أول راديو للأطفال الرضع في فرنسا يثير الإعجاب والاستهجان

آلاف المستمعين دون الثالثة من العمر

الرضيع يستمع إلى موسيقى مختارة بعناية
الرضيع يستمع إلى موسيقى مختارة بعناية
TT

أول راديو للأطفال الرضع في فرنسا يثير الإعجاب والاستهجان

الرضيع يستمع إلى موسيقى مختارة بعناية
الرضيع يستمع إلى موسيقى مختارة بعناية

ليس هناك عمر محدد لكي يكون المرء «متصلا» بتكنولوجيا العصر. لذلك فكر أب فرنسي في إطلاق أول إذاعة موجَّهة للأطفال، من لحظة الولادة وحتى سن الثالثة. ويمكن التقاط بث «راديو دودو» عبر الهواتف الذكية والألواح الرقمية والإنترنت.
وجاء في الإعلان الترويجي للإذاعة أنها مخصصة للموسيقى 100%. وليس هناك أفضليات محددة، بل يمكن لمستمعيها الصغار التعرف على السيمفونيات وموسيقى «البوب» أو «الجاز» على حد سواء. وخلال الأسابيع الأولى للبث، تمكن «راديو دودو» من استقطاب 5 آلاف طفل. ولعل من حسن حظ المستمعين الذين تتوجه لهم أن برامجها تخلو من الإعلانات.
صاحب الفكرة ممثل يبلغ من العمر 39 عاما ويدعى جوليان بوشيه. وهو يرى أن الآباء والأمهات سئموا من تلك العلب الموسيقية التي تُعلّق فوق مهود الأطفال ويمكن تدويرها لتكرر المعزوفة المحدودة نفسها بشكل بليد. هذا فضلا عن أنها نغمات صناعية تتباطأ مع نفاد بطارية الجهاز. أما الراديو الجديد فإنه يساهم في تنمية الذائقة الفنية للصغار منذ نعومة أظفارهم وأشهرهم الأولى في هذه الدنيا. وهو يقدم لهم أنواعا مختارة من الإيقاعات المرحة والمنبهة في أوقات محددة، كما يبث هدهدات وترنيمات تسعد الرضع على الإغفاء أو الاسترخاء، في مواعيد أخرى.
المشروع الذي ما زال يبحث عن تجميع لائحة عالمية من المختارات الموسيقية المناسبة للأطفال دون الثالثة، نجح حتى الآن في تحديد أنغام وأغنيات من النوع الذي يناسب الرضع ولا يستفز حساسيتهم. وهي مقطوعات تتميز بالنعومة والصفاء وتحرك المشاعر اللطيفة لدى الطفل. وقد استغرق الأمر من جوليان بوشيه 9 سنوات، هي عمر أكبر أولاده، لكي يتوصل إلى هذه المختارات التي تليق بأن تكون مادة لأول راديو للأطفال في فرنسا، يُبث 24 ساعة في اليوم، من دون ثرثرات أو فواصل كلامية.
ساهمت مواقع التواصل في تعريف الآباء والأمهات بالإذاعة الجديدة. وسرعان ما تجاوز عدد الداخلين على موقعها الإلكتروني عشرات الآلاف، يمكنهم الاختيار من بين ألف مقطوعة مدروسة بعناية لتناسب الآذان الصغيرة والحساسة، ثم جاءت الإجازة الصيفية والأسفار الطويلة المعتادة التي تقطعها العائلات بالسيارة، لكي ترفع نسبية المستمعين وتؤمن للصغار غفوات هانئة أثناء السياقة، أو أوقاتا من الهدوء التي تسمح للآباء بتركيز انتباههم على الطريق.
صاحب الفكرة كان أول المتفاجئين بنجاحها. وهو يقول إن سبب النجاح هو أن الراديو جاء ليلبي طلبا محددا، فقد جرت العادة أن يتعرف الصغار على الموسيقى في رياض الأطفال والمدارس، لكن أحدا لم يفكر بتهيئة مقطوعات للرضع وحديثي الولادة. وقد كان عليه أن يجرب مختاراته على عدد من دور الحضانة، وأن يطلب آراء مربين وأطباء نفسيين ومتخصصين في عالم الطفولة. وبفضل هذه التجارب والاستشارات وضع الراديو لائحته المتنوعة، مع مراعاة عدم المبالغة في العناوين، لأن الصغار يحبون، عادة، استعادة اللحن الذي يروق لهم وتكرار الإصغاء إليه. ويتولى مبرمجو الموقع تجديد لائحة المقطوعات والأغنيات كل شهر، مع التنبه إلى خلوها من الكلمات النابية.
يمكن لطفل في شهره السابع أن يتعرف على «البيتلز»، أو ديميس روسوس، أو ميراي ماثيو، أو سيلين ديون. وعلى غرار البالغين، فإن أذواق الصغار تختلف من طفل لآخر، كما أن ردود أفعال الآباء تلعب دورا في تحديد أذواقهم. وعلى العموم، فإنهم جميعا حساسون للنغم، ينتبهون إليه ويتأثرون به. ويؤكد مبرمج الراديو أن الطفل الرضيع لا يجيد التعبير بالكلام، لكنه يبدأ بالاهتزاز إلى الأمام وإلى الوراء عندما يعجبه لحن ما، أو يطلق حنجرته بالغمغمات المصاحبة للأغنية، أو يصفق بيديه.
تصل إلى موقع الراديو كثير من ردود الفعل المشجعة التي ترسلها الأمهات أو الجدات اللواتي يثنين على التجربة، أو يروين وقائع من تفاعل صغارهن معها. وهناك، إلى جانب الرسائل المشجعة، تعليقات سلبية، مثل ذلك التعليق الذي جاء فيه: «فكرة سخيفة أخرى.. متى تطلقون إذاعة للحيوانات المنزلية؟». أو التعليق الذي كتب صاحبه: «كل الوسائل مناسبة لتحصيل الأموال.. دعوا الأطفال بسلام».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)