيلم «مغامرات عنتر وعبلة» (المسابقة). فيلم كمال الشيخ الممتاز «حياة أو موت» كان رابع فيلم مصري يعرضه «كان» في مسابقته، أي مباشرة بعد «ابن النيل» ليوسف شاهين. عاد صلاح أبوسيف لمرّة ثانية وأخيرة عبر «شباب امرأة» (1956)، وعاد كمال الشيخ بفيلم «الليلة الأخيرة» (1964). وخلال ذلك شهدت أفلام مصرية أخرى لهنري بركات («الحرام»، 1965) وعاطف سالم («سنوات المجد»، 1965) وعاطف الطيب («الحب فوق هضبة الهرم»، 1985) ومحمد خان («عودة مواطن، 1997) ويسري نصر الله («باب الشمس»، 2004) وتهاني راشد («البنات دول»، 2006) وصولاً إلى أبو بكر شوقي الذي دخل مسابقة «كان» بفيلم «يوم الدين» في العام الماضي.‬
‬- المقابل المختلف‬
لكن الجمهور الغربي تآنس مع أفلام يوسف شاهين وأقبل عليها أكثر من أي مخرج مصري آخر. الواضح أن التآلف بين الجمهور الفرنسي، على الأخص، والعالمي، بشكل عام، تمحور حول أفلام يوسف شاهين أكثر من أي أفلام أخرى لأي مخرج عربي آخر. ‬
هناك سبب مهم وأساسي لذلك تكشفه أفلام يوسف شاهين ذاتها. فالمخرج الذي وُلد في الإسكندرية سنة 1926، عرف كيف ينأى بنفسه عن السائد المصري، وأن يبقى مخرجاً مصرياً في الوقت ذاته.
يوسف شاهين حقق أفلامه المصرية في أحداثها وشخصياتها بصياغة أجنبية عرف كيف يتسلل إليها حال فك قيوده مع الشكل التقليدي للفيلم المصري، وذلك منذ سنوات مبكرة في حياته السينمائية التي شملت 38 فيلماً ما بين 1950 و2007. ‬
نلحظ كذلك كم أن هذا المخرج الذي انطلق للعمل شاباً في السادسة والعشرين من العمر حافظ على استقلاليته الفكرية والفنية ومبادئه في صياغة الفيلم الذي يريد، حالما وقف على قدميه من بعد أفلام أولى تقليدية. ‬
هذه الأفلام التقليدية بدأت بفيلم «بابا أمين» (1950)، وشهدت «ابن النيل» (1951)، و«المهرج الكبير» (1952)، و«سيدة القطار» (1952)، و«نساء بلا رجال» (1953)، و«ودعت حبك» (1956)، من بين أخرى.‬
بعض هذه الأفلام كان ذا بصمة شاهينية واضحة، خصوصاً «سيدة القطار» و - لاحقاً - «صراع في الوادي» و«صراع في الميناء» (1954 و1956 على التوالي). لكن يوسف شاهين جديداً وُلد بالفعل سنة 1958 بفيلم «باب الحديد» الذي أدّى فيه دوراً رئيسياً كذلك أمام هند رستم وفريد شوقي.
بعد هذا الفيلم عمد شاهين إلى الأفلام التاريخية والموسيقية كما الدراما العاطفية، فحقق «الناصر صلاح الدين» (1963)، و«بيّاع الخواتم» (1964)، و«رجل في حياتي» (1961)، لكنه بعد خمس سنوات من «باب الحديد» عاد إلى الواجهة العالمية بأول فيلم من سلسلة سياسية تبحث في أوضاع الوطن عبر حقبات متعاقبة. هذا الفيلم كان «الأرض» (1969) الذي شحن فيه الأجواء بمشاهد استماتة الفلاح بأرضه تحت عبء الإقطاع الذي كان سائداً وقت أحداث الفيلم (قبل ثورة 1952). ‬
‬- صوب الذات وعكسها‬
هذا المد السياسي تابعه المخرج في «الاختيار» (1974)، وفي «عودة الابن الضال» (1976) وكلاهما جاء محمّلاً بالرمزيات الفاضحة لمشكلات المجتمع، بصرف النظر عن الفترة الزمنية التي يتناولها كل فيلم. ‬
وكان حقق سنة 1971 فيلم «العصفور» الذي نقل فيه الأحداث إلى الفترة التي سبقت وتبعت استقالة الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة عام 1967، وعودته عن تلك الاستقالة. فيلم «العصفور» بقدر ما كان مؤرِّخاً لتلك الفترة كان تحذيراً من نتائج ما حدث في فترة سادت فيها الأحلام الكبيرة على الرغم من خروج الناس إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم للهزيمة وللاستقالة معاً. هنا قال شاهين كلمته النقدية لعصر وعد وخاض وخرج من التجربة بآلام كبيرة. في الوقت ذاته، عكس ذلك المقدار من الوقوف إلى جانب الإنسان العادي الذي آثر الاستمرار في النهج السابق على أن يترك أحلامه تندثر بسبب أخطاء القيادة.‬
لم يُفهم «عودة الابن الضال» (1976) على هذا النحو لكنه احتوى ذلك النقد للأرضية بشقيها السلطوي والدنيوي. على أن هذا الفيلم لم ينل ما يستحقه من احتفاء نقدي بعد، رغم أنه احتوى على التمهيد اللازم لانتقال شاهين إلى كل تلك الأعمال المقبلة التي سادتها النزعة الذاتية. فهو يدور عن الذات والذات الأخرى... متلازمتان حتى التشابه الكلي ومتناقضتان في الاتجاه العاطفي والنفسي.‬
بعده قرر شاهين، سنة 1979، أن الوقت حان ليتكلم عن نفسه بوضوح أكثر، وهكذا وُلد «إسكندرية ليه»؟ و«حدوتة مصرية» (1982) و«الإسكندرية كمان وكمان» (1990) و«إسكندرية - نيويورك» (2004).‬
تخلل هذه الأفلام «الآخر» (1999)، و«سكوت حنصور» (2001)، وقبل ذلك «المهاجر» (1994)، و«المصير» (1997). لكن من العبث اعتبار أن كل هذه الأفلام كانت - فنيّاً - متساوية. ‬
كل ما سبق نسيج مكّن يوسف شاهين من تكوين صوته الخاص، لا في السينما المصرية والعربية فقط، بل في السينما العالمية. استخدم شاهين لغة مؤلفة من مفردات أجنبية ليتحدث عن شؤون مصرية، ومن بين هذه المفردات تحويل الاهتمام من الموضوع العام إلى الخاص ومنح أعماله الصفة الذاتية التي انتقدها عليه سينمائيون مصريون كثيرون، لكن الغرب فهمها وتجاوب معها.‬
ليس من الصدفة على الأرجح أن أسلوب شاهين في بعض أعماله في الثمانينات لا يبتعد كثيراً عن أسلوب المخرج المجري ميكلوش يانشو (1921 - 2014) في السمات الأساسية، خصوصاً لناحية تجاوز المحور الواحد واتباع سبل الإحاطة الشاملة بكاميرا دائمة الحركة، وبحوار لا يبدو مصرياً إلا بلهجته.‬
- أحد أسلوبين‬
التفاوت المشار إليه في أعمال المخرج ازداد في أفلامه الأخيرة. «هي فوضى» (آخر أفلامه وحققه بشراكة مع خالد يوسف) و«سكوت حنصور» (2001) و«الآخر» (1999) لا ترتفع إلى سدّة أفلام سابقة له. حتى «إسكندرية - نيويورك» لم يحفل بإخراج فذّ يجعله قريب المستوى من «حدوتة مصرية» أو «الإسكندرية ليه». ومع أن هذا أمر عرفه مخرجون آخرون قبله وبعده، فإن المسألة لدى شاهين ربما لها علاقة بتلك الذات فعلياً. لقد وجد المخرج نفسه وقد بات اسماً عالمياً، ولو أنه لم يزن مقدار هذه العالمية خارج إطارها الفرنسي. بالتالي، ترك لنفسه حرية أن يعكس ذاته في أي عمل يؤول إليه حتى وإن كان ضمن مجموعة أفلام «سبتمبر 11» حققها 11 مخرجاً من أنحاء العالم.
شاهين عمد إلى واحد من أسلوبين شاملين للتعامل مع الذات. أولهما أن يحيل المخرج ذاته لتعيش من خلال أفلامه. الثاني أن يحيل المخرج ذاته لتعيش من خلال أفلامه، وتسطو عليها أيضاً. وشاهين اختار الأسلوب الثاني.‬
قدرة المخرج البديعة ومستوى معظم أفلامه ليست بحاجة لمن يدافع عنها، فهي موجودة وحاضرة لتثبت أنه كان مخرجاً منفرداً بين سينمائيي العالم العربي. ولعل احتفاء «السينماتك فرنسيز» هو الذي يمكن اعتباره الأوفى والأشمل والأطول كذلك.‬


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».